يورو 2016: التجربة الأيسلندية، التسلل إلى المجد
لو كان لنا فرصة التفكير عن علاقة أيسلندا بكرة القدم قبل عامين، لما خرجت إجابات أغلبنا عن اسم اللاعب الأبرز في تاريخهم «إديور جودينسون» مهاجم تشيلسي وبرشلونة السابق. هذه الإجابة قُدِّر أن يُضاف لها امتدادًا جديدًا نشهد خلال يورو 2016 أكثر جوانبه إشراقًا علي الإطلاق.
ما أنجزه منتخب جزيرة أيسلندا لا يوصف بأقل من طفرة ولا يستثني من تجارب تطوير المنتخبات الصغيرة، خصوصًا وأن البلد لا يمتلك لاعبًا استثنائيًا أو دعمًا ماليًا خُرافيًا. حتى أن التوجه الحكومي ذاته كان يميل قبل ذلك إلي الاهتمام بمنتخب كرة اليد الحاصل علي فضية أولمبياد بكين 2008. وإشارة الرئيس «أولفار جريمسون» إلي دعم لعبة اليد بعد تكريم استثنائي للاعبي المنتخب.
تأهلت الجزيرة التي يسكنها ما يقارب 350 ألف شخص فقط ليورو 2016 للمرة الأولي لتصبح البلد الأصغر الذي يحالفه حظ التأهل. وكان لها أن تحقق مفاجآت كبري كان آخرها إقصاء الإنجليز والصعود لدور الـ 8. لم تكن تلك المفاجآت وليدة الصدفة أبدًا. بل ثمار سنوات طوال من المثابرة والعمل المبني علي التخطيط الأكاديمي بجانب تراكم الخبرات والالتزام الصارم.
يسعي ذلك التقرير إلي تسليط الضوء علي أهم محطات تجربة أيسلندا التي أهلتها إلى اقتسام لقب «الحصان الأسود» بالبطولة مع منتخب ويلز عن جدارة واستحقاق.
البداية: تحولات جذرية
لعبت الظروف المناخية دورًا بارزًا في إقامة الدوري الأيسلندي بين شهري مارس وسبتمبر من العام علي أن تقتصر فترة الإعداد خلال ستة أشهر متبقية علي اللياقة البدنية. مثَّل ذلك معضلة لللعبة هناك؛ فالجو شتوي يصعب معه التدريب علي الملاعب المتاحة مع عدم استغلال فترة الإعداد الطويلة لتنمية القدرات الفنية للأندية. ثم جاء قرار تعيين الشاب الأيسلندي المجتهد «سيجي إيجولفسون» مديرًا فنيًا للاتحاد الأيسلندي عام 2002، فكان بداية لحل تلك المعضلة وبدء مشروع وتجربة كروية نشهد نتائجها هذه الأيام.
قام الاتحاد الأيسلندي بداية بإنشاء 20 ملعبًا من النجيل الصناعي و130 ملعبًا صغيرًا بالمدارس و6 ملاعب كبيرة مغطاة بأماكن متفرقة. منحت الملاعب الفرصة للأندية لتدريب مكثف خلال فترات الإعداد، كما دفعت قطاعًا كبيرًا من شباب الجنسين علي ممارسة كرة القدم. وهو الأمر الذي استغلته مختلف الأندية بفتح باب الاختبارات الدورية لمن هم دون الثامنة عشر.
بالتوازي، شرع «سيجي إيجولفسون» في إنشاء برنامج «التطوير التدريبي»، وهو يشبه البرامج المتاحة من اليويفا للرخصة التدريبية A أو B. أُتيح هذا البرنامج بأقل تكلفة ممكنة للجميع، فأقبل عليه عددًا هائلًا، بحيث تضاعف عدد المشاركين من 70 إلي أكثر من 700 مشارك. وتنوَّعت المحاضرات بالبرنامج من 3 إلي أكثر من 20 محاضرة. كما أقنع «سيجي» الاتحاد بالموافقة على احتراف الناشئين لخوض غمار المنافسة في دوريات أقوي.
الدنمارك 2011
يقول موقع الاتحاد الأيسلندي أن أكثر من 195 مدربًا قد حصلوا علي الرخصة التدريبية A. بينما حصل 639 آخرون علي الرخصة B خلال عام 2015. التحول الرقمي الهائل المبني علي تراكم التجربة والعمل الدؤوب قُدِر للجارة الدنمارك أن تشهد أولى ثماره بعد نجاح منتخب تحت 21 عام للتأهل للمرة الأولى لبطولة يورو الشباب 2011 بقيادة المدرب «سفيرسون» الذي شارك في البرنامج التأهيلي للمدربين. وأوكلت له مهمة قيادة الشباب. لكن قرعة اليورو لم تنصف أيسلندا بعد أن أوقعتهم مع سويسرا والدنمارك وبيلاروسيا. فخسر سفيرسون فرص التأهل بعد أن نجح في الفوز علي الدنمارك فقط.
