مؤسسة القضاء في عصر سلاطين المماليك
تقول القصة: إن الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي كان يبغض قاضي قضاة الشافعية تاج الدين ابن بنت الأعز، فأسرّ للسلطان الظاهر بيبرس أن القاضي يتعطل عن العمل فيما يتعلق بالمذاهب الثلاثة الأخرى -الحنفي والمالكي والحنبلي- وأوعز إليه أن يجعل لكل مذهب قاضيًا للقضاة، فمن هنا قرر بيبرس تقسيم المؤسسة القضائية بين أربعة مذاهب.
والواقع أن تلك القصة تبدو ساذجة بالنسبة للمعروف عن بيبرس من تعقل فيما يتعلق بأمور الحكم، فلا يُعقَل أن يكون سبب ما استحدث من أمور بمؤسسة القضاء مجرد وشاية من أمير ساخط على قاضٍ!، والأرجح أن هذا التقسيم كان جزءًا من خطة السلطان لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، والدليل ارتباط رتب القضاة واختصاصهم المكاني وأحيانًا النوعي بنسبة من يخدمون من الرعايا، كما سنرى.
على أية حال، فإن العام 1265م قد شهد عملية التغيير الكبير في النظام القضائي المصري بعد أن كانت تقتصر على قاضٍ شافعي المذهب ونواب له في مختلف المدن.
قاضي القضاة وقضاة الشرع الشريف
هم أربعة يمثلون المذاهب السنة الأساسية، وهم بترتيب درجاتهم في الدولة المملوكية:قاضي القضاة الشافعي، ثم الحنفي ثم المالكي ثم الحنبلي. وكان هذا الترتيب ينعكس على بروتوكول الجلوس بحضرة السلطان في مجلسه بالقلعة، فكان يليه يمينًا قاضي قضاة الشافعية، ثم قرناؤه بنفس الترتيب السابق.
كان تفضيل قاضي القضاة الشافعي طبيعيًا لأنه كان مذهب كل من طبقة المماليك وغالبية المسلمين من المصريين، حتى أن المؤرخ ابن إياس قد أورد في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور» سببًا غيبيًا -مرتبطًا بالمذهب الشافعي- لسرعة زوال دولة المظفر قطز، وهو أنه كان حنفيًا، بينما ينبغي لحاكم مصر -على حد قول المؤرخ- أن يكون شافعيًا لأن مصر هي بلد الإمام الشافعي ومنطقة نفوذه!، وربما لهذا كان أمراء المماليك وسلاطينهم يميلون لأن تكون أعمالهم الخيرية مرتبطة بهذا المذهب كبناء المدارس والمساجد وتخصيصها لتدريس الفقه الشافعي.
أما الترتيب: حنفي، مالكي، حنبلي، فكان مرتبطًا بنسبة معتنقي المذهب بين الرعايا المصريين، وكان له بُعدان: الأول على مستوى الدولة حيث تمثل الشافعية أغلبية ثم الحنفية فالمالكية وأخيرًا الحنبلية، والآخر على مستوى كل تقسيم إداري على حِدة بحسب نسبة تمثيل المذاهب به، فعلى سبيل المثال كان القاضي المالكي بالإسكندرية أكثر أهمية لأهلها بحكم اتباع أغلبهم لهذا المذهب.
تميز قاضي قضاة الشافعية عن قرنائه بأنه ينفرد دونهم بنظر قضايا أموال الأيتام ومنازعات بيت المال، وأنه يحق له أن يعين له نوابًا له في قرى الريف المصري، وكان مسئولًا عن نظر أمور «السادة الأشراف آل البيت»، كما كان يعين ناظر الأوقاف حتى منتصف العصر المملوكي وانفراد السلطان بهذه الخاصية، كما كان يختص بـ «ارتداء الطرحة» في موكبه وفي مجالس السلطان، والطرحة هي أحد الأزياء التشريفية التي تميز بها القضاة حيث كانوا يرتدونها فوق العمامة ويدلونها على الظهر والرقبة، بينما يكون حجم العمامة نفسها كبيرًا بما يلائم المكانة العلمية والأدبية للقاضي.
وقاضي القضاة الحنفي فقد كان التالي قربًا لطبقة المماليك؛ أولًا لأن أغلبهم اعتنق الإسلام على المذهب الحنفي قبل التحول للشافعي، وثانيًا لسبب نفعي بحت هو أن المذهب الحنفي يبيح حل واستبدال الأوقاف، فكان بعض أمراء المماليك وسلاطينهم يحاولون توسيع صلاحيات قاضي الحنفية بحيث تشمل الأوقاف؛ ليتمكنوا من العبث بها لتحقيق المنافع الشخصية، وإن كان هذا صعبًا في النصف الأول من العصر المملوكي فإنه -بحكم تبدل النفوس- لم يكن بتلك الصعوبة في النصف الآخر!.
