يورو 2016: فاتح تُريم، إمبراطور تركيا من جديد
لا يحظي تاريخ تركيا الكرَوي سوي بثلاث إنجازات كبري، كان آخرها بقيادة المدير الفني التركي فاتح تُريم أو، «الإمبراطور» كما يلقِّبه البعض، خلال بطولة يورو 2008 بالنمسا وسويسرا. حين قدَّم لاعبوه أداءً مبهرًا منحهم الصعود لنصف النهائي.
اليوم تستعد تركيا لخوض تجربة جديدة في أرض جديدة، تنال توقعات متباينة بين التألق والإخفاق. في هذا المقال نحاول رصد أوجه التشابه والاختلاف بين تجربة فاتح الأوروبية في 2008، وبين توقُّعات تجربته في 2016 تحت ضوء ما يمتلك من إمكانيات فنية.
يورو 2008: بدايةٌ مبهمةٌ ونهايةٌ مبهرةٌ
الطريق إلي البطولة لم يكن ممهَّدًا إذ كان قطاع لا يستهان به من الرأي العام رافضًا لترشيح «الإمبراطور» لقيادة الأتراك، بعد تورطه في أعمال عنفٍ وتحريضٍ عقب الإخفاق في الوصول لكأس العالم 2006 أمام منتخب سويسرا. حسم هذا الجدال رئيس اتحاد الكرة التركي وقتئذٍ «هولك أولسوي» خلال مؤتمر صحفي، عبَّر فيه عن دعمه الكامل لــ «تُريم» وثقته في إمكانياته.
عكف بعدها تُريم علي تشكيل جهازه الفنيّ. فعيَّن «سكوت بري»، مدرِّب اللياقة البدنية الأمريكي، الذي بدا أثره واضحًا طوال جولات البطولة. كما جدَّد الثِّقة في لاعبين مخضرمين كالحارس «روستو»، والظهير «حميد ألتينتوب»، ولاعب وسط الملعب «تونجاي» بجوار «إيمري»، والمهاجم «نهاد». في الوقت الذي استدعي فيه عناصر شابة واعدة مثل «كاظم كاظم»، والمهاجم «سميح سنتورك»، ولاعب الطرف «أردا توران»، الذي حصل قبل البطولة بعام علي لقب أفضل لاعب شاب بالدوري التركي.
أسلوب اللعب والتشكيل
اختار «الإمبراطور» أسلوب لعب 4-3-2-1 أو مشتقَّاتها. ونجح في تطوير أداء لاعبيه حتي أصبحت البطولة هي العلامة الأبرز في تاريخ جيل كامل منهم. فاستطاع تشكيل فريق متماسك ومترابط في خطوطه. وساعده في ذلك تنوُّع قدرات اللاعبين والانسجام فيما بينهم بسبب اللعب لفترات طويلة سويًا.
كما اعتمد المدرب التركي حينها علي النقل المنظم والسريع للكرة. واختار اللعب الهجومي. فكان له أن يستغل إمكانيات لاعبي وسط الملعب مثل «محمد توبال»، واللاعب «تونجاي»، وكذلك «أوريلو في القدرة علي الارتداد الهجومي والوصول السريع بالكرة، وتقديم الدعم للظهيرين؛ ألتينتوب وبالتا أو صبري ساري». بحيث مكَّنهم من الانطلاق وصناعة جبهات بالاشتراك مع «توران» و«كاظم». وامتلك حينها المنتخب أحد أفضل مهاجمي البطولة في التمركز داخل منطقة الجزاء والتعامل مع العرضيَّات والكرات المشتركة مثل «سميح» و«نهاد». كما أدَّى تقدُّم «توران» و«كاظم» داخل منطقة الجزاء، واقتراب لاعبي نصف الملعب منهم، إلى زيادة الفاعلية الهجومية.
علي المستوي الدفاعي اختار «الإمبراطور» تكتيك الضغط العالي علي الخصم الذي يبدأ منذ بناء الخِصم الهجمة ومحاولة التكتُّل في وسط الملعب محاولًا استخلاص الكرة قبل التوغُّل في قلب الملعب والوصول لمنطقة الجزاء.
مزايا وعيوب
ارتكزت مزايا الأتراك حينها علي ميزتين أساسيتين: «التحضير السريع» مع التقارب في الخطوط و«القدرات البدنية المذهلة»، والتي كانت السبب الرئيسي في حفاظ اللاعبين علي تركيزهم والقدرة علي مجاراة الخصم حتي الثواني الأخيرة. يعكس لنا ذلك قدرة الفريق علي العودة لأجواء المباراة وقلب الطاولة علي الخصم سريعًا. كما ساهم الانسجام بين اللاعبين في سلاسة انتقال الأدوار بين لاعبي وسط الملعب بالتحديد بدون إحداث ثغرات كبري.
