الإسكيتامين: بخاخ أنفي يعالج الاكتئاب المستعصي من أول جرعة
ليست هذه جملة حوارية من جلسة مريبة لاستنشاق المواد المخدرة، إنما وصفة طبية قد ترِد كثيرًا على ألسنة أطباء نفسيين كُثُر حول العالم في السنوات المقبلة.
وما أدراكَ ما الاكتئاب!
لا يحتاج مرض الاكتئاب للإطالة في المقدمات، فالكثيرون منا أصبحوا على علمٍ جيدٍ به، بعض هذا العلم من معايشتنا لهذا القاتل المتغلل في أعماق النفس، والذي أصبح من سمات العصر الحالي، ولا نتهم بالمبالغة من يستخدم مصطلح وباء الاكتئاب، كنايةً عن معدل انتشاره الرهيب.. قتل الاكتئاب عام 2016م أكثر من 44 ألف أمريكي بدفعهم إلى الانتحار، وأفسد حياة الملايين بإطفاء روحهم، وقتل سعادتهم بحد سكينه البارد، خاصة من صغار السن، إذ يعتبر من أكثر الأمراض فتكًا بالمراهقين.
على مدى عشرات السنين من البحث، والدراسات المكثفة، نجح الطب في قطع أشواطٍ كبيرة في فهم هذا المرض الخبيث، بمختلف درجاته، وتنويعاته، ومن ثَمَّ تقديم العديد من طرق العلاج المدعَّمة بالأدلة.
أمامنا في أسواق الدواء النفسي الآن العشرات من أدوية الاكتئاب، من مجموعاتٍ دوائية مختلفة، والتي تنجح في حالاتٍ عديدة في علاج المرض عن طريق تعديل كيميائية المخ، أو على الأقل تحد من توحشه، وتقلل احتمالات الوقوع في مضاعفاته الخطيرة، وعلى رأسها الدافعية للانتحار. ويدعم هذا العلاجَ الدوائيَّ العشرات من طرق العلاج النفسي والسلوكي، للتعامل مع الأفكار، والثغرات العاطفية، والنفسية، التي يتسلل من خلالها الاكتئاب. وهناك الصدمات الكهربية الشهيرة، والتي يتم اللجوء إليها في الحالات المستعصية.
رغم كل تلك الترسانة من علاجات الاكتئاب، فما يزال مئات الآلاف حول العالم معرضين للموت انتحارًا، وهناك الملايين من حالات الاكتئاب المستعصية التي لا يجدى معها نفعًا كل ما نملك من أسلحة ضد الاكتئاب. وهذا هو سبب الضجة التي دوَّت في العالم هذا الأسبوع، ومصدرها كان الولايات المتحدة الأمريكية.
اقرأ أيضًا: كيف تتعامل مع صديق تبدو عليه أعراض مرض الاكتئاب؟
هل دخلنا عصرًا جديدًا في مواجهة القاتل الأسود؟
«والتر دن»، أستاذ الطب النفسي بجامعة كاليفورنيا، والمستشار بهيئة الغذاء والدواء الأمريكية، وأحد المؤيدين للدواء الجديد
لأول مرة منذ سنواتٍ يحصل دواء جديد للاكتئاب على اعتماد هيئة الغذاء والدواء الأمريكية، والتي تعد من أكثر مؤسسات العالم موثوقية في اعتماد الأدوية الجديدة بمختلف تخصصات عملها، وتشتهر باشتراطاتها العلمية الكثيرة قبل الموافقة على العقاقير الجديدة.
اسم الدواء الجديد هو «إسكيتامين – Esketamine»،وهو من عائلة قديمة جديدة، إذ هو ابن عم الكيتامين. ويعتبر ظهور الإسكيتامين، واعتماده الأخير في عالم علاج الاكتئاب، تتويجًـا لدراساتٍ سابقة توصَّلت لبعض النتائج الإيجابية لاستخدام الكيتامين وريديًّا للسيطرة على حالات الاكتئاب الشديد المقاوم للعلاجات القائمة. بالأساس، يستخدم الكيتامين منذ ستينيات القرن الماضي كمخدر ومسكن للآلام في العمليات الصغرى، والتدخلات الطبية السريعة مثل مناظير الجهاز الهمضي … إلخ، لكن استخداماته في عالم التخدير تضيق شيئًا فشيئًا، لظهور بدائل أكثر أمنًا، فالكيتامين يحمل خطرًا بارزًا للإدمان.
ينتمي الكيتامين إلى ما يسمى بالمخدرات الانفصامية، وهو مضاد لمستقلات NMDA بالمخ، فخلال دقائق يجعل الشخص غير واعٍ بما حوله، رغم أنه فعليًّا غير نائم تمامًا، حيث يمكنه أن ينفذ الأوامر، ومن هنا كان استخدامه في التدخلات الطبية التي تحتاج المريض مخدرًا بشكل طفيف، للحاجة لقيامه ببعض المساعدة كالبلع في حالة المنظار مثلًا … إلخ.
