هكذا تميزت فرقة «إسكندريلا» عن غيرها من فرق الأندرجراوند
بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، انتشر مفهوم فرق «الأندر جراوند». كان المفهوم جديدًا على الجيل الأصغر من الشباب في هذا الوقت، لكنه بالطبع لم يكن وليد الثورة، بل إن جذوره تمتد إلى القرن السابق عليها.
يرجع المفهوم، والذي يعرف أيضًا بالـ«الفرق المستقلة» إلى ستينيات القرن العشرين، وهو المفهوم الذي يعبر عن كل أشكال الموسيقى التي تمردت على القواعد التقليدية لإنتاج وتوزيع الأعمال الموسيقية، ومن بين هذه الفرق اشتهرت في السبعينيات والثمانينيات أسماء مثل «الجيتس»، و«الفور إم»، و«المصريين»، و«طيبة»، وغيرها.
اكتسبت الفرق المستقلة زخمًا جديدًا بعد ثورة التكنولوجيا،إذ قام الفنانون بطرح أعمالهم التي سجلوها لأنفسهم على الإنترنت ودون أي تكلفة تذكر، وهو ما مثل ثورة على الشكل التقليدي لإنتاج وتوزيع الموسيقى والتي بلغت ذروتها مع ظهور موسيقى المهرجانات.
ثم جاءت نقطة التحول الثانية والهامة لموسيقى الأندرجراوند مع الزخم التي اكتسبته بعد ثورة 25 يناير 2011، إذ وجدت فيها شرائح واسعة من الشباب صوتًا مستقلًا معبرًا عن أفكارهم ورؤيتهم الخاصة للحياة والسياسة والمجتمع، فضلًا عن رؤيتهم للثقافة والفنون. كان عدد من هذه الفرق، مثل «وسط البلد»، و«مسار إجباري»، و«كايروكي»، قد سبقت تجربته ثورة يناير، ثم أصابها قبس من الثورة فازدادت بريقًا ولمعانًا.
بدأت هذه الفرق طريقها من ساقية الصاوي، والتي كانت بمثابة مجاز بلاغي لدورها في رواج الموسيقى المستقلة وفرق الأندرجراوند، فالساقية هي التي حملت مياه هذه الفرق التي جرت تحت الأرض، لتسري فوقها، وتصل إلى شريحة واسعة من الجمهور المتعطش لمنتج فني بديل عن المنتج الرسمي والتقليدي. ومن بين هذه الفرق برزت تجربة فرقة «إسكندريلا» بشكل متفرد يميزها عن غيرها من الفرق المستقلة.
ظهرت فرقة إسكندريلا بشكل بارز خلال أيام الثورة الثماني عشر، وبدأت شهرتها في الانتشار من قلب الميدان الذي أشعلوه بأغاني «الشيخ إمام»، والشيخ «سيد درويش»، فضلًا عن أغنيتهم الأشهر في حينها «يحكى أن». غير تأسيس الفرقة كان أسبق من هذا التاريخ ببضع سنوات.
تأسست الفرقة عام 2005 على يد ملحنها وعازفها الأول «حازم شاهين» مع مجموعة من أصدقائه. والاسم في الأصل هو عنوان لأوبريت كتبه الشاعر «خميس عز العرب». تفرق الأصدقاء وهاجر من هاجر، ثم عاد حازم شاهين ليؤسس فرقة جديدة حملت نفس الاسم. يحكي حازم شاهين أنه أثناء قيامهم بحجز حفلتهم الأولى بساقية الصاوي، سأله المنظمون عن اسم الفرق، ولم يكن قد استقر على اسم للفرقة الجديدة بعد، فاختار الاسم القديم، لتقدم الفرقة أول عروضها بساقية الصاوي باسم إسكندريلا.