وقد جرت محاولات من قِبَل قضاة الحنفية لتحقيق المساواة في الصلاحيات والتشاريف مع القضاة الشافعية، ولكن تلك المحاولات لم تكلل بالنجاح ربما لظروف قدرية مرتبطة بالأحداث العارضة التي تبترها، كوفاة السلطان الظاهر ططر الذي كان متعصبًا للحنفية ورغب في رفع شأنهم لولا شدة قصر عهده ووفاته السريعة.
أما قاضي القضاة المالكي، وقضاة المالكية عامة، فإن قلة ما يعرض أمامهم من قضايا -بحكم قلة عدد معتنقي المذهب في مصر عدا الإسكندرية التي كان قاضيها الأساسي مالكيًّا بحكم انتشار المذهب فيها- أدّى لتمكن كثير منهم من أن يشتغل بالعلم وتدوين التراث العلمي الديني من مذهبهم.
ولكن ثمة قضايا معينة كانت أهمية القاضي المالكي تعلو فيها، وهي تلك القضايا التي يكون موضوعها اتهام إنسان بالكفر أو فساد العقيدة مما يستوجب -حسب المذهب- قتله، فكانت السلطات تميل أحيانًا لترجيح الفتوى المالكية في هذا الشأن، كذلك كانت تلك الفتوى مقدمة في بعض القضايا ذات الطابع السياسي بحكم تشدد قضاتها في عقاب من تثبت عليه تهمة «الخروج على ولي الأمر» وقضاؤهم بإعدام المدان بذلك.
بقي قاضي قضاة الحنابلة، بسبب قلة معتنقي هذا المذهب في مصر اضطرت السلطات لاستحضار العلماء الحنابلة من بلاد الشام؛ مما انعكس على نسبة من تولوا منصب «قاضي قضاة الحنابلة» من الشوام مقابل قلتهم بين من تولوا مثل هذا المنصب في المذاهب الثلاثة الأخرى. بل إن ثمة مشكلة أخرى واجهت السلطات هي أن معتنقي المذهب الحنبلي كانوا الأكثر تعففًا عن المناصب بين غيرهم، وربما لهذا لم يكن تأثير قضاة الحنابلة في المجتمع والسياسة بنفس قوته كباقي القضاة.
وبشكل عام فإن مراسم تولية قاضي القضاة كانت بإعلان المرسوم من القلعة والخلع عليه -ارتداؤه خلعة تشريفية من السلطان- ثم نزوله في موكب حافل محاط برجال الدولة والرعية إلى بيته.
أخيرًا، تجب الإشارة لأن تولي منصب قاضي القضاة -بشكل عام وعلى اختلاف المذاهب- لم تكن له آلية معينة، فمنها أن يوصي بعض كبار رجال الدولة السلطان بتولية هذا القاضي أو ذاك، ومنها أن يتولى السلطان نفسه اختيار من يليها، ومنها أن يجتمع فقهاء أهل مذهبه على توليته فيطلبون من السلطان ورجاله ذلك، بل ومنها الوراثة، فثمة أسر بعينها توارثت منصب القضاء كأسرة ابن بنت الأعز في الشافعية، وأسرة علاء الدين التركماني في الحنفية، وأسرة الإخنائي في المالكية وأسرة نصر الله في الحنابلة، وكانت الرتبة تخرج من الأسرة أحيانًا لتنتقل إلى غيرها. وبالطبع كان التدرج الوظيفي من درجة “نواب قاضي القضاة” إحدى تلك الآليات.
كذلك يجدر بالذكر أن مسألة «استقرار قاضي القضاة في منصبه» كانت مرتبطة بشكل كبير بمدى تأثيره -بصفته الوظيفية- في القرار السياسي، بالتالي كانت العلاقة عكسية بين حالة الاستقرار العامة في هذا المنصب، ومدى قرب القاضي من الدوائر الحاكمة، فالقضاة الشافعيون كانوا الأقل استقرارًا، ثم الحنفية، فالمالكية، وأخيرًا الأكثر استقرارًا وهم الحنابلة.
