الانتخابات الإثيوبية: مسرحية لتكريس هيمنة آبي أحمد
أتى احتفاء الحكومة الإثيوبية بتنظيم الانتخابات البرلمانية في الحادي والعشرين من يونيو الجاري مبالغاً فيه، فالاقتراع الذي وُصف بأنه «أول محاولة للأمة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة» على حد قول رئيس الوزراء، آبي أحمد، شابته انتهاكات فادحة.
وكان من الواضح أن نية أديس أبابا مبيتة للقيام بتلك الانتهاكات إلى الحد الذي جعل الاتحاد الأوروبي يعلن منذ وقت مبكر رفضه إرسال مراقبيه لمتابعة التصويت مبررًا ذلك بأن الإثيوبيين لم يوافقوا على وجود المعايير المطلوبة لنشر أي بعثة لمراقبة الانتخابات، وفقاً لما قاله منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل.
وبالفعل فقد تعرض الذين قبلوا بالمشاركة في تلك العملية إلى صنوف من التعنت والإذلال بدءاً من طرد مراقبين سودانيين ذهبوا ضمن بعثة منظمة إيساف (قوات طوارئ شرق أفريقيا) واحتجت الخرطوم رسمياً، وصولًا إلى تعرض عدد من المراقبين للضرب أثناء محاولة تأدية مهمتهم وفقاً لرئيسة الهيئة الوطنية للانتخابات بيرتوكان ميديكسا، التي شكت من وقوع اعتداءات جسدية عليهم في ولاية الأمهرة وعفار ومنطقة جامبيلا، وأكدت عدم فتح اللجان للتصويت في عدد من مراكز الاقتراع في أنحاء مختلفة.
وقد بذلت الحكومة جهوداً دعائية كبيرة لإظهار المشاركة الكثيفة للناخبين، كنشر صور سيدات ولدن أطفالهن في لجان التصويت، والعروس التي فاجأها الزفاف أثناء الانتخابات فذهبت تصوت بفستانها الأبيض، وغير ذلك مما احتفت به وسائل الإعلام الحكومية، التي تجاهلت حرمان الملايين من التصويت.
فقد كان من المفترض أن يتم الاقتراع لاختيار 547 نائباً يمثلون مختلف المناطق، لكن تم الإعلان عن استبعاد إقليم تيجراي الذي يخصص له 38 مقعداً، بالإضافة إلى 64 مقعداً آخر في أنحاء متفرقة، بسبب الأوضاع الأمنية.
ويقدح حرمان الملايين من السكان في شرعية تلك الانتخابات ومدى تمثيلها للشعب، فإقليم تيجراي يشهد حرب إبادة أجبرت الكثير من سكانه على النزوح، كما أن معظم المعارضين في باقي المناطق معتقلون أو فارون خارج البلاد، كما حرم سكان إقليم أوجادين من التصويت، وقررت الكثير من الأحزاب المقاطعة بسبب الترهيب الأمني.
وقد تركزت المنافسة الانتخابية بالأساس في إقليم أمهرة حيث شارك حزبا «الحركة الوطنية في أمهرة» و«بالدراس من أجل ديمقراطية حقيقية» ضد حزب «الازدهار» بقيادة آبي أحمد، وهو ما لم يحدث، إذ كانت مؤسسات الدولة تضيق على منافسي الحزب الحاكم بشكل كبير.
الملك السابع.. الرئيس الديمقراطي سابقاً
كان من المفترض إجراء الانتخابات في أغسطس/آب من العام الماضي 2020 إلا أنها تأجلت أكثر من مرة بحجج مختلفة، وانتشر تسريب صوتي لرئيس الوزراء قبل الانتخابات يؤكد فيه أنه لولا أزمة فيروس كورونا، التي اتخذها ذريعة لتأجيل الانتخابات، لما كان تخيل كم الخسائر التي كانت ستلحق بحزبه، وأنه لن يتنازل عن السلطة لمدة ١٠ سنوات قادمة، ولا توجد قوة تستطيع انتزاعها منه، وأنه يفضل الموت على تسليم السلطة، وأن حزبه سيفوز بالتصويت بدون أدنى شك، وأن الفترة المقبلة ستشهد إراقة للدماء من أجل بقاء حكمه، وقال: «علينا عرقلة الانتخابات ومحاربة الأحزاب المنافسة والمعارضة لضمان البقاء في السلطة».