بدأت الفرقة بتقديم أغاني الشيخ إمام، والشيخ سيد درويش، وزياد رحباني، ثم عكفت على إعداد أغانيها الخاصة بدءًا من عام 2006، عندما قام حازم إمام بتلحين بعض الأشعار لأمسية خاصة لفؤاد حداد، وفي العام نفسه أعد حازم بعض الألحان لأمسية بعنوان «ﻻزم تعيش المقاومة» لأشعار فؤاد حداد، ورشدي الشامي، وأحمد حداد.
الأغنية المسرحية
يرى البعض أن الشكل الذي تقدمه فرقة إسكندريلا هو إعادة تدوير لأغاني الشيخ إمام والشيخ سيد درويش، غير أن الأمر أبعد من ذلك. بالطبع هناك تأثر واضح بالشيخين، تأثر ﻻ ينكره حازم شاهين نفسه، والذي يقول إن الشيخ إمام كان صديقًا لوالده، وأنه رآه كثيرًا في منزلهم وسمع أغانيه وتأثر بها منذ صغره وساهمت بشكل كبير في تشكيل هويته الموسيقية. وعن سيد درويش يقول:
وعلى الرغم من كل ذلك، فإن فرقة إسكندريلا استطاعت أن تطور شكلًا مميزًا وخاصًا بها، يبدو فيه التأثر بتجربة الشيخين لكن يحمل بذوره الخاصة وسماته المتفردة كذلك. هذا الشكل المميز هو ما يمكن أن نطلق عليه «الأغنية المسرحية».
ونحن هنا بالطبع ﻻ نقصد المسرح الغنائي، الذي يقدم الدراما في صورة حوار غنائي، وهو الشكل الذي سبق للفرقة تقديمه من خلال مسرحية «من القلب للقلب» من أشعار أحمد حداد، ولكن في حالة إسكندريلا فالأغنية هي عمل يقدم الدراما والموسيقى في وجبة مصغرة وذلك اعتمادًا على العناصر التالية.
الموسيقى الناطقة
أبرز العوامل المشكلة للأغنية المسرحية عند إسكندريلا هي الألحان التي تعطي الأولوية للمعاني والأفكار. فالموسيقى هنا ليست مجرد وسيط فني لنقل الحالة الانفعالية أو المشاعر المختلفة التي تحملها الكلمات، ولكنها تساهم في رسم صورة كاملة للمعاني والأفكار.
فعلى سبيل المثال، في أغنية «قطر الصعيد» نرى أن المقدمة الموسيقية والتيمة اللحنية الأساسية للأغنية اعتمدت على محاكاة الإيقاع التقليدي لصوت حركة القطار على القضبان. أما في الأغنية «الكورة الأرضية» والتي تقوم فكرتها على حوار بين فضائيين يقومون بوصف الكرة الأرضية، تبدأ الأغنية بمقدمة موسيقية يقوم فيها عازف الأورج بتقديم عدد من الأصوات الإلكترونية الشبيهة بالمؤثرات الصوتية السينمائية المستخدمة للتعبير عن الفضاء.
وفي أغنية «الدباديب» تبدأ الأغنية بإيقاع هادئ لموسيقى التهويدة أو Lullaby، في إشارة إلى الدباديب الوديعة التي يحلو للأطفال احتضانها أثناء نومهم، ثم تبدأ الفرقة في غناء الكلمات: «الدباديب في اللعب أليفة، ليه في الغابة بتبقي مخيفة».
تقوم الأغنية على المفارقة بين وداعة الدباديب القطنية، وبين حقيقة أن الدببة في الأصل هي حيوانات مفترسة، ولذلك عندما تتطرق كلمات الأغنية إلى الدببة -وهي هنا مجازًا للقوة العسكرية في إشارة إلى المجلس العسكري الذي حكم مصر فيما بين تنحي الرئيس مبارك وتولي الرئيس محمد مرسي السلطة- يتحول الإيقاع إلى ما يشبه المارشات العسكرية بينما الفرقة تغني: «الدببة دبدبوا في الأرض، وقالوا كفاية يا مظاهرات».
