ثورة إثيوبية في الإعلام المصري
أثارت قضية «سد النهضة» الذي تبنيه إثيوبيا منذ عام 2009 ردود فعل واسعة؛ نظرًا لتأثيراته المستقبلية على حصة كل من مصر والسودان من مياه النيل، وقد اختلفت ردود أفعال الإعلام المصري حول مشروع السد، وكان من الطبيعي أن تناقش ردود الأفعال تلك الآثار السلبية المحتملة للسد، وتحاول أن تقدم تصورات لحلها، لكن بعض هذه الخطابات احتوت على مضامين استعلائية وعنصرية، وحاول خداع الجمهور المصري وتقديم تغطيات مفبركة لوقائع قضية سد النهضة. وهو الخطاب الذي أدى إلى إثارة أزمات دبلوماسية وسياسية بين مصر وكل من السودان وإثيوبيا.
ضرب السد
طالب إعلاميون وكتاب مقالات عديدون بضرب سد النهضة؛ باعتبار أن تلك الضربة تمثل الحل الأخير المتاح لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وقد ارتبطت تلك المطالبات المستمرة بالحنين للماضي الاستعماري المصري في القارة الأفريقية، وارتبط تحديدًا بخمسة زعماء مصريين سابقين؛ هم: محمد علي، الخديوي إسماعيل، جمال عبد الناصر، أنور السادات، حسني مبارك.
تمجد الأدبيات التاريخية المصرية التاريخ الاستعماري المصري، خاصة في العصر الحديث، الذي بدأ في عهد محمد علي وامتد حتى عهد الخديوي إسماعيل، وترى أن هذا الاستعمار كان ضروريًا لتأمين منابع النيل، دون النظر إلى أن هذه المناطق تعيش بها شعوب لها الحق في تقرير مصيرها أيضًا.
تسمي الأدبيات المصرية احتلال محمد علي للسودان بـ«الفتح» وتتجاهل الانتهاكات العديدة التي تم ارتكابها خلال تلك الفترة، وتشهد الساحة السياسية والإعلامية مطالبات بعودة مصر والسودان دولة واحدة مثلما كانتا، لكن هذه المطالبات في الحقيقة لا ترى في السودان إلا مجالاً للتوسع، وهي مجرد غطاء للمطالبة بأن تحكم مصر السودان لا أن تكون الدولتان على قدم المساواة.
ويتبنى أنصار الحكم الملكي خطابًا يهاجم ثورة يوليو؛ لأنها أدت حسب رؤيتهم إلى أن تفقد مصر السودان، وكأنها ملكية خاصة، دون النظر إلى أن انفصال السودان جاء بناءً على رغبة أهلها بناء على استفتاء شعبي.
كل تلك الخلفيات حضرت أثناء تناول الإعلام المصري لقضية سد النهضة، وامتزجت بخطاب آخر يمجد في عبد الناصر ويروج لرواية مفادها أن الأخير منع إثيوبيا من بناء سد كانت تنوي بناءه في عهد الإمبراطور الإثيوبي «هيلا سيلاسي» بعد تهديده باتخاذ مصر إجراءات عنيفة.واعتبرت صحيفة اليوم السابع أن قيام عبد الناصر ببناء السد العالي قطع الطريق على محاولة الولايات المتحدة الأمريكية بناء سد لتخزين المياه في إثيوبيا.
وأشاد المؤرخ والكاتب الصحفي عباس الطرابيلي بغزوات الخديوي إسماعيل التي هدفت في رأيه إلى «اكتشاف منابع النيل»، ودخوله حربين ضد إثيوبيا عام 1875 لـ«تأديبها» حسب تعبيره. وتشبه مقولة «تأمين منابع النيل» الحجج التي أطلقها المستعمر الأوربي لتبرير احتلاله لدول العالم الثالث بزعم «نشر الحضارة»، وهو ما حاول أن يقدمه أحد الكتاب الصحفيين الذي برر الحملات الاستعمارية المصرية في عهد الخديوي إسماعيل بأنها كانت تهدف إلى اكتشاف منابع النيل.
وعلى الرغم من أن إثيوبيا بدأت في بناء سد النهضة في عهد مبارك، وتجاهل مبارك إثيوبيا وتوتر العلاقات معها بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها في أديس أبابا عام 1997، إلا أن البعض تداول روايات تفيد بأن الأخير هدد إثيوبيا بضرب السد إن هي أصرت على استكماله، وتركز على دور عمر سليمان نائب مبارك السابق ومدير المخابرات العامة المصرية الأسبق.
وأبدى المذيع «سيد علي» بقناة «العاصمة» حنينًا واضحًا لعهد مبارك،عندما زعم أن إثيوبيا لم تجرؤ على بناء السد في عهده، وكان هذا الخطاب الذي يمجد مبارك قد بدأ منذ تصاعد الأزمة قبل أكثر من عامين، رغم أن السد بدأ بناؤه قبل ثورة يناير كما سبق أن أشرنا. كما تقوم وسائل إعلام بصورة دورية بإعادة نشر فيديو قديم للمشير عبد الحليم أبو غزالة وزير الدفاع الأسبق وهو يهدد برد عسكري في حالة بناء أي سدود على النيل.
