الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فهذا (مقال في درس الدين) نعتزم نشره متتابعا متسلسلا إلى حيث يمده الله أو يمد لنا في العمر، ولعل الورقة التي بين أيديكم تكون أول ما ينشر منه، وكعادة كل كاتب فإننا نبدأ بالمقدمة التي تشرح ما بين ثنايا المقال، نجمل فيها ما تفصل فيه ونوضح فيها غرضه ومبتغاه الذي نرجو ألا يكون إلا خالصا لوجه الله تعالى.

أما دافعنا لكتابة هكذا مقال فهو الخوف قبل كل شيء. فإن العقول التي اختبرناها في عالمنا تنقسم من حيث افترائها على الدين إلى قسمين: قسم نخاف منه ومن فرية حامله على الناس، وهذا معني في مقالنا هذا، وقسم نخاف منه ومن فرية حامله على حامله الذي يحمله في جوف جمجمته ولا نخاف منه على الناس، وهذا القسم نوليه عناية أكبر في مقالنا.

فإن الأول تُرجى هدايته من تلقاء تذكُّره بنفسه أو من تذكير غيره له، أما الثاني وعلى نهجه جمع غفير من إخوتنا، فإن مشكلته في عقله، ومقالنا هذا معني بمشكلة عقل هذا القسم بلا شك.

والسبب في أننا لا نخشى من القسم الثاني على الناس أنك لتلحظ أن عامة الناس لا ينخدعون لأباطيل صريحة أو أقاويل متناقضة بسبب حفاظهم على سليقتهم وفهمهم، وإخوتنا في هذا القسم قد جاؤوا بالأباطيل والمفاسد حشدا لا يُخطئ إدراك بواره عقل عاقل من عامة الناس.

العقول تنقسم من حيث افترائها على الدين إلى قسمين: قسم نخاف منه ومن فرية حامله على الناس، وقسم نخاف منه ومن فرية حامله على حامله

والقسم الأول على ما يُؤخذ عليه من افتراءات فدليل اتساق افتراءاته أنها كثيرا ما تنطلي على الناس، لذلك نخاف منه على الناس، وإن اتساق الافتراءات لبرهان على سلامة عقل المفتري، وسلامة عقله هي شرط استعداده لقبول الهداية متى ما تذكّر بنفسه أو ذكّره آخرون.

وتدليلا على ما سبق؛ أما ترى أن النمرود في محاجته مع خليل الله إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) قد بُهت؟ وليس بهتانه إلا برهانا على سلامة عقله، فإن لم يكن سليم العقل لما بُهت، بل ولتمادى في غيه وضلاله، وما كان تماديه إذا تمادى إلا دليلا على فساد عقله، أما مسألة إيمانه من كفره فخضعت بعد بهتانه لهواه، ولربما صده الهوى مثلما يصد الكثيرين من عقلاء بني آدم عن قبول الحق ولو استيقنته أنفسهم.

إن القسم الثاني -وهو المعني بصورة أكبر- هو الذي نخاف من فريته على نفسه لا على الناس، ففريته من شدة نكارتها لا تنطلي على عاقل أبدا، فهي بما تحمله من تضاد في ذاتها تصد نفسها من أن تلج عقل عاقل، وهذا من رحمة الله بالناس ألا يقبلوا في دينهم قيد انتقاص أو بهتانا، بسليقتهم. إذًا فمشكلة القسم هذا مشكلة العقل ذاته؛ العقل الذي يحمل في جوفه كل متنافر ومتناقض، ما لم تحل مشكلة عقله الكامنة في داخله فلن يتذكر أبدا؛ ناهيك عن أن يبلغ الهداية التي هي بيد الله وحده.

معذرة إلى الله ولعلهم يرجعون؛ فإننا نوجه بعض المقال إلى إخوة لنا حاق بهم أشد بلاء في عالم الفهم والعلم، ألا وهو بلاء التقليد، فأصبحوا (تلاميذ غير نجباء) لأساتيذ الحداثة الفضلاء؛ فضلاء بعمق درسهم و إن اختلفنا معهم في المظهر والجوهر، وإن تقليد التلاميذ من إخوتنا لهم، لو عُرض على الأساتيذ أولئك لاستنكروه ولكرهوه بل وتقززوا منه؛ إذ فيه تعريف الشيء بغير ما عرّفوه وفيه تحريف الفهم بغير ما فهموه وفيه تلفيق الشيء بنقيضه، وإلصاق الضد بضده.

