في اليونان القديمة، وقبل سقراط كان الفيلسوف انكسماندرAnaximander يؤمن بمفهومه الخاص عن التطور؛ الحيوانات جاءت من أصل واحد كان يعيش في الماء و بعد خروجها للبر ظهرت الحيوانات وظهر الإنسان للوجود.

حاول انكسماندر أن يعطي حلا للتساؤل حول أصل الحيوانات فقدم حلّا قد يبدو أسطوريا بعض الشيء ولكنه و بعد قرابة الألفي عام صار مقبولا في الأوساط العلمية أن الحياة البحرية كانت الأصل للتنوع الموجود بين الكائنات على وجه الأرض.. فكيف إذن حدث ذلك؟

عقب دارون امتزجت نظرية التطور مع حقل آخر في علم الأحياء هو علم الوراثة ووجدت النظرية معطيات جديدة لتفسر كيفية ظهور الأنواع الجديدة إلى الوجود

اندثرت نظرية انكسماندر مع القرون الوسطى وتوقفت أفكار التطور ولم يتبنها إلا مجموعات قليلة متفرقة في العالمين الإسلامي والمسيحي.

ولكن مع النهضة والتنوير، عادت التساؤلات الفلسفية القديمة إلى الظهور في المجتمع الأوربي بشكل جديد أكثر علمية، وعادت معها أفكار التطور لتظهر في مؤلفات كل من العالم الفرنسي الكبير لاماركLamarck الذي قدم تصورا حول تطور الحياة من أصل واحد و ترقيها لتكون هذا التنوع الكبير بين الكائنات.

تابعه في ذلك إراسموز دارونErasmus Darwin، وهو جد العالم الإنجليزي الكبير تشارلز دارون Charles Darwin. إلى أن قام تشارلز برحلته الشهيرة على متن البيجل the Beagle ليجمع خلالها سجلا كبيرا من الأدلة المادية حول التطور ويصيغها في نظرية هي الأكثر إثارة للجدل في تاريخ العلم الحديث.

أما عقب دارون فقد امتزجت النظرية بشكل كبير جدا مع حقل آخر في علم الأحياء هو علم الوراثةGenetics، ووجدت النظرية أرضا صلبة مع المعطيات الجديدة لتفسر كيفية ظهور الأنواع الجديدة Speciation إلى الوجود.


كيف إذن يعمل التطور؟

على عكس المشهور فإن التطور لا يعني بالضرورة صعود الكائنات على سلم من الأدنى إلى الأعلى، بل إن كلمة السر تكمن في القدرة على التأقلم.

فليس الأفضل هو من يكتب له البقاء، بل الأنسب والأكثر توافقا مع الظروف الطبيعية التي وُجد فيها. وهذا الشكل من العلاقة بين الكائنات والطبيعة حولها يتم تمثيله على شكل شجرة تبدأ بجزع يمثل السلف المشترك الأولCommon ancestor والذي تشترك فيه الكائنات كلها ثم يتفرع الجزع لمجموعة من الفروع التي تتفرع بدورها لفروع أخرى تمثل العائلات والفصائل والأجناس المختلفة من الكائنات الحية.

ما تهتم به نظرية التطور في الأساس هو كيفية تحول ذلك السلف المشترك وحيد الخلية إلى الأنواع الأخرى الأكثر تعقيدا، وبعد ذلك تأتي دور الحقول الأخرى في علم الأحياء لتبني الكثير من أبحاثها على أطروحات نظرية التطور، ولذلك فسوف نركز على ألية ظهور هذا الكم الكبير من التنوع بين الأحياء على كوكب الأرض.

يتم تعريف نظرية التطور بعدة تعريفات فالبعض يذهب الى أن التطور هو التغيرات الجينية المتوارثة عبر الأجيال، والبعض الأخر يذهب لتعريف أكثر شمولية فيقول بأن التطور هو نمط وقدرة الكائن على تحقيق النجاح في تمرير جيناته بشكل عامreproductive success.

وبالتالي فالتطور لا يهتم بالكائن غير القادر على تمرير جيناته لأجيال لاحقة لأن صفاته سوف تنتهي مع انتهاء حياته، فعامل الوراثة مهم جدا لبقاء الفصائل.