كما كان للتفاعلات الداخلية دور كبير في تحديد المواقف من السد، حتى لو أدى ذلك لمواقف متناقضة، فقد أشاد مقال للكاتب «مجدي صابر» بتهديد كل من عبد الناصر والسادات ومبارك لإثيوبيا لمنعها من بناء أي سدود على مياه النيل، لكنه اعتبر في نفس الوقت أن تهديد بعض السياسيين خلال اجتماع رسمي مع الرئيس المعزول محمد مرسي بقصف سد النهضة وتمويل حركات المعارضة الإثيوبية «فضيحة» استفادت إثيوبيا منها «لتظهر للعالم أن مصر تهددها بالضرب أو بإثارة القلاقل لمنع بناء السد»؛ أي أن لغة التهديد والوعيد كانت ميزة في العهود السابقة لكنها تحولت فجأة إلى عيب وفضيحة في عهد مرسي.
رغم ذلك لم يخلُ الفضاء الإعلامي من اتهامات للرؤساء السابقين، فقد اتهم نائب رئيس الوزراء ووزير التعليم العالي الأسبق، حسام عيسى، الرئيس الراحل أنور السادات بالمسئولية عن تفاقم أزمة سد النهضة؛ بسبب سوء العلاقات المصرية مع إثيوبيا في عهده. بالإضافة إلى اتهامات لمبارك بالتسبب في الأزمة نتيجة سياساته الاستعلائية تجاه إثيوبيا.
السادات كان محورًا لحكاية وهمية أخرى تهدف إلى مداعبة الأحاسيس القومية والنزوع إلى القوة، روجتها مواقع التواصل الاجتماعي، مفادها أنه نما إلى علمه أن إثيوبيا تقوم ببناء سدود على النيل، وعندما احتجّت مصر أنكرت إثيوبيا قيامها ببناء أي سدود، فما كان من السادات إلا أن أرسل 6 طائرات قامت بضرب جميع السدود من مطار بجنوب السودان، وبالتالي عندما احتجت إثيوبيا على الضربة المصرية كان رد السادات: هل يوجد سدود في إثيوبيا؟، ألم تبلغونا بعدم وجود سدود هناك؟، فكيف لنا أن نضرب شيئًا لا وجود له؟.
المفارقة أن هذه الرواية الملفقة والتي لا أصل لها وجدت طريقها لمقالات الكتاب في الصحف المصرية، مثل مقال بصحيفة الوفد نقل الرواية كما هي مكتوبة في مواقع التواصل دون تدقيقها أو مراجعتها.
وقائع ثورة لم تحدث
بعد الحنين للماضي الاستعماري المصري، والترويج لعمليات وحروب وهمية في عهود الرؤساء الجمهوريين، جاء اصطناع بطولات وعمليات أخرى تناسب الوقت الحاضر والحاكم الجديد في مصر. وزعمت صحيفة «فيتو» أن الجيش المصري هدد الحكومة الإثيوبية بهدم السد، وهو ما أجبر إثيوبيا على هدم السد وزيادة حصة مصر من المياه.
و اصطنعت وسائل إعلام مصرية قصة عن قيام مصر بتحرير عدد من المواطنين الإثيوبيين الذين قالت إنهم كانوا مختطفين في ليبيا، وحاول السيسي في كلمته أثناء استقباله للإثيوبيين أن يقدم هذا الأمر باعتباره جميلاً لإثيوبيا، لكن اكتشف بعد ذلك أن هؤلاء الإثيوبيين كانوا محتجزين لدى جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية الليبي.
وفي ديسمبر الماضي اندلعت مظاهرات في منطقة «أوروميا» في إثيوبيا؛ احتجاجًا على اعتزام السلطات مصادرة أراضٍ تابعة للسكان التابعين لقومية «الأورومو» هناك وتهجيرهم قسريًا، وقتل في هذه المظاهرات ما يقرب من 140 متظاهرًا بعد أن فتحت عليهم قوات الأمن النار، وفقًا لمنظمة هيومان رايتس ووتش.
إلا أن الإعلام المصري قام بتحريف معظم تفاصيل هذه الاحتجاجات، فزعم أن سبب هذه الاحتجاجات هو الاعتراض على بناء سد النهضة.
أما عن تفاصيل الاحتجاجات نفسها، فقد ادعى الإعلام المصري أن الاحتجاجات عمت المدن الإثيوبية بما فيها العاصمة، وأن الحياة توقفت تمامًا بعد إغلاق المدارس والجامعات واشتعال الأوضاع في أديس أبابا.
بعد ذلك اتسع سيناريو الثورة الإثيوبية الافتراضية طبقًا للإعلام المصري، الذي قام بمحاكاة سيناريو الثورة المصرية في يناير 2011، مطلقًا على المظاهرات «الربيع الإثيوبي»، و نشر أخبارًا عن قيام الحكومة الإثيوبية بقطع الاتصالات عن المتظاهرين، وانضمام ضباط الجيش والشرطة في إثيوبيا لصفوف «الثوار»، وتطورت مطالب المتظاهرين لتشمل المطالبة بإسقاط النظام.