وفي المقابل عانت تركيا بشدة من سوء تمركز مدافعيها ورقابة لمهاجمي الخصم. وسوء وتأخر تغطية الظهيرين العكسية أثناء الكرات العرضية، إذ استقبل مرماهم تسعة أهداف خلال خمس جولات، وكانت أغلبهم من كرات عرضية استغلها المهاجمون.
المنتخب التركي خطير عندما يمتلك الكرة والمساحات وأثناء العرضيات. لكنه ضعيف عندما يفقد الكرة وقت بناء الهجمة وفي التعامل مع الكرات العكسية.
إنجاز ملحمي مستحَق
خاض الأتراك جولات المجموعة الأولي، فخسروا من البرتغال 0/2 وثأروا من سويسرا بنتيجة 2/1، ثم حققوا واحدة من أعظم المباريات من حيث العودة وقلب النتيجة من الخسارة بهدفين إلي فوز بثلاثة أهداف أمام جمهورية التشيك. سجَّل خلال تلك المباريات توران وسميح ونهاد. واستقبل الفريق 5 أهداف. وحلَّت تركيا ثانية في مجموعتها، وتأهلت مع “البرتغال” للدور الثاني. وقُدِّر للأتراك أن يدخلوا في مواجهة صعبة أمام كرواتيا التي عاشت حالة منتعشة خلال دور المجموعات بفوزها علي “ألمانيا” مع المدرب الطموح «سلفان بيليتش».
بعد مباراة نجح فيها الأتراك مرة أخري في قلب نتيجتها من الهزيمة إلي التعادل في اللحظات الأخيرة عن طريق هدف جميل للمهاجم سميح، اضُطر الفريقان إلى التوجه نحو ضربات الترجيح، والتي تغلب فيها الحارس «روستو» ولاعبو فريقه علي خصم قدَّم بطولة جيدة. وللمرة الأولي في تاريخ الجمهورية التركية، يصعد فريقها للدور نصف النهائي مع الأربعة الكبار. وتواجه ألمانيا، أحد أبرز المرشحين للفوز بالبطولة. مباراة شهدت علي استمرار تقدم الأتراك واللعب من أجل الفوز والتسجيل حتي أنهم افتتحوا باب التسجيل، لكن كلوزه و فيليب لام أنهوا المباراة لصالح المانشافت بنتيجة 3/2.
أسلوب وشكل التدريب هو اختيار خاص للمدرب . وقد اختار فاتح أن يقف لمدة تسعين دقيقة علي خط الملعب يوجِّه لاعبيه باستمرار وبعصبية شديدة. يتفاعل مع الفرصة ويرفض القرار التحكيمي ويطلب من الجماهير المساندة ويضخ الروح والحماس باستمرار في لاعبيه. اختار الطموح الهجومي ولم ترهبه الأسماء، ودافع بصدق عن مهامه ونال مودة وتقدير جمهور تركيا الذين صنفوه كأحد أفضل المدربين في تاريخهم إلي الأبد. الإمبراطور عاش ملحمته الخاصة كلها في 2008!
يورو 2016: البعث من جديد
انتهت ملحمة 2008، فدخل منتخب الأتراك نفقًا مظلمًا بعد رحيل تُريم عام 2009.
تخبَّط الفريق بين تبديل مدربين لم يستطيعوا الصعود بالفريق لأي محطة أوربية أو عالمية، وبسبب غياب ورحيل العناصر الأساسية للفريق غابت ميزة الانسجام، وغابت تركيا عن يورو 2012 وكأس عالم 2010 و2014. بينما عاد فاتح للتدريب في 2011 لفريقه «جالطاسراي» مرة أخري.
في قرار لم يكن مفاجئ لكثيرين، طلب الاتحاد التركي من تُريم العودة للمرة الثالثة لقيادة المنتخب ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وهو ما شكَّل ضغطًا عاطفيًا علي المدرب المحضرم. فكان قراره المبدأي هو الموافقة علي قيادة الحمر مع مواصلة تدريب «جالطاسراي» بالتوازي. لكن إدارة الأخير كانت قد تحفظت علي طلب مديرها الفني وخيرته أولًا بين الفريقين، إلي أن قرر هو الرحيل وتفضيل كفة المنتخب.
عاد تريم في ظروف صعبة من سوء النتائج، وتذبذب مستوي لاعبيه، وأجواء ضاغطة من جماهير وجدت في عودة الإمبراطور طوق نجاة وبعث من جديد للمنافسة في البطولات الأوربية. وقد ساعد تواجد تريم في الدوري التركي علي متابعة وتقييم أكبر قدر من اللاعبين. كما أنه يمتلك علاقة جيدة وتقدير من أغلب الأندية التركية تؤهله لطلب التعاون المستمر.