وتجدهم إذا عارضناهم بأقوال الأساتيذ قالوا لنا: «إن الأمر لم يعد كما عرفوه بل تبدل وتغير، وهو في حالة سيرورة لا متناهية». ولسان حالهم نحن أدرى من أهل الحداثة بشعابها! أو ربما قالوا لنا: «هو ليس له تعريف أصلا»! إذًا، دعونا نعلم، كيف تتحاورون فيما بينكم وتدعون الناس لما لا تعريف له أو لا ثبات في فهمه بل كله تغير واضطراب؟ فتأمل!

إن ما نعتزمه في مقالنا هذا، نقدا لا نخفي فيه تحيزنا جهة الإسلام ومبادئه وحججه وبراهينه، ولا نخفي أسس عقلانيتنا الدينية البرهانية في دعم حجتنا وتفنيد مقالة خصومنا من الأساتيذ قبل التلاميذ، فذلك نهج ربما أعاد للتلاميذ سلامة عقولهم، أو ربما دفعهم لإعادة النظر في تقليدهم الأعمى وتلفيقهم الأعرج.


والمطلع على مذاهب الحداثيين في درس الدين يجد أنها قد احتوت دعاوى وحيل؛ لعل أشهرها دعوى «أنسنة الدين» أي نسبة الدين إلى الإنسان كلية. وحتى لا يتقافز التلامذة بين أيدينا مدافعين، فقد أضفنا كلمة (كلية) هذه لقطع الطريق ومنع التهاوش، ونقصد بالنسبة هذه «النسبة المصدرية»، ومعناها أن الدين مصدره الإنسان ولا مصدر له غير الإنسان إطلاقا.

ومصدرية الإنسان للدين دعوى مشهورة تداولها الأساتيذ من أهل الحداثة في غير موضع، أما أشهر حيلهم فهي حيلة «تحرير اللاهوت من اللاهوتيين» أو بعبارة أخرى: «تحرير اللاهوت من الكنيسة»، ثم أوصلها الأساتيذ إلى آخر مداها كعادتهم حين قالوا: «تحرير الدين من الدين»، فهي موصولة بالدعوى سابقتها، بل هي التمهيد المؤدي حتما إلى الفرية الكبرى، أي «أنسنة الدين».

أمَّا عن الإخوة من التلاميذ غير النجباء فقد جاؤوا بالعجيب المحزن في الآن ذاته، عجيب من حيث تعجب العاقل منه، ومحزن من حيث شفقة العاقل على حال قائله!! وبمقايسة مع شدة الفارق، طبقوا ما طبقه الأساتيذ الفضلاء على اللاهوت المسيحي والكنسي، على الإسلام ومبادئه ومقولاته، لكن لقلة شجاعتهم حاموا حول حماه بالشك والتردد في الريب بالحيلة الأولى، وهي الأشد شهرة والأشد فسادا في الآن ذاته، وهي ما أسميناه «تعدد فهم الواحد»، ومثالها أننا إذا دعونا للإسلام في الحياة والسياسة قالوا لنا: «ليس هنالك إسلام واحد! إنما إسلام الشيعة والسنة والمعتزلة… إلخ».

وإذا دعونا إلى اتخاذ وحي الله مصدر معرفة وضابط فهم وفقه قالوا لنا: «ليس هنالك تفسير للقرآن واحد؛ إنما هنالك تفسير المتصوفة والمتكلمة والمحدثة و… إلخ».

أمَا حُقَّ لنا أن نتساءل: متى كان تعدد الشروحات والمفاهيم لأصل واحد ثابت قادحا في جدوى الأصل؟ إن كان ذلك كذلك، حُق لنا أن نقول بلا جدوى الماركسية ولا جدوى الليبرالية ولا جدوى الديموقراطية، فكم تكاثر حول السابقات الشراح والنقاد! لكن أنّى لمن ذرّ رماد التقليد في جفنيه أن يدرك حقيقة ما يقوله هو؛ ناهيك عن حقيقة ما يقوله غيره!