ونفت إثيوبيا دقة هذا التسريب، إلا أنه بغض النظر عن هذا التسجيل المسرب فإن ما ورد فيه يتماشى مع الواقع السياسي في البلاد، فآبي أحمد شخص غير منتخب من الأساس فقد جاء إلى السلطة بعد ثورة الأورومو (أغلبيتهم من المسلمين ويمثلون الأكثرية في البلاد) ضد حكم التيجراي (أقلية مسيحية تحكم البلاد منذ عام ١٩٩١)، وبعد احتجاجات دامية استقال رئيس الوزراء التيجراني، هايلي مريام ديسالين، في ٢٠١٨، وتولى السلطة ائتلاف ثوري اختار ضابط المخابرات السابق، آبي أحمد، لرئاسته في الثاني من أبريل/ نيسان 2018، لفترة مؤقتة يتم بعدها إجراء اقتراع في عموم البلاد لاختيار حكومة منتخبة.
لكن ضابط المخابرات السابق استغل الوقت لتصفية خصومه وبدأ في استهداف التيجراي الذين مثلوا الدولة العميقة في إثيوبيا وتغلغلوا في كل المواقع الحساسة فأقال أغلب قادتهم في الجيش والأجهزة الأمنية، وفتح قضايا الفساد التي بالطبع تورط فيها مسؤولون تيجراي، ورفض إقامة الانتخابات في موعدها ليكمل مسيرة استئصالهم من مفاصل الدولة، لكن الحكومة الإقليمية للتيجراي أجرت الانتخابات في إقليم في موعدها، وهو ما فتح باب المواجهات العسكرية بينها وبين الحكومة، التي شنت حرب إبادة على التيجرانيين شملت القتل والاغتصاب الجماعي للنساء والأطفال والتهجير.
كما استدار آبي أحمد للأورومو الذين أوصلوه للسلطة فانقلب على أقرب حلفائه وزير الدفاع والرئيس السابق لولاية أورومو، ليما ميجيرسا، فأطاح به وبرموز الأورومو وعلى رأسهم جوهر محمد الذي كان أبرز السياسيين الداعمين له، واشتعل الشارع الأورومي من جديد لكن ضد آبي أحمد هذه المرة، فقمعهم بوحشية مفرطة وقتل واعتقل منهم أعداداً لا يزال يجري التعتيم عليها حتى الآن.
وكان من أبرز قتلى الأورومو هاشالو هونديسا، الذي كان بمثابة مطرب الثورة، والذي تسبب اغتياله في تصاعد الغضب الشعبي ضد رئيس الوزراء الذي حاول التنصل من الجريمة متهمًا «عملاء مصريين» بقتله في محاولة فاشلة لتقديم كبش فداء لتخطي الأزمة.
ولجأ آبي أحمد لتغيير جلده عبر التلاعب بانتمائه العرقي، فالرجل الذي جاء إلى الحكم لانتمائه لأب من الأورومو، أعاد تذكير الأمهرة بأنه ينتمي إليهم عن طريق أمه الأرثوذكسية مثل أغلبيتهم، على الرغم من أنه هو نفسه ينتمي للكنيسة الخمسينية وهو مذهب بروتستانتي، يتبنى الفكرة الصهيونية، كما أنه يتحدث كل اللغات المحلية الرئيسية، الأمهرية والأورمو والتيجرانية بحسب اختلاف المواقف والمناسبات.
وقد سوق لنفسه في البداية بطريقة مبهرة، إذ طقدم نفسه كإصلاحي تعلقت به آمال الشعوب الإثيوبية فرفع حالة الطوارئ، وشجع حرية الصحافة، وأطلق سراح المعتقلين السياسيين، وشكل حكومة نصفها من النساء، ودعا المعارضين في المهجر للعودة إلى الوطن، وأنهى حالة العداء مع الجارة إريتريا وحصل على جائزة نوبل للسلام بعدما أنهى حالة العداء مع الجارة إريتريا.
وأصبح يُنظر له في البلاد على نطاق واسع بطريقة تصل إلى التقديس الديني حتى أنه بات يعد وكأنه «ابن الله أو نبي»، وفقاً لشريحة من مريديه، مما شجع الرجل على الإفصاح في مقابلة إعلامية عن حلمه بأن يكون ملكًا قائلاً: «حينما كنتُ في السابعة ِمن العمر، أخبرتني والدتي بأنني سأصبحُ الملكَ السابع لإثيوبيا.. لم أكن حينها أعرف الجبهةَ الثوريةَ.. لكنَّ تأثير هذه النبوءة استقرّ في ذهني، لدرجةَ أنَّ كلَ ما أفكرُ فيه، كان يدور فقط حول تلك النبوءة.. كلُ شيء فعلته كان يدورُ حولَ مملكتي تلك»، وبالتوازي مع ذلك أعاد تجديد آثار العهد الملكي كخطوة لتبييض صورة ذلك العهد الذي ارتبط في أذهان الناس بالمذابح والحكم القسري.