ولكن أهمية البطولة تأتي من أنها قدَّمت جيلاً من اللاعبين استطاع المنتخب الأول الاعتماد عليهم لاحقًا، مثل جيلفي سجوردسون، أرون جونورسون، فينبوجسان. كما منحت «أولاد الصالات المغطاة»، كما أسمتهم الصحافة، جراءة المنافسة.
السويدي وطبيب الأسنان
انتهت علاقة المدرب «لارس لاجربك» بمنتخبه السويدي بعد عشر أعوام بسبب الإخفاق في التأهل لكأس عالم 2010. وسبق ذلك تجربته مع نيجيريا والتي لم تستمر إلا لشهور لحسن حظ الأيسلنديين. حيث استغل ذلك الاتحاد الأيسلندي وأنجز معه المفاوضات وأصبح السويدي مديرًا فنيًا للفريق الأزرق أواخر 2011.
كان توقيت التعاقد مثاليًا، إذ كانت تجربة الشباب لا تزال حاضرة ،وبالتعاقد مع مدرب صاحب اسم كبير قاد السويد لبطولات كبري، بدا بأن حلم التأهل قريبًا لذلك ارتفعت وتيرة المساندة الجماهيرية. ضم جهاز أيسلندا «هيمر هالجيرمسون»، المدرب الذي عني به برنامج التأهيل والمتابعة أثناء قيادته لفريق IBV أهم فرق أيسلندا، وأظهر كثيرًا من الاجتهاد والتطور، فكان بمثابة أعين لاجربك بفضل خبراته المحلية وعلاقته مع اللاعبين. الانسجام بين السويدي والأيسلندي، الذي امتهن طب الأسنان أيضًا، منح المنتخب استقرارا فنيًا.
تابع جهاز أيسلندا الإعداد وصولًا لتصفيات كأس عالم 2014. وظهرت ملامح التشكيل والأداء الجماعي. ثم جاءت قرعة التصفيات لتضع أيسلندا في مواجهة سويسرا،ألبانيا،سلوفينيا،قبرص والنرويج، وكانت المفاجأة المدوية عندما حلَّت ثانية قبل سلوفينيا مما منحها فرص كبري في التأهل لكأس العالم. لكنها خسرت المباراة الفاصلة أمام منتخب كرواتيا التي تمتلك مودريتش وراكي ومانذوكيتش علي الأقل، وضاعت الفرصة علي الأيسلنديين. لكن الأمل تجدد، فكانت فرنسا من يستقبلهم لا البرازيل، وارتفع رصيد السويدي حتي لقبوه بالبطل.
يورو 2016: تحديان وإنجاز وفضيحة
جونلاجسون، لاعب سابق
تأبي القرعة مجاملة الجزيرة في التصفيات المؤهلة لليورو، فتضعهم في صدام مع هولندا، التشيك، تركيا، كازاخستان، لاتفيا. تجاوزت أيسلندا التحدي الأول بنجاحها في التأهل مع التشيك وتركيا، عندها بدا بأن فريق أيسلندا لم يعد كما يعرفه العالم. لم يعد فريقًا يكتفي فقط بالمشاركة في التصفيات، لكنه فريق يمتلك لاعبين خاضوا تجارب تدريبية مكثفة عبر سنوات تحت إدارة مدرب له سجل محترم مثل لاجربك وآخر يعرف التطور الذي أنجزته التحضيرات مع لاعبيه تمام المعرفة مثل هالجيرمسون.
عند تأهلهم لليورو ظن كثيرون أن أيسلندا ستكون ضيف شرف مجموعة البرتغال والنمسا والمجر، إذ أن التاريخ وفروق الإمكانيات وفرص التأهل تستثني الجزيرة من التوقعات. لذا كان علي لاجربك التعامل بواقعية مع حدود إمكانياته واستغلال الفرص خصوصًا في التعادل مع البرتغال والفوز علي النمسا مما أهلها لاحتلال المركز الثاني وضمان التأهل وهو ما كان يعد إنجازًا استثنائيًا قُدِّر لفصوله أن تستمر بمواجهة إنجلترا في دور الـ 16.
برغم الأداء الباهت لمنتخب إنجلترا في دور المجموعات، إلا أن الأغلبية توقعت تأهلها بسهولة علي أيسلندا. وربما بدأ البعض يتأمل شكل المواجهة التالية مع فرنسا، إلا أن لاجربك حقق فوزًا تاريخيًا بنتيجة 2/1 مستغلاً أخطاء هارت والدفاع الإنجليزي. كانت النتيجة محل استغراب للصحافة التي رأتها كفضيحة كبري.