نرى هنا أيضًا توزيعًا متكافئًا بين الأصوات النسائية وخاصة صوت سلمى حداد وأدائها الطفولي للكلمات المرتبطة بالدباديب: «الدباديب مش دببة،ياختي عليها الله يحرسها»، وبين الأصوات الذكورية وأدائها الخشن للكلمات المرتبطة بالدببة: «الدببة زي الدبابة، رجل تدب وصوت بيزمجر».
وهكذا نرى أن اللحن يعتمد بالأساس على تجسيد الأفكار والمعاني التي تحملها الكلمات، وهو ما يبرع فيه حازم شاهين الذي يستطيع أن يبتكر الكثير من الحلول الذكية لإضفاء هذا الطابع على ألحان الفرقة المختلفة، وعلى توزيع الأدوار بين أعضائها.
الأداء الجماعي والتمثيلي
يقول حازم شاهين إن فرقة إسكندريلا هي أول فرقة اتخذت طريق اتجاه الغناء الجماعي الذي أسسه الشيخ سيد درويش. كما اعتمد الشيخ إمام بشكل كبير على نوع من الأداء التمثيلي لكلمات أغانيه، كما في أغنية «عبدالودود»، وأغنية «دلي الشيكارة» التي يؤديها باللكنة الصعيدية، أو في أغنية «شرفت يا نيكسون بابا» والتي يغلب عليها الأداء الهزلي الساخر.
وبالإضافة إلى الشيخين، تأثرت إسكندريلا أيضًا بالرحابنة ومسرحهم الغنائي، وخاصة زياد رحباني، غير أن فرقة إسكندريلا طورت من هذا الشكل واعتمدت عليه كسمة مميزة لها.
من أكثر السمات المثيرة في فرقة إسكندريلا هو خلو الفرقة من مطرب محترف، فأعضاء الفرقة جميعهم مؤدون أكثر منهم مطربين، فليس منهم صاحب صوت قوي أو جذاب يمثل واجهة طربية للفرقة، كما في حالة على الهلباوي مع فرقة «مسار إجباري»، أو هاني عادل مع فرقة «وسط البلد»، وإنما تعتمد الفرقة بالأساس على الأداء الجماعي والتمثيلي للكلمات، حيث تتوزع الأدوار على حسب شخصية كل عضو في الفرقة وطبقة وخامة صوته المميزة، كما سبق وأشرنا إلى الدور الذي تلعبه سلمي حداد في أغنية «الدباديب».
وهنا تجدر الإشارة أيضا إلى أن الأداء الجماعي عند إسكندريلا لا يعني مجرد قيام أعضاء الفرقة بدور الكورال في ترديد الكوبليهات المختلفة، ولكن الأمر يتجاوز ذلك إلى قدرة كل عضو على أداء دوره سيما في الأغاني التي تتضمن حوارًا وليس مونولوجًا، ومدى ملاءمة طبقة صوته لهذا الدور، فنرى مثلًا في أغنية «الكورة الأرضية» أن هناك عددًا من الفواصل التي تقوم بأدائها «عليا شاهين» وتحاكي فيها صوتًا إلكترونيًا لإنسان آلي يقوم بإلقاء المعلومات المختلفة عن الكرة الأرضية، كأن تقول:
نرى ذلك أيضًا في أغنية «ده جمب ده» عندما يقوم حازم شاهين بمحاكاة أداء الترانيم الكنسية في غنائه لكلمات: «يا مرقص يا بطرس، يا مريم يا عدرا». ونراه أيضًا في أغنية «بالعبري الفصيح» عندما تقوم عضوات الفرقة بتقديم محاكاة ساخرة لأسلوب الكلام التقليدي التي يظهر بها اليهود في السينما المصرية، والتي تمثل صورتهم الذهنية في العقل الجمعي المصري والعربي، لدى غنائهن لكلمات مثل: «إحنا يهود مساكين، تهنا يا عيني سنين، ورجعنا لفلسطين، في قلبنا أشواق».