الدين في أبسط معانيه هو هدى الله المرسل إلى الإنسان، ولا يستقيم أن ينتقص الكامل الذي هو الله ولا يستقيم ان ينتقص المكمل الذي هو رسالة الهدى

والواجب ذكره لطرافته، أن الحيلة أعلاه لشدة بؤسها قد تجنبها الأساتيذ الفضلاء جميعا فما وجدت واحدا منهم قال بعيب في المسيحية لتعدد شروحها وممارسة تعاليمها (كاثوليكية وبروتستانتية وأرثوذوكسية و… إلخ) وما وجدت أحدا قد اعترض على اللاهوتيين المسيحيين بهكذا اعتراض وما ذاك إلا لوعي الأساتيذ الفضلاء بسهولة رد الحيلة المتهافتة، كما بينا في آخر الفقرة أعلاه لكن لا تعجب إذا جاء التلاميذ بها اعتراضا على دعوتنا للدين إلا إن كنت تحسب أن التلميذ يفوق أستاذه نباهة وعلما.

والحق أن نسبة أي غموض إلى فهم الدين -غموض يؤدي إلى صعوبة في تفسيره أو تعدد واختلاف يستحيل معه تطبيقه وامتثاله- إنما هي نسبة نقص إلى الدين، والدين إذا نسب النقص إليه كان المقصود بالتنقُّص أحد طرفيه: الله أو الإنسان. فالدين في أبسط معانيه هو هدى الله المرسل إلى الإنسان: «فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون» ولا يستقيم أن يُنتقص الكامل الذي هو الله ولا يستقيم ان يُنتقص المكمَّل الذي هو رسالة الهدى من عند الله: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا».

تبقى أن يُنتقص الناقص الذي هو الإنسان. ومن عجبي بالقرآن أن ذكر في غير آية مظهر هذا النقص في التعاطي مع الدين وهو تخبُّط الناس واختلافهم حول الكتاب المنزل اختلافا يوقع في الريب والشك في حقيقة الكتاب ونسبته لمرسله بمثل ما جرى لإخوتنا هؤلاء، فتدبر قوله تعالى: «ولقد آتينا موسى الكتاب فاختُلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب».

فأي توهم بنقص في دلالة الدين وقدرته على الهداية إنما مرده إلى المتلقي للدين وليس لمنزل الدين ولا للدين نفسه وذلك من قوله تعالى: «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور باذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم».

إحسانا للظن في إخوتنا، فهم قد نسبوا بمقالتهم حول (تعدد فهم الواحد) واتخاذها دليلا على غموض الدين -من حيث لا يدركون- النقص لمرسل الهداية، وحسن ظننا بهم هو الذي دفعنا لمقولة: (من حيث لا يدركون).

فكيف يكون لله الكمال بينما رسالته للبشر غير قابلة للفهم؟! ناهيك عن قابليتها للامتثال والتطبيق، وهذا لا مجال لتبريره إلا بنسبة الدين كلية للإنسان، فمن بعدها يمكننا القول بنقص في الدين وغموض في مقالته، إذ أن مقالة الإنسان ورسالته لا تنجو من تحيزاته ورغباته، فهي -أي رسالة الإنسان للإنسان- تراعي أحوال وأزمان قائلها مكان أن تراعي شمولها لكافة الناس عبر الزمان والمكان، وتراعي مصلحة قائلها مكان أن تراعي الحياد والعدل بين الناس كافة كيفما كان حالهم.

وما تسنى لإخوتنا ذلك إلا عبر «أرخنة الدين» وهي طامة أخرى كبرى جلبوها عبر المحاكاة والتقليد من مقلدين أمثالهم غير نجباء ولا مخلصين لأساتذتهم وليسوا بأمينين على تراثهم.

ونسبة الدين للإنسان -أي أنسنة الدين، لو تدبرتم، فطامتها أشد من نسبة النقص أوالغموض للدين. فالأولى ُتفقد الدين وظيفته، أما الثانية فتُفقد الدين إلزاميته وأخلاقيته، إذ أنه يصبح -أي الدين- رسالة إنسان لإنسان مثله، وإخوتنا إما واقعوا الأولى أو واقعوا الثانية فهم بين ريبين يترددون فتأمل!