آليات التطور:

(1) الطفرات الجينيةMutations :

(الطفرة الجينية)

الجينات الوراثيةGenes هي العامل الرئيسي الذي يُكسب كل كائن جميع صفاته التي يحملها. وتنتظم الجينات على شكل كروموسومات Chromosomes على الدنا DNA. أما الطفرة الجينية فهي تغير يحدث في هذه الجينات الوراثية، وتعمل على تغير في تركيبها لينعكس هذا التغير على صفات الكائن.

يتم اعتبار الطفرات نافعة أو ضارة أو محايدة على حسب تأثيرها على الكائن، فالنافعة تقدم صفة جديدة تساعد الكائن الحي، كمقاومة المضادات الحيوية في حالة البكتيريا مثلا، والضارة تؤدي لاختفاء صفة ضرورية لحياة الكائن. فعلى سبيل المثال، في دراسة تمت على حشرة الدروسوفيلاDrosophila Melanogaster كانت مجموعة الطفرات الضارة تقارب 70 % من مجمل الطفرات، أما الباقية فبين المحايدة والنافعة.

(2) الهجرة الجينية Gene flow – Migration:

(الهجرة الجينية)

بعض المجموعاتpopulations تعيش منفصلة وتمتلك صفات مختلفة، ولكن عندما يهاجر بعض الأفراد من مجموعة أ إلى مجموعة أخرى ب، تبدأ الصفات المهاجرة في الظهور في المجموعة ب، وهو ما يمثل شكلا من أشكال التطور، حيث يتم توارث الصفات الجديدة لتمثل جزءا من الصفات الأساسية للمجموعة ب.

الهجرة لا تتم عن طريق الكائنات الواعية فقط بل من الممكن أن تتم عن طريق حركة الجينات نفسها بين الفصائل المختلفة من البكتيريا لتكتسب مقاومة ضد بعض أنواع المضادات الحيوية.

(3) الانحراف الجيني Genetic drift:

(الانحراف الجيني)

تتغير الجينات السائدة في مجموعة ما حسب هذه الآلية عن طريق عشوائي تماما بدون أي طفرات. فمن الممكن أن تفقد فصيلة معينة بعض الجينات أو الصفات بمحض صدفة تقع عند التزاوج. ففي المثال الآتي نجد أن نسبة اللون الأخضر في جيل الآباء تبلغ 75 % واللون البني 25 % وبشكل عشوائي بحت قلت النسبة في جيل الأبناء لـ 71 % في مقابل 29 % للون البني.

الصف الأول يمثل تزاوج خنفسة تحمل جينات اللون الأخضر ولا تحمل اللون البني، مع أخرى تحمل جينات اللون البني بشكل سائد ولذلك فهي بنية اللون، وجينات اللون الأخضر بشكل متنح ولذلك لا يظهر عليها اللون. وعند التزاوج بمحض الصدفة تنتج خنافس ثلاثة بنية وواحدة خضراء.

الصف الأوسط يعبر عن تزاوج خنفستين تحملان اللون الأخضر بشكل سائد ولا تحملان أي جينات للون البني، وبالتالي فجيل الأبناء أيضا لن يرث أي جين يمثل اللون البني.

أما الصف الأخير ففيه تزاوج خنفستين بنيتين تحملان صفة اللون الأخضر بشكل متنح وينتج ثلاثة خنافس بنية في جيل الأبناء في مقابل واحدة خضراء اللون.

(4) الاصطفاء الطبيعي Natural selection:

المايسترو في عملية التطور، وهو أبرز الآليات التي ظهرت مع ثورة دارون في كتاب أصل الأنواع. فالتنوع الناتج عن كل التغيرات التي تحدث في الجينات بالآليات التي تناولناها ليست هي المحدد النهائي للتطور الحادث، بل كما قلنا من قبل لا بد من أن يكون الكائن الجديد مناسبا للبيئة وقادرا على التغلب على الظروف التي تشكل خطرا عليه لأنه يكون جزءا من النظام البيئيEcosystem.

فكل الضغوط الطبيعية من الكوارث والأمراض والحيوانات المفترسة وغيرها تشكل عقبات هامة أمام المنتج الجديد الذي تكونه الجينات الجديدة، فلا نفع على سبيل المثال لطفرة وراثية تنتج حيوانا ملفتا لنظر الحيوانات المفترسة حتى وإن كانت تكسبه جمالا خاصا، فالكائن الأنسب هنا يحتاج لأن يكون قادرا على الإفلات من المفترسين وبالتالي فالاصطفاء الطبيعي سيعمل ضد الحيوان الملفت لنظر الحيوانات المفترسة، وفي صالح الحيوان القادر على المناورة و الهرب.