وبشكل عام فكثيرًا ما كانت فتاوى القضاة تُطلَب من أهل السلطة، بالذات فيما يتعلق برغبة السلطان فرض ضرائب أو مصادرات، أو من الأمراء حال رغبتهم خلع سلطان بكتابة محضر شرعي أنه عاجز عن الحكم، أو أحيانًا بحِل الخروج عليه بل وربما قتله كما وقع من الأمير بيدرا الذي تحايل لاستحضار فتوى مبهمة استغلها كغطاء شرعي لاغتياله السلطان الأشرف خليل بن قلاوون؛ أي أن قاضي القضاة لم يكن بمعزل تمامًا عن ألاعيب الحكم.
ومن أشهر من تولوا القضاء في مصر عبد الرحمن ابن خلدون، الذي كان قاضي قضاة المالكية، وابن حجر العسقلاني الذي تولى قضاء الشافعية.
نواب قاضي القضاة
لم يكن من المعقول -بطبيعة الحال- أن ينظر قاضي القضاة بنفسه في كل قضية تخص مذهبه؛ بالتالي فقد كان من الضروري أن ينوب عنه قضاة آخرون.
كان عدد هؤلاء النواب وتوزيعهم يرتبط بمدى اتساع نطاق أتباع هذا المذهب أو ذاك، فبينما انتشر نواب الشافعية في بلدات وقرى مصر، كان نائب القاضي المالكي هو القاضي الرئيسي بالإسكندرية، ثم بعد فترة شاركه نائب القاضي الحنفي نفس الأهمية.
نواب القاضي كانوا يمارسون عملهم إما من حوانيت أو مكاتب خاصة، أو في مكاتب ارتجالية بأماكن التجمع كالمساجد والشوارع. وكان تعيينهم يتم بمعرفة قاضي القضاة، ويرتبط بقاؤهم في وظائفهم ببقائه، فإن عُزِلَ أو اعتزل لسبب أو لآخر عُزِلوا معه، ولا يعينون من جديد إلا بناء على اختيار قاضي القضاة اللاحق.
كذلك كان نواب القضاة يقومون أحيانًا بمهام قاضي القضاة من عزل وتولية إذا فوضهم ذلك، ومن هذا نستنتج أن العلاقة بين القاضي ونوابه كانت شديدة القوة حتى أن بعض القضاة كان يعتبرهم من “محاسيبه” بلغة العصر؛ أي من تشملهم حمايته ورعايته باعتبارهم «رجاله».
ومن أبرز المشكلات التي ارتبطت بهذه الوظيفة كثرة النواب، فكان القضاة أحيانًا يستكثرون من نوابهم حتى يزيد الأمر عن الحد، خاصة في فترات الفساد الإداري حيث يصبح تولية المنصب نتيجة محسوبية أو مجاملة أو رشوة؛ مما كان ينعكس بالتالي على سلوك هؤلاء النواب، فكان السلاطين يضطرون من حين لآخر لإلزام القضاة بعدد محدد من النواب ثم يتجاوزونه مع الوقت، فيتدخل السلاطين، وهكذا دواليك.
كُتاب القضاة، الشهود، أمناء الحكم، المفتون
«الكاتب» هو مساعد القاضي والقائم بتدوين أحكامه وإعلانها وحفظها، وهو الذي يقوم بتدوين وقائع الجلسة مما يتطلب من شاغل هذه الوظيفة أن يكون عالمًا بلغة الحديث الدارج بين الناس ودلائل الألفاظ العامية بحيث يكتبها بمعانيها المفهومة في «المحضر»، وهو أقرب مساعدي القاضي لدرجة نواب القضاء.
و«الشهود» هم القائمون بالشهادة في المعاملات بين الناس، فلم يكن الأمر كعصرنا هذا لا يتطلب سوى اثنين من العوام للشهادة على المعاملة، وإنما كان للمؤسسة القضائية شهودها الذين يقومون بتلك المهمة، فكان «الشاهد العدل» يشهد المعاملات والديون والأملاك والحقوق، ويساعد القاضي في الحكم في المنازعات المرتبطة بها بشهادته وتقديمه السجلات والعقود، وكان كذلك يشهد في الأمور المتعلقة بأموال اليتامى وتقويم الديون، وكان لركب الحجيج شاهد مرافق يسمى «شاهد السبيل»، وكذلك كان للجند عند خروجهم للقتال شهود منهم يشهدون وصية الجندي إذا توفي في الجهاد.
وكانت شروط تعيين شاهد العدل هي السمعة الحسنة والبراءة من الجرح والتهم، وتعلُم الفقه فيما يتعلق بالمعاملات، والمران بالتعلم من الإقامة بالمحاكم ومتابعة القضايا.