والحيلة الثانية التي يستخدمها التلامذة هي «فصلُ الموصول»، فهم يفصلون من حيث يتعمدون الفصل بين كل منجز لامس أهواءهم من منجزات الحداثة وبين مبادئها الأصيلة التي حددت مساراتها على حد تعبير روادها ونقادها بـ(القطيعة مع الدين)، فلو قلنا لهم أن: الدولة الحديثة مثلا بوصفها نتاج المشروع الحداثي المفاصل للدين لا تصلح لأن تواءم مع الإسلام أبدا، قالوا: (ليست هنالك علاقة بين المسار اللاديني الحداثي والدولة الحديثة)! بينما تجد أساتذتهم في مراجعهم ومقولاتهم ومدارسهم يتعمدون فصل وإقصاء كل ما يمت بصلة للدين من حيز مصادر معارفهم، لكن الله ابتلانا بالتلامذة الأدرى بشعاب الحداثة من أساتيذها.


والحيلة الثالثة التي يستعملها التلامذة غير النجباء هي «ضمُّ المتناقض» فهم يتعمدون تلفيق كل منجز من منجزات الحداثة بمباديء الإسلام وأسسه ولأن ذلك لا يستقيم عقلا، إذ أن التضاد باذخ وواضح بين منجزات الحداثة ومباديء الإسلام فهم يعيدون تعريف منجز الحداثة بغير ما عرفه أساتيذها ويعيدون تعريف مبدأ الإسلام بغير ما هو عليه في مصدر الإسلام الأساس الموحى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وفاتهم أن هكذا فعل لا يرقى لأن يسمى بالحيلة وذلك لشدة سذاجته وسطحيته فبإعادة تعريف الشيئين بغير ما هما عليه نستطيع أن نقول أن كلا الشيئين هو الآخر ونستطيع أن نقول ألا شيء منهما يمت بصلة للآخر في الآن ذاته، فتأمل!


والحيلة الرابعة (انتقاء التاريخ) فتجدهم على تفريقهم بين الدين المنزل والدين الزماني أو بعبارة أخرى الدين والتدين- والذي هو من وجهة نظرنا تفريق صحيح- فهم يحمِّلون الدين المنزل بذاته كلَّ إخفاق حدث في تاريخ الدين بسبب أتباعه المتدينين وهذه من حيَل الأساتيذ التي لا تخفى؛ فنقاد المسيحية الإنسانويون عمدوا إلى إزهاق المسيحية عبر هدم مؤسستها الكنسية والتي تمور من أسفلها بمفاسد رجال الدين.

لكن التقليد الأعرج الذي مارسه التلامذة غير النجباء بتطبيق ذات النظرة على الإسلام ما كان له أن يُقبل إلا عبر انتقاء أسوأ فترات التاريخ الإسلامي -السياسي خصوصا- وإلصاقها بالإسلام، متغاضين من حيث يدركون عن أكثر فترات التاريخ الإسلامي إشراقا، أو قل يعمدوا إلى أكثر الفترات إشراقا فيه بالتشويه والإظلام فيبدو شائها كله ومنكرا جله.

فلو قلنا لهم نريد أن تحتكم السياسة إلى نهج الإسلام قالوا متهكمين (إنكم تعدوننا بدولة بني أمية وداعش) وهذه مقالة من لا يفرق بين الدين والتدين ومن عجبي أنهم يفرقون ودليل ذلك قولهم لنا (إن هذا ليس الإسلام إنما هو تفسيركم للإسلام) فتأمل! أما قلنا إنها مشكلة العقل الكامن في رأس صاحبه، إذ كيف لعاقل أن يقول بالأمر ثم بنقيضه في معرض جدال واحد؟ إلا أن يكون عقل هاوٍ أو متخبط.


الحيلة الخامسة «القطيعة مع التراث» وهي نتاج دراسات (تجزيئية انتقائية) عمدت إلى تاريخ الإسلام ونصوص من تراثه بآليات الحداثة الغربية الغريبة عنه، والحق أن مقولة القطيعة هذه قد ووجهت بنقد فندها من غير وجه وأول وجه أنها عمدت لقراءة التراث عبر ما هو غريب عنه- آليات الحداثة- فحاكمته بغير قيمه وبغير مصادره التي استمد روحها منه فظلمته.