وبقدر ما كانت بدايته مشرقة لم يمض وقت طويل حتى أشعل فتيل حرب في إقليم تيجراي واليوم يواجه الملايين منهم خطر المجاعة، وعادت الاعتقالات التعسفية والقمع البوليسي والقتل على الهوية، وأدرج الحركات القومية المعارضة على لوائح الإرهاب.
وتشرد الكثيرون حتى أن بعضهم ذهبوا كلاجئين إلى اليمن التي تشهد حرباً أهلية منذ سبع سنوات ليلقى بعضهم حتفه حرقًا وبعضهم غرقًا في رحلة اللجوء هرباً من جحيم بلادهم.
فسرعان ما تبددت الآمال في رئيس الوزراء الذي أمسك بزمام بلد يتكون من عدة شعوب مختلفة عن بعضها البعض في كل شيء، فلا يجمع بينها دين ولا عرق ولا لغة ولا ثقافة مشتركة، بل توحدت بقوة الحديد والنار في عهد الملك منليك الثاني( 1889-1913)، واليوم بعد الإحباط الذي لاقوه من تجربة آبي أحمد باتت تلك الأعراق تتطلع للخلاص من ربقته.
إذ يخشى آبي أحمد من سيناريو «البلقنة»، أي تفكك البلاد كما حدث في يوغوسلافيا في التسعينات، واستقلال القوميات بأقاليمها، وهو أمر يتيحه الدستور الحالي الذي تم إقراره في عهد التيجراي، ولذا يحاول إحكام قبضته الحديدية على الشعوب الإثيوبية وتذويب هويتها باعتبار ذلك السبيل الأوحد للحفاظ على كيان الدولة الحالي، وقد شرح أفكاره حول مفهوم الوطن في كتاب اسمه «معاً» (Medemer باللغة الأمهرية)، وهو حمّال أوجه إذ يحمل أفكارا غير واضحة حول التوحد ويتعمد المراوغة في توضيح ما إذا كان ذلك يعني الإدماج القسري أم احترام خصوصيات القوميات، وهذه هي النقطة المفصلية في الموضوع.
سد النهضة مشروع قومي لتوحيد شعوب متنافرة
وفي ظل انقسام البلاد إلى نحو ٨٠ قومية مختلفة، تبنى رئيس الوزراء مشروع بناء سد النهضة المثير للجدل، والذي خلق له مشاكل في الخارج مع مصر والسودان، وهو ما كان مطلوباً في الداخل للترويج له كمشروع قومي لتوحيد الشعوب الإثيوبية تحت لوائه وحشدهم لمواجهة عدو خارجي، بل اتبع آبي أحمد لغة خطاب عنيفة وصلت إلى حد التهديد بالحرب، وقبل أسابيع قليلة من الانتخابات البرلمانية أعلن عن خطة لبناء 100 سد جديد خلال السنة المقبلة فقط، وفقاً لوكالة الأنباء الرسمية الإثيوبية.
ويروج النظام الإثيوبي بين السكان لفكرة أن سد النهضة هو مفتاح الحل لكل مشاكلهم، فهو سيوفر الكهرباء والمال والنفوذ الإقليمي بالإضافة إلى إلهائهم عن خلافاتهم السياسية والعرقية ويوجه شحنات غضبهم من سوء أوضاعهم إلى عدوهم المفترض في الخارج.
لكن لا يبدو أن تلك الإستراتيجية تلقى صدى لدى إقليم بني شنقول الذي يوجد به سد النهضة، فقبائل القمز (أو الجوميز) المسلمة وهم سكان الإقليم الذي يشتهر بثرواته وثوراته، فهم يطالبون بالانفصال ويقاتلون في سبيل ذلك بعدما أغرق السد مساحات شاسعة من أخصب أراضيهم، وخلال الأشهر الماضية شهد الإقليم مجازر عرقية وخرج فعلياً عن سيطرة الحكومة التي استعانت بميليشيات أمهرية مسلحة لاستعادة المنطقة التي تشهد تهجيراً جماعياً مستمراً للأهالي إلى السودان التي يطالبون بالانضمام إليها.
وغني عن البيان أن هذه القبائل أيضًا لم تتح لها فرصة المشاركة في العرس الانتخابي الأخير بسبب ما قالت الحكومة إنها «أسباب أمنية».