الهتافات الحماسية
ارتبطت الانطلاقة الحقيقية لفرقة إسكندريلا بثورة يناير، وما مثلته من أفكار عن الحرية والعدالة الاجتماعية، وهو ما شكل نوع الأغنية التي تقدمها الفرقة والتي اعتمدت بشكل أساسي على أشعار أمين حداد، وأحمد حداد.يقول حازم شاهين، إن جزءًا أصيلًا من تأثر الفرقة بسيد درويش يكمن في تقديمها لأغنية مختلفة عن التوجه السائد والمتمثل في أغان فردية تتخذ من الحب والغرام موضوعًا لها.
واعتمادًا على عنصري اللحن والأداء الجماعي، جاء العنصر الثالث، موضوع الأغنية، متكاملًا ومتلائمًا مع الشكل الذي رسخته الفرقة ليميزها عن غيرها من الفرق المستقلة، وهو ما تجسده فكرة الهتافات الحماسية. فالعديد من أغاني الفرقة اعتمدت بالأساس على تفاعل الجمهور مع الكلمات، كما صممت ألحانها على إيقاعات الهتافات الثورية التي ملأت البلاد خلال أيام الثورة الثماني عشر وما تلاها، لا سيما أن أغلب عروض الفرق في عام الثورة الأول كانت عروضًا مفتوحة ومجانية في الشارع، وليست في المسارح والمراكز الثقافية.
ومن ذلك نجد مثلًا أن أغنية «الحرية من الشهداء» هي مطلب جماهيري ثابت في كل حفلات إسكندريلا، والتي اعتمد جانب كبير من لحنها على إيقاع هادر للهتافات الحماسية الذي يدفع الجمهور إلى التفاعل بنهاية الأغنية عندما يصيح أعضاء الفرقة: «والحرية؟»، ليرد الجمهور «من الشهداء».
نرى الأسلوب نفسه في أغنية «هنفضل ثورجية» التي تقوم مقدمتها بالأساس على هتاف «هنفضل ثورجية، لحد ما نوصل للحرية»، وتخلو من أي أدوات موسيقية باستثناء عود حازم شاهين الذي يتابع إيقاع الهتاف. الأمر نفسه يتكرر مع أغنية «الليلة ثورة»، والتي تقوم على تفاعل الجمهور بترديد الكلمات في صورة هتاف، فتقول الفرقة «الليلة»، ويرد الجمهور «ثورة».
نرى هنا ملمحًا آخر من ملامح التأثر بتجربة الشيخ إمام، والذي جاءت معظم أغانيه في قالب تفاعلي حيث الجمهور يتفاعل ويشارك في الإلقاء والغناء. في أحد تسجيلات أغنية «بقرة حاحا»، يستهل الشيخ إمام الأغنية بمخاطبة الجمهور بقوله «هتردوا معانا.. قولوا حاحا بس». ويستجيب الجمهور بالفعل ويردد الكلمة مع الإيقاع، فيقول الشيخ إمام: «والبقرة حلوب» ليرد الجمهور «حاحا» كما لو كان شريكًا أصيلًا في الأداء، وآلة إيقاعية إضافية.
كان الحراك الثوري الذي أعقب أيام يناير/كانون الثاني 2011 وقوداً دافعًا للعديد من الحركات الفنية بمختلف المجالات، وكانت الموسيقى، وبشكل خاص فرق الأندرجراوند أو الفرق المستقلة، من أكبر المستفيدين من هذا الحراك، ومن بين التجارب الكثيرة التي انبثقت بعد الثورة، أو تلك السابقة عليها واستغلت زخمها، برزت تجربة فرقة «إسكندريلا» بشكل شديد التميز، اعتمادًا على نوع مختلف من الموسيقى والأداء الجماعي والتمثيلي لأفكار سياسية مباشرة عن الحرية والعدالة الاجتماعية.