التصعيد ضد إيران وترتيب البيت السعودي: أيهما يخدم الآخر؟
خلد «سعد الحريري» اسمه في التاريخ كأول رئيس وزراء يستقيل من على أرض دولة أخرى وبمسوغات أقرب لمصالح الثانية منها لمصالح دولته. وبعيدًا عن نقاش «الزعامة» المفترضة للحريري في مواجهة المشروع الآخر في لبنان في ظل هذه الصورة التي عكسها عن نفسه في سياق الاستقالة وظروفها وتفاصيلها، إلا أن الحدث دفع الكثيرين للحديث عن مواجهة وشيكة بين السعودية وإيران. ويبدو أن مما عزز هذه الفرضية في أذهان الكثيرين تزامن الاستقالة مع الصاروخ الذي قيل إن الحوثيين استهدفوا به الرياض، والنبرة السعودية العالية تجاه إيران من جهة ولبنان -وليس فقط حزب الله- من جهة أخرى على لسان الوزير «ثامر السبهان».
الإشكالية أن كل ذلك، بما يمثل من فتح جبهة خارجية صعبة، ترافق مع أجندة سعودية داخلية محمومة تضمنت توقيف العشرات ما بين أمراء ورجال أعمال ومسؤولين سابقين وحاليين أضيفوا إلى الدعاة والأكاديميين الذين سبق توقيفهم إضافة لوضع يد الدولة على أملاكهم تحت عنوان مكافحة الفساد. والسؤال الذي يتبادر للذهن هنا: هل من الذكاء فتح كل هذه الجبهات، إضافة للجبهات العسكرية والسياسية المفتوحة في اليمن ومع قطر وغيرها، مرة واحدة وعلى أعتاب انتقال متوقع للسلطة في المملكة من الملك سلمان لابنه وولي عهده؟.
فرضية المواجهة
يقول أحد الإعلاميين السعوديين البارزين منتقدًا سياسات بلاده مؤخرًا ما معناه إنها ترفع صوتها في وجه إيران حين تعلو نبرة الغرب تجاه الأخيرة وتنكفئ حين تتراجع تلك النبرة، بما يعني الاتكال على العامل الخارجي في المواجهة معها.
اليوم، يتبنى الرئيس الأمريكي خطابًا تصعيديًا ضد إيران، سيما فيما يتعلق بصواريخها الباليستية والاستياء من الاتفاق النووي، كما أقر الكونغرس في الـ 25 من تشرين الأول/أكتوبر الفائت حزمة من ثلاثة مشاريع ضد الحزب لحث الاتحاد الأوروبي على تصنيفه كمنظمة إرهابية، وتوسيع نطاق العقوبات المالية والاقتصادية عليه، ومعاقبته على «استعمال المدنيين كدروع بشرية» في حرب 2006.
هذا التوجه الأمريكي، أو الترمبي تحريًا للدقة في ظل انقسام دوائر صنع القرار في واشنطن، أسعَدَ ولا شك الرياض التي لطالما استاءت من سياسة الإدارة الأمريكية السابقة إزاء إيران والتي توجت بالاتفاق النووي.
أكثر من ذلك، فقد واكب الرئيس الأمريكي الإجراءات الداخلية بخصوص «مكافحة الفساد» مؤيدًا لها على توتير ومعربًا عن ثقته بالملك سلمان وولي عهده اللذيْن «يعرفان ما يفعلانه». وهو تصريح يذكرنا أولاً بنشوب الأزمة مع قطر بعد زيارة ترمب وعقده «القمة الأمريكية – الإسلامية» في الرياض، لكنها تذكرنا أيضًا بالضوء الأخضر الذي أعطته السفيرة الأمريكية السابقة في بغداد أبريل غلاسبي لصدام حسين لغزو الكويت باعتباره «شأنًا داخليًا» لا تتدخل به واشنطن.
توحي الطريقة التي قدم بها الحريري استقالته والكلمات التي استعملها بسيناريو تصعيد على المستوى الإقليمي، ولعل تهديد الوزير السبهان لحكومة لبنان باعتبارها «حكومة حرب» وغيرها من تصريحاته تصب في ذات السياق.
ولعل من أهم العوامل التي تدفع بهذا الاتجاه الانطباع الذي تركه عن نفسه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، لجهة القرارات السريعة والحادة عالية السقف، مثل عاصفة الحزم والأزمة مع قطر اللتين ارتبطتا باسمه، فضلاً عن الاعتقالات الأخيرة.
أكثر من ذلك، تبدو إيران كعدو مشترك مؤخرًا لكل من السعودية ودولة الاحتلال الأمر الذي قربهما أكثر من أي وقت مضى، وباتت أخبار اللقاءات التطبيعية أكثر تواترًا من لقاءات بعض المسؤولين العرب مع بعضهم البعض، وهو ما ربطه البعض بما سمي «صفقة القرن» ويمكن ربطها بشكل منطقي أكثر بمشروع التطبيع الخليجي- العربي مع العدو الصهيوني.