الفرص وأسلوب اللعب: رد الاعتبار لـ 4-4-2
كما لعبت اليونان يورو 2004، استقر لاجربك وهالجيرمسون علي طريقة لعب 4-4-2 واعتمدا علي التزام اللاعبين بالأدوار الدفاعية وقت امتلاك الخصم الكرة، خصوصًا وأنهما لا يسعيان أبدًا للاستحواذ.
فإن مهاجمي الفريق يبدأون في الضغط أثناء تحضير الخصم الهجمة وربما التراجع إلي نصف الملعب في الوقت الذي يسعي فيه لاعبي نصف الملعب إلي سد الثغرات واستخلاص الكرة قبل الثلث الأخير.
لاعبا نصف الملعب جيلفي سجوردسون وأنون جونارسون هما أفضل لاعبين ويمثلان مركز الثقل، فإنهما من يوجه الفريق إلي شغل المساحات وهما أفضل من يضغط ويستخلص من حامل الكرة، يتميز الأول بالتحكم في إيقاع فريقه فيما يتميز الثاني بالقدرة علي القيادة.
حارس المرمي هالدرسون هو الآخر يقوم بأداء بطولة جيدة كتمركز ورد فعل وقدرة علي التعامل مع التصويبات. أما هجوميًا فإن الفريق يعتمد علي ثنائي نصف الملعب في بناء الهجمة السريعة والمرتدة واللعب خلف خطوط الدفاع للأطراف المتحركين جودموندسون، وبالأخص بيارناسون الذي يجيد الالتحامات والانطلاقات السريعة واللعب مع المهاجم سيجبورسون الذي يمتد دوره كمحطة هامة للأطراف كما يجيد التمركز داخل الـ 18 خصوصًا في الكور الطولية.
يمثل سجوردسون حلًا هجوميًا بفضل تسديداته واقترابه من خط الـ 18 أثناء انطلاقات الأطراف. ووجود جوديونسون علي دكة البدلاء يضيف ثقلًا هجوميًا بفضل خبرته وإجادته التعامل مع العرضيات. كما أن خطة 4-4-2 تتحول بسلاسة إلي 4-2-3-1 عند نزول أحد المهاجمين إلي قبل منطقة الجزاء للمساندة في بناء الهجمة وخلق مساحة للأطراف بتمويه المدافع المسَّاك. أيسلندا لا تسعى لامتلاك الكرة أو لتسجيل أهداف كثيرة بل تسعي لاستغلال الهفوات والثغرات خصوصًا لو يواجه الخصم مشاكل في الاختراق وضرب التكتلات الدفاعية.
مباراة الفريق القادمة مع فرنسا التي واجهت مشاكل في التحضير للهجمة ولجأت للتسديدات من حدود الـ 18 والعرضيات أحيانًا، كما تواجه مشاكل في الخط الدفاعي من سوء تمركز أو تأخر ردود فعل الباكات. ميزة عظيمة أيضًا لأيسلندا هي غياب نجولو كانتي نجم ارتكاز فرنسا الذي أدي بشكل جيد بسبب حصوله علي إنذارين ويتوقع مشاركة كاباي مكانه.
لا نتوقع مغامرة أيسلندية بل مزيدًا من الحذر واستغلالٍ للفرص والتركيز علي إرباك مفاتيح لعب الخصم: بوجبا وبايه وكومان والمهاجمين جريزمان ومارسيال. مجرد التأهل لدور الـ 8 هو إنجاز تاريخي لهذا الجيل لذلك سيدخل الفريق مباراة 3 يوليو بأعصاب غير متوترة. فهل تستمر فصول حكاية إنجاز الفريق الأزرق؟!
في تأمل إنجاز أيسلندا
الخلاصة في تجربة أيسلندا هي إرادة تطوير كرة القدم، فكان الاهتمام بإعداد جيل من المدربين الشباب الوطنيين عن طريق برنامج مُعدُّ بعناية مع الاعتناء بأجيال الناشئين ومتابعة التطور وحالة الانسجام فيما بينهم وتذليل العقبات،الالتزام الصارم بالأدوار واللعب الجماعي المبني علي نبذ نجومية زائفة كما كان التعاقد مع مدرب كبير إضافة للتجربة التراكمية وليس إلغاء لمجهود سنوات طويلة، كما كان للمساندة الجماهيرية دور لا يستهان به، فيكفي القول أن الجمهور الأيسلندي يحتل المراتب الأولى في متابعة منتخبه والزحف خلفه إلي فرنسا.
العديد من بلادنا تمتلك أضعاف الإمكانيات البشرية والمادية لأيسلندا، المشكلة دائمًا تكون في عدم وضوح الرؤية أو إدارة تلك الإمكانيات وإهمال التطور الجزئي البسيط الذي منح منتخب ليس له أدني تاريخ بطاقة أوربية لدور الـ 8 علي حساب واحدة من أكبر البلاد في عالم كرة القدم. تجربة أخري تستحق التأمل والتعلم منها!