بعد ذلك بدأت الشائعات تتوالى عن قيام المتظاهرين بقطع الطرق إلى سد النهضة، و نشرت عدة صحف صورة لمجموعة من الإثيوبيين يرفعون العلم المصري زاعمين أنها من المظاهرات الأخيرة، لكن اتضح أن الصورة قديمة وتعود لإثيوبيين لاجئين في مصر ولا علاقة لها بالاحتجاجات. وزاد موقع «صدى البلد» وقال إن سد النهضة قد سقط في أيدي المتظاهرين الذين يقومون بحصاره.
واستغلت مواقع إخبارية تقريرًا في صحيفة إثيوبية يقول إن المظاهرات يمكن أن تخدم أجندات أجنبية مثل مصر وإريتريا، ويتهم مصر بدعم الجماعات المتمردة (وهو جزء من خطاب المؤامرة المنتشر في دول العالم الثالث لتفسير أي احتجاجات ويستخدمه الإعلام المصري نفسه بكثافة) لتحرف مضمونه وتضيف إليه أن المخابرات المصرية تقف وراء الاحتجاجات.
و استضاف المذيع أحمد موسى شخصًا قدم نفسه باعتباره معارضًا إثيوبيًا ومنسقًا للعلاقات العربية الأورومية، طالب فيه السيسي بدعم «الثورة» لإسقاط النظام في إثيوبيا.
وأذاعت فضائية «أون تي في» مشاهد لاحتجاجات قديمة على أنها مقاطع فيديو للمظاهرات الأخيرة، كما نشر موقع «فيتو» فيديو قديمًا لإحدى الحركات المسلحة في إثيوبيا وقالت إنها تتوعد باجتياح العاصمة عسكريًا، فيما بدا وكأنه تأييد ومساندة و دعاية لهذه الحركة. دون النظر إلى تعقيدات الواقع الإثيوبي ومدى إمكانية تأثير هذا الخطاب على العلاقات بين مصر وإثيوبيا.
المعارضة الإثيوبية
يضرب الفكر الاستعماري بجذوره في الخطاب المصري بمختلف أنواعه عن القارة الأفريقية عمومًا، وقضية سد النهضة خصوصًا. فمصر تعتمد في حديثها عن حقوقها في مياه النيل على اتفاقيات سبق توقيعها في مرحلة الاستعمار البريطاني، وأبرمتها بريطانيا نيابة عن مصر والسودان، وهي اتفاقيتا 1929 و1959 اللتان تعطيان مصر والسودان 90% من حجم مياه النيل سنويًا، وهي نسبة ظالمة بلا شك لإثيوبيا؛ الدولة التي ينبع منها النيل أساسًا. ورغم مطالبات إثيوبيا ودول أفريقية أخرى بتعديل هذا التوزيع المجحف، إلا أن مصر قابلت تلك المطالبات بتجاهل واستعلاء.
انطلاقًا من هذا الفكر يتمثل الخطاب المصري الذي يتعامل مع الأفارقة باعتبارهم مجالاً للاستغلال، وأن ليس لهم إلا طاعة أوامر المصريين. ويستبطن طريقة تعامل الدول الاستعمارية قديمًا مع الدول التي تحتلها، من قبيل «فرق تسد».
وقد ترجم الإعلام المصري هذه الطريقة عندما قام باستضافة شخصيات قالت إنها تنتمي إلى «المعارضة الإثيوبية» وإلى الأقلية الأورومية للهجوم على الحكومة واتهامها بالعمل على تعطيش مصر ببناء سد النهضة، وتبني خطاب يضخم من الاحتجاجات في إثيوبيا ويبالغ في حجمها وعدد القتلى الذين سقطوا فيها. وتم تصوير تلك المعارضة باعتبارها تتوق لعصر عبد الناصر، بالإضافة إلى نشر موضوعات تحتفي بالحركات المسلحة التابعة لتلك المعارضة، وهو ما أدى إلى اتهام إثيوبيا لمصر على فترات متفاوتة بالعمل على زعزعة استقرار البلاد.
- حوار| قيادى «الأوروموا» الإثيوبي: الحكومة تبني سد النهضة لـ«تعطيش مصر»
- بطولات السيسي الوهمية.. صناعة المجد الزائف
- الرؤساء يصنعون التاريخ!
- رؤساء بإثيوبيا ناصر "الوحدة" والسادات "أفسدها" ومبارك "محاولة" اغتيال
- سد النهضة.. قبل فوات الأوان
- الحياة اليوم – د/ حسام عيسى : مصر فى عهد السادات اساءت لعلاقاتنا التاريخية مع اثيوبيا
- إسماعيل.. الخديوى المظلوم
- عبدالناصر أنهى مشكلة أول سد إثيوبى بخطاب للامبراطور