ومما يضاف لكل ذلك مضمون الخطاب السياسي والإعلامي في الخليج مؤخرًا من مختلف الأطراف، بما يوحي بأنه لا حل دبلوماسي قريبًا للأزمة الخليجية، بما يترك أحد سيناريوهين فقط على الطاولة؛ بقاء الأزمة على حالها بلا أفق زمني أو حلها عبر السيناريوهات الكارثية.
أخيرًا، تدفع متابعة حسابات وسائل التواصل الاجتماعي التي تدور في فلك المملكة من السعوديين والعرب إلى وضع احتمالات التصعيد في الحسبان، سيما وأنهم يتحدثون صراحة عن «حل عسكري» ضد حزب الله في لبنان، كخطوة أساسية في معركة المواجهة مع طهران.
الأهم هي الأجندة الداخلية
بالنظر إلى تلك العوامل وغيرها، يعتقد الكثيرون بأن طبول الحرب بدأت تقرع في المنطقة بغض النظر عن مكانها وتوقيتها وأطرافها ومن باب أولى مآلاتها. ولأن قرار المواجهة يحتاج لجبهة داخلية متماسكة وموحدة وصلاحيات واسعة لرأس القيادة السعودية، ولي العهد في هذه الحالة، لكن نظرة أعمق لتوازنات المنطقة ومتغيراتها في الآونة الأخيرة قد تشير إلى استعجال هذا التحليل، إذ لا يبدو وفق المعطيات المنطقية أن المنطقة ذاهبة للحرب أو المواجهة.
فالحرب المفترضة، والتي يُتحدث أنها ستكون على شاكلة «عاصفة الحزم» وعلى يد التحالف العربي، لن تحصل على الغالب على غطاء دولي إذ تبدو روسيا حريصة على تثبيت وقف لإطلاق النار في سوريا لوقف استنزافها هناك وتحويل انتصاراتها العسكرية إلى اتفاق سياسي.
كما أن اليمن التي شهدت عاصفة الحزم ما زالت شاهدة على عدم قدرة الرياض على «الحزم» أو حسم الأمور بعد أكثر من سنتين ونصف على بدئها، فضلاً عن الأزمة الخليجية المستمرة دون أفق لحل يرضي الرياض على الأقل.
الأهم، أن تغريدات ترمب لا تبدو معبرة – كما في أزمات أخرى – عن جوهر الموقف الأمريكي، إذ ثمة اختلافات واضحة بين ما يقوله الرجل وبين موقف مختلف المؤسسات المشاركة في صنع القرار سيما البنتاغون والخارجية والـ CİA والتي رصد تقرير لصحيفة واشنطن بوست قبل أيام عدم توافقها مع ترمب إزاء الإجراءات الأخيرة في السعودية.
خيار المواجهة المباشرة مع إيران ليس مرجحًا بطبيعة الحال بسبب اختلال ميزان القوة بين الطرفين، ولا يبدو منطقيًا بعد التطورات العسكرية والميدانية الأخيرة في سوريا وبدرجة أدنى العراق على الأقل. ولعل أي مواجهة واسعة النطاق، مع إيران أو حزب الله، من الصعب أن تتم دون مشاركة «إسرائيلية» فاعلة، بيد أن المؤشرات لا تشي باستعدادات «إسرائيلية» لهذا السيناريو، على الأقل في القريب العاجل.
أخيرًا، ليس من المنطقي أن تشن دولة ما حربًا أو تشرع في مواجهة عسكرية كبيرة وهي تمر بمخاض داخلي عسير وغير مسبوق في تاريخها ولا مضمون النتائج، كالذي فعله محمد بن سلمان حين واجه وخلال فترة قصيرة جدًا المؤسسة الدينية ورجال الأعمال والأمراء المنافسين من باقي فروع العائلة الحاكمة معًا. إن مواجهة خارجية مفترضة مثل تلك تحتاج إلى جبهة داخلية متماسكة وقوية أو على الأقل هادئة ومساندة، وهو غير المتأتي حاليًا بسبب استمرار الاستحقاق الداخلي في ظل حديث النائب العام السعودي عن «موجات» قادمة من التوقيفات و«مكافحة الفساد».
إن المتتبع للخطوات المتتالية والمتسارعة لمحمد بن سلمان منذ تولي والده عرش المملكة في كانون الثاني/يناير 2015، يرى أنها تسير في منحنى تصاعدي متناسق يخدم هدفًا واحدًا رئيسًا هو إيصاله للعرش كملك بعد والده، وكل ما دون ذلك من قرارات لا تعدو أن تكون خادمة لهذا الهدف الرئيس بما في ذلك الحرب في اليمن والأزمة الخليجية والتقارب مع تل أبيب، فضلاً طبعًا عن كل الإجراءات الداخلية المحيّدة للمنتافسين المحتملين والمعترضين المفترضين لقراراته.