ينقسم الاصطفاء الطبيعي إلى العديد من الأنواع، منها ما تعمل فيه المتطلبات الطبيعية على تفضيل صفة معينة كالطول مثلا على مر الوقت، وتندثر الحيوانات المتوسطة والقصيرة، ومنها ما تعمل فيه المتطلبات على تفضيل الأوضاع المتعاكسة كأن يفضل الحيوانات الطويلة والقصيرة وتندثر المتوسطة، ومنها ما يعمل على القضاء على الصفات المتضادة فيقضي على الحيوانات الطويلة والقصيرة ويعمل في صالح المتوسطة الطول، وكل هذا حسب طبيعة البيئة.

هناك نوع هام آخر من أنواع الاصطفاء الطبيعي وهو الاصطفاء الجنسيSexual selection، ويلعب دورا هاما في ظهور صفات جديدة و لكنها ملفتة للجنس الآخر هذه المرة.

المثال الأشهر على الاصطفاء الجنسي هو المثال الذي طرحه دارون نفسه في كتاب أصل الأنواع عن ذيل الطاووس، فالذيل يبدو جميلا وأنيقا جدا وهو شيء ملفت للحيوانات المفترسة، ولكن الطاووس بقي و تم اصطفاؤه طبيعيا، وهو ما جعل دارون يذهب لفكرة الاصطفاء الجنسي حيث قامت إناث الطاووس بتفضيل الذكور الأكثر إثارة وجمالا من أجل التزاوج، فحتى لو تعرضت الذكور للخطر فنسبة لا بأس منها ستتمكن من جذب الإناث والتزاوج والحفاظ على النوع.

يذهب بعض الباحثين لفرضية تسمى فرضية الابن الجذّابSexy son hypothesis، وفيها يفترض الباحثون أن الأنثى تبحث عن الجمال وهو ما ينتج عنه نسل أجمل، وبعض الفرضيات الأخرى تفترض بحث الأنثى عن الجمال لأنه عكس المرض، وغيرها من الأسباب. لكن يبقى في النهاية دور العامل الجنسي مؤثرا في اصطفاء الكثير من الصفات الجمالية في الكائنات الحية.


ماذا ينتج من التطور؟

(1) التكيف:

أبرز نتائج عملية التطور هو ظهور كائنات أكثر قدرة على التأقلم مع البيئة المحيطة بها، فـ بكتيرياE.coli تطور مثلا قدرة على التكيف مع حمض الستريك Citric acid، أو أسنان الحصان المتكيفة مع أكل الأعشاب.

(2) التطور المتبادل Co evolution:

الصراع والتطور وجهان لعملة واحدة في هذا النوع من نتائج التطور، فالعلاقة بين الحيوان المفترس وفريسته أكثر تعقيدا مما نتصور. فيكفي أن تتطور صفات أحدهما حتى يتطور الآخر لمحاولة مجاراته أو الهروب منه. فعيون الصقر الحادة وجناحه القوي تطورا ليستطيع الإمساك بالأرنب على سبيل المثال. ولكن الأرنب بدوره طوّر عينا تقع على جانب الرأس وليس المنتصف ليتثنى له رؤية أوضح بزوايا أكبر ليستطيع تفادي الافتراس.

(3) ظهور فصائل جديدة speciation والانقراض Extinction:

ينقسم الاصطفاء الطبيعي إلى عدة أنواع، منها ما تعمل فيه المتطلبات الطبيعية على تفضيل صفة معينة، ومنها ما تعمل فيه على تفضيل الأوضاع المتعاكسة

تظهر العديد من الفصائل في الطبيعة نتيجة التطور مما يزيد من التنوع والاختلاف في النظام البيئي، في حين تنقرض فصائل أخرى بالكامل حينما تفشل في مواجهة الضغوط الطبيعية الموجهة ضدها.

المراجع
  1. Prevalence of positive selection among nearly neutral amino acid replacements in Drosophila
  2. Evolution
  3. Historical contingency and the evolution of a key innovation in an experimental population of Escherichia coli
  4. Charles Darwin: The Descent of Man and Selection in Relation to Sex
  5. Thomas N. Sherratt and David M. Wilkinson: Big Questions in Ecology and Evolution
  6. 1. The Nature of Evolution: Selection, Inheritance, and History