القرعة أوقعت تركيا في مجموعة يعتقد الكثيرون أنها مجموعة الموت وتضم منتخبات أسبانيا، وكرواتيا، والتشيك.
أسلوب اللعب والتشكيل
خاض الفريق تصفيات التأهل لليورو بالمجموعة الرابعة التي ضمت منتخبات التشيك وأيسلندا وهولندا ولاتفيا إلي جانب كازاخستان. وقدم الفريق خلال بداية التصفيات أداءً باهتًا فخسر من التشيك وأيسلندا، وتعادل مع لاتفيا. ولكن سرعان ما أوقف الفريق نزيف النقاط فانتصر على هولندا، وواصل تقديم أداءً طيبًا. ولكنه كان قد فقد صدارة ووصافة المجموعة، مما جعل أمله الوحيد في التأهل كأفضل ثالث بين المجموعات. وهو ما تم بالفعل.
حرص تُريم علي إحداث توازن نوعي في اختياراته، فضم لاعبين أصحاب خبرة دولية مثل فولكان ديميرل، ومحمد توبال، وبالتا، وبراق يلماز، وأردا توران، وألتينتوب الذي اعتزل دوليًا. كما ضم لاعبين صاعدين كمثل هاكان أوغلو، ومحمد دمير، وأوزان توفان، وجوكهان توري، وأوزيعقوب.
خلال التصفيات بدا أن الإمبراطور سيواصل اللعب بخطته 4-2-3-1 أو بمشتقاتها، الصورة التالية توضح توقعات لتشكيل الأتراك خلال البطولة.
التشكيل المتوقع للمنتخب التركي – يورو 2016
التشكيل المتوقع يبرز اهتمامًا بسرعات لاعبي الثُّلث الأخير وقدرتهم علي الارتداد الهجومي السريع بالاستناد علي اثنين من أفضل لاعبي تركيا حاليًا في نصف الملعب.
مزايا وعيوب
عاد الإمبراطور مرة أخري لاستدعاء سكوت بري مدرب اللياقة البدنية للانضمام لجهازه الفني. وقد ظهر الرجل خلال معسكر المنتخب الأخير ويبدو أنه سيعمل خلال الفترة القادمة علي تحسين الأداء البدني للاعبيه. وهناك 5 لاعبين أساسيين يمثلون مفاتيح لعب هامة في المنتخب كانوا قد ظهروا مع فرقهم بشكل طيب عبر السنوات القليلة الماضية مثل أوزيعقوب، أردا توران، فولكان تشين والظهير كانر وأخيرًا هاكان أوغلو المحترف ببايرن ليفركوزن، وهو من أفضل اللاعبين الحاليين تسديدًا للكرات الثابتة.
أخيرًا .. الأجواء العامة في تركيا قد تُمثِّل دافعًا هامًا لهذا الجيل من اللاعبين لتكرار الإنجاز، كما يشاع في أوساط صحفية أن كل من تونجاي وتومر، لاعبا تركيا خلال 2008، سوف ينضمَّان للجهاز الفني للفريق بعد أن ظهرا مع تريم في أكثر من مناسبة واجتماعهم أكثر من مرة باللاعبين. بالإضافة إلي النجم نهاد قهوجي بهدف نقل تجربتهم وخبراتهم عن أجواء المنافسة الأوربية.
ولكن .. أسماء اللاعبين الحاليين هي، بدون شك، أقل من الناحية الفنية من تلك التي كانت موجودة قبل ثماني سنوات. فالأغلبية إما لاعبين شبان ويتلمسون خطواتهم الأولي في بطولة هامة كتلك، أو آخرون أصحاب خبرة لكنهم ابتعدوا لفترة طويلة عن المنافسات. ونقاط الضغف الأبرز قد تتمثل في عدم وجود بدلاء جيدين في مراكز قلوب الدفاع بالإضافة إلي التخوف من مستوي الأساسين، الأمر نفسه يتعقد بشكل أكبر في مركز رأس الحربة فلا يوجد بديل جيد. خاصة إذا لم يستطيع المهاجم «براق» أن يتعافى تمامًا من الإصابة.
أسرت تجربة تركيا في يورو 2008 قلوب عدد واسع من جمهور الكرة. وحظي هذا الفريق باهتمام وتقدير إعلامي وجماهيري داخل وخارج تركيا. واليوم تنتظر تريم مواجهات صعبة تبدأ بملاقاة كرواتيا ثم الأسبان وأخيرًا التشيك أيام 12 و 17 و21 يونيو. إنه تحدٍ صعب لـ«الإمبراطور» وقياسًا حقيقيًا لقدرته علي استمرار صناعة النجوم وقيادة المباريات وكتابة التاريخ.