يسبب الكيتامين خلال دقائق شعورًا بالنشوة، والانفصال عن الواقع، وفي الجرعات الكبيرة، يشعر الشخص كأنه غادر جسمه. قد يستمر تأثير الكيتامين لمدة ساعة، ولذا يشيع تعاطيه في الحفلات – اسمه الحركي في عالم الإدمان ك المتميز – خصوصًا مع مرونة طرق تعاطيه (الحقن، البلع، الاستنشاق … إلخ). ومن أخطر صفاته أنه عديم اللون والرائحة، مما سهَّل استخدامه في بعض الجرائم المروعة كالاغتصاب.
هذا الملف الشخصي سيئ السمعة للكيتامين هو السبب في نفور الكثير من الاختصاصيين منه كعلاج محتمل للاكتئاب، ولذا فلم يحظَ بموافقة هيئة الدواء والغذاء الأمريكية كدواءٍ للاكتئاب على عكس ابن عمه الإسكيتامين.
يمتاز الإسكيتامين بأنه أشد قوة من الكيتامين كمضادٍّ للاكتئاب، لكن بآثار جانبية نفس-انفصامية أقل. وكذلك فإن طريقة تعاطيه التي أقرتها الهيئة، هو الاستنشاق، تحافظ على الفعالية، وتقلل الآثار الجانبية مقارنة بالحقن الوريدي، وكذلك تجنب المريض الآثار الجانبية العامة للحقن الوريدي، مثل تلوث الدم بالبكتيريا، أو تسرب الدواء خارج الوريد مسببًا الالتهاب … إلخ.
أما الميزة الكبرى التي تستحق كل هذا الزخم، فهو قدرة الإسكيتامين – الاسم التجاري للبخاخ المحتوي عليه هو إسبرافاتو Spravato – في السيطرة على أعراض الاكتئاب خلال نصف ساعة فحسب من التعاطي، وتلك نقلة هائلة في مجال علاج الاكتئاب، لأن العلاجات التقليدية تحتاج إلى أسابيع من التعاطي المنتظم حتى تبدأ تأثيراتها في الظهور. مثل تلك الأسابيع تكون خطيرة للغاية في الحالات المستعصية، إذ أن الطبيب غالبًا ما يحتاج إلى التنقل من من دواء لآخر لحين الوصول إلى المناسب، وقد يستغرق هذا الأمر شهورًا، قد تكون كلفتها على المريض باهظة للغاية معنويًّا.
أما الميزة الأخرى للإسكيتامين، فهو أن تعاطيه يكون مرتين أسبوعيًّا فحسب، مقارنة بالأدوية الحالية التي غالبًا ما تحتاج إلى جرعاتٍ يومية.
هل نرى الإسكيتامين في صيدلياتنا قريبًا؟
ما زال الوقت مبكرًا قبل الحديث عن الانتشار الواسع والعالمي للعقار الجديد، خاصةً مع القيود والاشتراطات التي فرضتها هيئة الدواء والغذاء الأمريكية من أجل التصريح باستخدامه. أولًا، يقتصر استخدامه على حالات الاكتئاب المستعصي التي لم تستجِب لاثنين فأكثر من الأدوية التقليدية. ثانيًا، لا بد من تعاطيه في عيادة طبية متخصصة أو مشفى تحت إشراف الطبيب، ويبقى المريض تحت الملاحظة لساعتين على الأقل قبل الدواء، للتأكد من عدم ظهور آثارٍ جانبية. كذلك يُمنع المريض من قيادة السيارة لمدة ليلة كاملة.
أما العائق الإضافي الكبير للغاية، فهو التكلفة المادية الباهظة. أعلنت شركة جونسون آند جونسون المنتجة للعقار الجديد أن تكلفته ستتراوح بين 5 آلاف و7 آلاف دولار أمريكي في الشهر الأول، ثم تنخفض في الشهور التالية إلى ما بين 2000 و 3500 دولار أمريكي شهريًّا. وستختلف مدة التعاطي والجرعة، حسب التقييم الفردي لكل حالة. ومن المتوقع أن شركات التأمين في الولايات المتحدة الأمريكية ستفرض قيودًا أكبر قبل صرف مثل هذا الدواء باهظ التكلفة.
ونظرًا للخطر القائم من احتمالات الإدمان وسوء الاستخدام فإن شركة جونسون آند جونسون قد وضعت – استجابةً لمعايير هيئة الدواء – برنامجًا بعنوان استراتيجيات تقييم وتخفيف الخطر، لتحديد المراكز الطبية النفسية المصرَّح لها باستخدامه.
رغم تلك العوائق السابقة، فمن المبشر للغاية أن المزيد من العقاقير سريعة المفعول تمر بمراحل مختلفة من البحث الآن، وسيكون الإسكيتامين قد مهَّد لها الطريق، وافتتح عصرًا جديدًا في مقاومة الاكتئاب.