الأصوب في مسألة التراث إعادة تقويمه من داخله رجوعا إلى الوحي المؤسس له وإلى التطبيق الرسالي التابع للوحي

والوجه الثاني أنها قراءات حفلت بالانتقاء والاقتطاع بحيث تعمد إلى أكثر الأحداث والنصوص شذوذا بمقياس الحاضر ومن ثم تعمم وصف هذا الشذوذ على التراث كله وتدعو بعد ذلك للقطيعة معه، وهي حيلة أفقدتها أدنى أسس الموضوعية فجاءت أقرب للمحاجة السياسية المغرضة منها إلى الدراسة الموضوعية.

أما الوجه الثالث أنها جعلت من من مصطلح التراث مصطلحا فضفاضا بحيث يشمل الدين والتدين والتاريخ ولنا أن نتساءل هل يشمل ذلك المصطلح الدين المنزل عند إخوتنا؟ إذ أنه عند ناحتيه (أركون مثلا) يشمل الدين وكتابه الموحى نفسه، بل ويخضعه لكل بدعة في الغرب قُصد منها دراسة الأدب والأساطير والخرافات وغيرها، كل آلية تفكيكية لا تراعي مصدرية الدين الإلهية بل تجزم بلا إلهية مصدره ناسبة إياه إلى الإنسان و(مؤنسنة للدين).

أما إن قالوا بأن التراث مشمول فيه الدين المنزل بكتابه وسنة رسوله، قلنا إن القطيعة مع التراث ليست إلا قطيعة مع الدين وهذا لعمري كبير على أن يقوله إخوتنا أو أن يصرحوا به ولو استبطنوه، وإن قالوا أنه لا يشملهما قلنا إن القطيعة مع التراث لتشمل جزءا عزيزا منه له بالغ الصلة بالكتاب الموحى والرسول المرسل وهو بمقياس الكتاب نفسه عمل صالح فأنى لنا بقطيعة مع عمل صالح بلغ المجتهدون في تحصيله وتبويبه وتصنيفه مبالغ يعز على التلامذة بلوغها ولو أضفنا لعمر كل منهم ضعفين من عمره المقدور له.

والأصوب عندنا في مسألة التراث إعادة تقويمه من داخله رجوعا إلى الوحي المؤسس له وإلى التطبيق الرسالي التابع للوحي، فالكتاب كما نجزم بذلك مرجع يُحتكم إليه في تقويم فعائل الناس، غير متناسين ولا متغاضين لظروف سلفنا التي حتمت عليهم مواقعة ما واقعوه بل ملتمسين العذر لهم وداعين الله المغفرة على سوء أفعالهم ومباركة حسن أفعالهم سائلين الله أن يغفر لإخوتنا الذين سبقونا بالإيمان وألا يجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا إنه غفور رحيم.

والتقليد في الحيلتين الرابعة والخامسة بارز لا يخفى على أحد، وهو معروف في بني آدم، في صورة تقليد الأبناء للآباء والأجداد، وربما تجد العذر لمن قلد آباءه وأجداده؛ إذ قد تدفعه عصبية الدم وسطوة التاريخ فتفقده منطقه وعقله (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون). أما الذي يقلد من لاعصبية دم ولا اشتراك في تاريخ بينهما ؛ فلا نجد له العذر ، بل نجد تقليده منبع للإتيان بالعجائب ومعين ينضح بالغرائب ودونكم حال إخوتنا في تقليدهم للأساتذة الحداثيين.

ولأن حيل التلامذة لا تخفى سذاجتها ؛ ما أفسحنا لها في مقالنا عريض فسحة ، بل اكتفينا بذكرها في المقدمة عرضا سريعا، حتى نفسح المجال الأرحب لدعاوى الأساتذة وحيلهم ومن ثم الرد عليها وتفنيدها في مقبل السطور. أما ما كان في مقالنا هذا من خطأ فهو من تقصيرنا وتحيزنا وما كان فيه من توفيق فهو من الله وحده، ولو استشعر اخوتنا غلظة وتنكيلا فهي ليست غلظة على ذواتهم ولا تنكيلا بشخوصهم إنما على افتراءاتهم وتجنيهم وسوء ما اقترفته أذهانهم.