الجذور العرقية للمصريين: أفارقة أم آسيويون؟
كبوتقة صهر لا مثيل لها، صهرت مصر عبر تاريخها الطويل الممتد طيفًا واسعًا من الأعراق والملامح والألوان ومزجته في هويتها المركبة التي تضم في نسيجها المعقد ألوانًا وسمات عديدة، قلما توافرت في شعب من شعوب العالم.
قبل دولة «محمد علي» الحديثة كان ساكنة مصر يتألفون من طوائف وجماعات، كالمماليك والقبائل العربية والفلاحين، وكان أجدادنا يعرفون موقعهم جيدًا من تلك الخارطة العرقية التي صارت غامضة بعد موجات التحديث الاجتماعي المتتالية التي أعادت رسم الخارطة الاجتماعية المصرية، وأعادت توزيع المصريين سكانيًا من خلال الهجرة الواسعة من الريف، أو من خلال الانتقال بين الأقاليم المصرية أثناء الخدمة في الوظائف الحكومية.
في هذا الإطار، أنت كمصري تجد في عائلتك على الأرجح أبيضَ البشرة والأسمر ومن هو شديد السمرة، وربما تجد ذلك الاختلاف قائمًا حتى في الأسرة الواحدة أحيانًا، وهو ما يثير العديد من الأسئلة عن كيف اجتمعت كل هذه الصفات الوراثية في العائلات المصرية، وكيف أصبح الشعب المصري على ما هو عليه اليوم، وكيف تشكلت تلك الخارطة العرقية للمصريين عبر العهود والأزمنة المتعاقبة؟
المصريون القدماء من آسيا وليسوا من أفريقيا
كشفت دراسة أعدتها جامعة «Tübingen» في مدينة شتوتغارت الألمانية بمشاركة من علماء من معهد ماكس بلانك، ونشرتها مجلة نيتشر العلمية البريطانية العام الماضي، تضمنت بحثًا على الأحماض النووية لمومياوات مصرية يرجع أقدمها إلى 1400 ق.م، أي إلى عهد الدولة الفرعونية الحديثة تقريبًا، وتعود أحدثها إلى العام 400، أي بعد مضي عدة قرون من تحول مصر إلى أحد أقاليم الإمبراطورية الرومانية – أن الشفرة الوراثية لتسعين مومياء مصرية تعود إلى أعراق أخرى غير أفريقية.
أكدت تلك الدراسة أن جذور المصريين القدماء تنحدر من سوريا والأردن وفلسطين ولبنان، وكذلك من شبه جزيرة الأناضول، وليسوا من وسط القارة الأفريقية كما كان يُظن في السابق على نطاق واسع.
أظهرت نتائج تحليل المجموع الوراثي للمومياوات المحنطة أن سكان مصر تغيروا خلال 1500 سنة مضت بشكل كبير، فبينما كان المصريون القدماء مرتبطين على مدى آلاف السنين بشكل وثيق بسكان الشرق الأوسط في بلاد الشام وتركيا، يظهر على الخريطة الجينية للسكان المعاصرين في المقابل التأثر بقوة بالهجرات القادمة من المناطق الأفريقية جنوب الصحراء.
يعود السبب في هذا التحول إلى تجارة العبيد التي ازدهرت وبلغت ذروتها في القرن التاسع عشر، حيث جاءت بموجات ضخت 6 إلى 7 ملايين نسمة من الرقيق في منطقة شمال أفريقيا، حلّ معظمهم بمصر وغيّروا مع الزمن تركيبة شعبها السكانية بشكل كبير.
الهجرات العربية الكبرى إلى مصر
على خلاف ما يعتقد الكثيرون، يعود استيطان العرب في مصر إلى قرون عديدة قبل الإسلام، حيث كانت القبائل العربية تأتي في موجات من الهجرة من الحجاز والجنوب الغربي لشبه الجزيرة العربية لتستقر في الشمال الشرقي لمصر عادة.
بعد الفتح الإسلامي لمصر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب بدأت موجة جديدة من الهجرات العربية إلى مصر، وفي هذا السياق يقول ابن عبد الحكم في كتابه «فتوح مصر» أن مدينة الفسطاط التي أنشأها عمرو بن العاص، تم تقسيمها خططًا بين القبائل العربية التي شاركت في الفتح، ومن تلك القبائل يذكر ابن عبد الحكم على سبيل المثال أسلم، وغفار، وجهينة، وخزاعة، والليثيين آل عروة بن شييم، وبني معاذ من قبائل مدلج، وعنزة من قبائل ربيعة، وقبائل الحجر من الأزد، وهذيل، وعدوان، وبني يشكر من لخم.
تعد هجرة بني قيس من أهم وأضخم هجرات القبائل العربية إلى مصر، حيث وضعت الأساس لاستقرار العرب فيها، واشتغالهم بحرفة أهلها، أي بالزراعة، حيث تم إقطاعهم في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك أرض بلبيس وما حولها بمحافظة الشرقية اليوم.