والشهود كانت لهم حوانيت ومكاتب خاصة، ولكنهم كانوا في مستوى مادي أقل من سواهم من العاملين بالسلك القضائي. وهو ما أدى في مراحل متأخرة لتعديهم اختصاصاتهم، حيث كان من المقرر عليهم ألا يشهد في المبالغ الكبيرة إلا أربعة شهود، وألا يشهدوا على وصايا المرضى إلا بإذن أحد قضاة القضاء الأربعة أو نوابهم. ولهذا كان قضاة القضاء يأمرون باستعراض أسماء شهود العدل لاستبقاء الصالح منهم وعزل غير الصالح عن وظيفته.
أما «أمناء الحكم» فكانت وظيفتهم أشبه بـ «النيابة الحسبية» في عصرنا هذا. فقد اختصوا بالنظر في أموال الأيتام والوصايا والغائبين والمحجور عليهم، وإيداعها مخازن خاصة. وكان المشرف النهائي عليهم هو قاضي قضاة الشافعية -كما سلف الذكر- ولهذا كان القائمون بها عرضة لضغط السلطات أو بعض ذوي النفوذ لسلب بعض أموال اليتامى والتركات في بعض أوقات انحطاط الطبقة الحاكمة والاضطرابات الداخلية.
وأخيرًا كان «المفتون»، وهم من العلماء المعممين المختصين ليس بالفصل في الدعاوى وإنما إصدار الفتاوى سواء بشأنها أو بشكل عام، وكان حضورهم مهمًا بدار العدل.
إلى جانب الوظائف الأربع السابقة كانت بعض الوظائف التنظيمية في مجلس القضاء، كالحاجب القائم بتنظيم الدخول على القاضي والمثول في المحكمة، والنقيب وهو بمثابة «سكرتير» الجلسة، والجلواز وهو المشرف على النظام في مجلس القضاء، والترجمان وهو القائم بالترجمة حال وجود طرف لا يتقن العربية. وكان للقضاة سجن خاص يحتجزون فيه من يؤمر بحبسه من المتهمين.
وكيل المتقاضي
هذه لم تكن من الوظائف التي وضعتها الدولة وإنما هي وظيفة فرضها أصحابها على المؤسسة.
فالوكلاء كانوا من «أهل العمامة» الذين يجلسون بالمحاكم ويعرضون على المتقاضين أن يتحدثوا باسمهم خاصة لو كان المتقاضي عاجزًا عن عرض حجته أو كان بيانه قاصرًا وقدرته على التأثير في عقيدة المحكمة ضعيفة؛ أي أنهم أشبه بوظيفة «المحامي» حاليًا، مع فارق كبير هو أن هؤلاء الوكلاء لم يكونوا على نفس رقي مهنة المحامي، بل كانوا عادة ما يستغلون حاجة موكلهم ليبتزوه ماليًا. وعبثًا حاولت السلطات منعهم من مزاولة نشاطهم لكنهم كانوا يعودون له بلا ملل.
قاضي العسكر
كما أن الرعايا المدنيين كانوا يحتاجون لمن يفصل في نزاعاتهم، فقد كانت نفس الحاجة قائمة للجند.
فكان للجند «قاضي العسكر»، وكان قضاة العسكر ثلاثة ليس بينهم حنبلي -إلا فيما ندر- وكانوا أدنى رتبة من قضاة الشرع الشريف الأربعة. وكما اشتهرت أسر بتوارث القضاء «المدني» اشتهرت أخرى بتوارث القضاء العسكري كأسرة «البلقيني».
وكانت مهمة قاضي الجند هي الفصل بين الجند في نزاعاتهم، أو بينهم وبين المدنيين أو الدولة في الأمور المرتبطة بالعمليات الحربية من رواتب وغنائم وما إلى ذلك.
المحتسب
هي من الوظائف ذات الطبيعتين القضائية والتنفيذية.
فالمحتسب هو القائم بمراقبة احترام القوانين المنظمة لحركة البيع والشراء والتسعير، والآداب العامة والصحة العامة وعدم إشغال الطريق العام بل وحتى قوانين البيئة وحماية حقوق الحيوان.
والشِق القضائي من عمل المحتسب كان في أنه يحكم فورًا بالعقوبة حال ضبطه مخالفة ما، وكان يتولى بنفسه إزالة الفعل الضار -كإشغال الطريق العام مثلًا- ومعاقبة المخالف؛ أي أنه كان يمثل ما يمكن وصفه بـ «القضاء المُستَعجَل»، وكذلك كان يؤدي دور التنفيذ في تطبيق العقوبة وإزالة الفعل المخالف وآثاره.