في سنة 172هـ، ولي مصر مسلمة بن يحيى البجلي، فدخلها في عشرة آلاف من أهل قبيلته بجيلة، ثم هاجرت قبائل ربيعة إلى مصر زمن المتوكل في سنة 240هـ. وقد استقرت قبائل ربيعة بمنطقة أسوان، واختلطت بأهل النوبة، وتزاوجت معهم، ومن نسلهما جاءت قبيلة الكنوز النوبية الشهيرة. بعد ذلك، بدأت الهجرات العربية في التراجع جراء انتقال الثقل السياسي في الدولة العباسية من العرب إلى الترك الذين أخذوا يشجعون منذ ذلك الحين هجرات العناصر التركية على حساب العرب.
استثناءً من هذا التراجع الملحوظ، جاءت هجرة قبائل بني هلال وبني سليم فيما بعد كواحدة من أكبر الهجرات العربية إلى شمال أفريقيا، حيث يُعزى إليها تغيير التركيبة السكانية لتلك المنطقة الجغرافية الشاسعة، ويتركز وجود بني هلال وبني سليم في مصر في الصعيد تحديدًا.
من المماليك والشراكسة إلى ضباط يوليو
انقسم المماليك في مصر تاريخيًا إلى عنصرين أساسيين هما: «المماليك البحرية» و«المماليك البرجية».
المماليك البحرية كانوا هم مماليك السلطان الأيوبي الصالح أيوب الذي بنى لهم قلعة في جزيرة الروضة بالنيل، ومن هنا جاءت تسميتهم بـ «البحرية». بعد وفاة الصالح أيوب تزوجت أرملته شجرة الدر من القائد المملوكي عز الدين أيبك وتنازلت له عن الحكم، ليصبح سلطانًا للبلاد لينتهي حكم السلالة الأيوبية ويبدأ عهد حكم «المماليك البحرية».
في المقابل، كان أول قدوم لـ «المماليك البرجية» أو «الجركسية» في مصر في عهد المنصور سيف الدين قلاوون الألفي الذي شرع في شراء طائفة جديدة من المماليك ترتبط به وتختص بالولاء له سميت آنذاك بـ «المماليك السلطانية»، وهي تختلف في أصولها عن طوائف المماليك البحرية المنحدرة من العرق التركي الكازاخي، التي كانت ضد تعيين قلاوون وأبنائه في السلطة.
اختار قلاوون أن ينشئ فرقة جديدة من عنصر قوقازي الجنس أطلق عليه في المصادر العربية اسم «الجركس» أو «الشراكسة». وحرص على الفصل بينهم وبين طوائف المماليك البحرية فأسكنهم في أبراج القلعة، أي في مركز إقامته، ليكونوا كالأسوار المانعة له ولأولاده، ومن ثم أطلق على هذه الطائفة في التاريخ اسم المماليك البرجية.
كان المماليك يشكّلون قمة الهرم الاجتماعي في مصر وعلى رأسهم السلطان. داخل طبقة المماليك ذاتها كان هناك تفاوت كبير بين كبار الأمراء الذين يحملون رتبة «أمير مائة مقدم ألف» الذين كان يبلغ عددهم في العادة 24 أميرًا، والمماليك الأقل رتبًا الذين يشكلون قاعدة تلك الطبقة الاجتماعية. وبين الفئتين نجد أمراء الأربعين وأمراء العشرات.
أبناء المماليك كان يطلق عليهم مصطلح «أولاد الناس»، ومن هنا نشأ العرف في مصر على تسمية أبناء الطبقة العليا من المجتمع بهذا المصطلح المستمر حتى اليوم. جدير بالذكر أن هؤلاء المذكورين كانوا لا ينتمون لطبقة المماليك العسكرية، ولكن كان مصدر دخلهم الأساسي ما يحصلون عليه من «رِزَق» من الدولة، و«الرزق» هو أراضٍ كانت الدولة تمنح حق استغلالها والاستفادة من ريعها لبعض الأفراد.
اتجه عدد من «أولاد الناس» أيضًا إلى العمل في التجارة أو للدراسة الدينية والعمل في التدريس أو الفتوى أو القضاء، كما اشتهر بعضهم بالكتابة التاريخية، وكانت تلك الطبقة هي حلقة الوصل بين المماليك والمجتمع المصري، حيث كانوا يتزوجون عادة من مصريات.
جدير بالذكر أن الانقسام في عناصر مُركّب الحكم في مصر منذ عهد المماليك بين الترك والشراكسة، وبين المماليك القدامى ومحمد علي وأسرته، وبين العسكريين ذوي الأصول المصرية كعرابي وزملائه في الثورة العرابية والعسكر الأتراك والشراكسة – ظل كشرخ عميق وغائر في بنية السلطة في مصر حتى ثورة «ضباط 23 يوليو» الذين كان قوام حركتهم من أبناء المصريين الذين دخلوا إلى الكلية الحربية في دفعة استثنائية تم قبولها على عجل لظروف الحرب العالمية الثانية.