وكان لمصر ثلاثة محتسبين، واحد بالقاهرة هو أعلاهم رتبة له تولية نواب له في الوجه البحري عدا الإسكندرية، وواحد بالفسطاط وله نوابه بالوجه القبلي، ومحتسب بالإسكندرية التي صارت لها حسبتها الخاصة منذ منتصف العصر المملوكي. وكان المحتسب عادة من «أهل القلم» إلا في حالات تولى فيها الحسبة بعض أمراء المماليك. وأشهر من قاموا بهذه الوظيفة كانوا المؤرخ تقي الدين المقريزي والمحتسب الشهير الحاج زين الدين بركات بن موسى الشهير بـ «الزيني بركات».
صاحب المظالم
هو السلطان نفسه، أو من ينوب عنه.
فقد كانت العادة أن يجلس السلطان يومين أسبوعيًا (الاثنين والخميس في دولة المماليك البحرية ثم الأحد والأربعاء في دولة الجراكسة ثم تغيرا إلى السبت والثلاثاء وأحيانًا الجمعة) في الحوش السلطاني، ويجلس معه قضاة القضاة من المذاهب الأربعة والمفتون وقضاة العسكر والمحتسب ووكلاء بيت المال والأمراء -ببروتوكول صارم يقدَم فيه أهل العمامة والفقه على أهل السيف من العسكريين- ويدخل عليه أصحاب المظالم سواء من العامة أو الجند أو التجار الأجانب أو السفراء، ويعرضون عليه قضاياهم سواء كانت قضايا خاصة أو كانت قضايا مرتبطة بالتظلم من ارتفاع الأسعار أو بعض القرارات الرسمية الجائرة.
وكان مجرد فتح هذا الباب أمام الرعية يعد من أوجه نشر الأمان بينهم في مقابل تخويف الأمراء الجائرين من عواقب جورهم خاصة لو كان السلطان معروفًا بالشدة في العدل، فكثيرًا ما كان يقع أن يحضر بعض الناس مختصمًا هذا الأمير أو ذاك فيأمر السلطان الأمير أن ينزل من مجلسه ويحاذي خصمه وربما قضى السلطان للخصم وأغلظ على الأمير.
ولكن من سلبيات هذا المجلس أن كثيرًا من الناس كانوا يطرقون باب السلطان لأمور تافهة بلغت حد أن امرأة شكت للسلطان قايتباي أن زوجها ضاجع جارية يملكها وأنها تغار منها، فأمر السلطان ألا يَعرَض عليه أمرًا إلا بعد أن يكون قد عُرِضَ أولًا على القضاء ولم يرضَ الشاكي من حكم القضاء فيه؛ وهذا تجنبًا لإضاعة الوقت والجهد في التفاهات.
ختامًا
في ميزان النظم القضائية بمقاييس عصره فإن النظام القضائي المصري في دولة المماليك كان متميزًا بدقة ترتيبه وتقسيمه للوظائف والمهام ورسم حدود الصلاحيات والاختصاصات النوعية والمكانية، كذلك فإنه كان يمثل تيسيرًا على المتقاضين بشكل يعتبر سابقًا لعصره إلى حد كبير.
ولكن في مقابل ذلك، فإن ارتباط مؤسسة القضاء تعيينًا وعزلًا بالسلطة الحاكمة، وتراجع مكانة القاضي في عين السلطان -حيث كان هذا الأخير يهاب الأول في النصف الأول من الدولة ثم انعكس الأمر تدريجيًا- ودخول عوامل المحسوبية والأسرية والتوارث في تولية وعزل القضاة، كل ذلك كان مما أثر سلبًا في تلك التجربة المتميزة بمقاييس ومعايير عصرها.
ومع ذلك، فإنها تبقى تجربة رائدة خاصة فيما يتعلق بمراعاة اختلافات المذاهب وما يترتب عليها من تنوع واختلاف احتياجات الناس.
- د.قاسم عبده قاسم: عصر سلاطين المماليك
- د.محمد سهيل طقوش: دولة المماليك في مصر وبلاد الشام
- عبدالرحمن بن خلدون: المقدمة
- القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشا
- د. علاء طه رزق: السجون والعقوبات في مصر عصر سلاطين المماليك
- د. حسن أحمد البطاوي: أهل العمامة في عصر سلاطين المماليك
- د. نجوان أحمد سعيد: الحسبة في مصر عصر سلاطين المماليك
- د. هاني حمزة: مصر المملوكية