يبقى الاحتمال قائمًا
إذن، سيبدو منطقيًا جدًا أن تكون اللهجة المتصاعدة من السعودية تجاه إيران وحزب الله غطاءً كافيًا لتمرير الإجراءات الداخلية الحساسة بأقل قدر ممكن من الاعتراضات و/أو التحركات و/أو المخاطرة.
إذ لطالما كان تضخيم الخصم وتصعيد النبرة تجاهه والتركيز على الأخطار الخارجية أدوات مفضلة للأنظمة والدول لتوحيد الجبهة الداخلية خلف قراراتها، لكنه أيضًا أسلوب متبع قبيل المواجهات العسكرية كما تقول الكثير من الأحداث مثل غزو العراق في 2003.
لكن المعضلة الرئيسة أمام محاولات استشراف مآلات المشهد الحالي هي عدم خروج القرارات – حتى تلك المصيرية منها – من رحم مؤسسات راسخة وعبر آليات معروفة، ما يجعل الأمر أقرب للتنجيم والتخمين منه للتحليل والاستشراف. بيد أن ثمة أمور قد تساعد على ذلك:
أولاً، قد تكون التطورات المتلاحقة داخل السعودية مانعًا لأي تحرك عالي السقف خارجي الآن، لكن هذا لا ينفي إمكانية حصول ذلك لاحقًا.
ثانيًا، إن سير الأمور نحو استقرار نسبي قد يحيل إلى التفكير بعمل خارجي – بمستوى ما – لمنع أي ارتدادات داخلية للأمر وتوحيد الجميع خلف القيادة وقراراتها.
ثالثًا، إن قدرة محمد بن سلمان على حسم الصراع الداخلي المفترض ستزيد من ثقته بنفسه، وستغذي هذه الثقة تغريداتُ ترمب ومواقفه الداعمة للأمير الطموح و/أو المتهور، ما قد يرجح قرارًا بالتصعيد مستقبلاً.
رابعًا، قد تؤدي أي تطورات داخلية في غير صالح ولي العهد السعودي إلى افتعال أزمة أو مواجهة خارجية انتهاجًا لسياسة باب الهروب إلى الأمام وتضييق هوامش المناورة على الفواعل المحليين.
في المحصلة، فإن التصعيد اللفظي الحالي في مواجهة إيران وحزب الله يفيد في حسم المعركة الداخلية، لكن حسمها قد يدفع لاحقًا لقرارات باتجاه المواجهة، وهو ما يطرح السؤال الأهم: المواجهة أين ومع من؟.
لا شك أن المواجهة المباشرة مع إيران مستبعدة جدًا ولا تحتملها توازنات المنطقة، بينما يمكن أن تكون «أذرع» إيران أهدافًا أكثر مواءمة؛ أي حزب الله و/أو الحوثيون. على مستوى اليمن، ليس من إمكانية لحسم الأوضاع أو إحداث تغيير جذري، اللهم إلا إن تقرر سير العمليات بنفس الوتيرة مع تغيير الاسم كما حدث سابقًا مع تغيير «عاصفة الحزم» إلى «إعادة الأمل».
وأما بالنسبة لحزب الله، فيخضع الأمر لتوازنات عدة، فهو متواجد في لبنان لكنه منتشر أيضًا على الأرض السورية حيث يسهل استهدافه، ميدانيًا وكذلك إعلاميًا، إضافة لسؤال مدى مشاركة تل أبيب في الأمر وبأي سقف، وردة الفعل الإيرانية المتوقعة. ولذلك فالمرجح بنظري هو استمرار الضغط السياسي والإعلامي والجماهيري عليه في إطار تفاعلات استقالة الحريري داخليًا، انتظارًا لفرصة سانحة للانتقال لمرحلة أخرى وهو سيناريو وافر الفرص أيضًا ويملك مقومات الاستمرار طويلاً كما تدل على ذلك الخبرات اللبنانية السابقة، أو قد يكون ضربة/ضربات «إسرائيلية» موجعة له في سوريا وهو سيناريو تكرر كثيرًا في السنوات والأشهر الأخيرة. وأما سيناريو الضربة السعودية المباشرة للبنان، فليس ضمن الخيارات «المنطقية» وفق المعطيات الحالية وتقف دونه عقبات لوجستية وعسكرية كثيرة.
السيناريو الأكثر كارثية هو انفجار القرار السعودي باتجاه قطر، حيث توجد القاعدة العسكرية التركية التي تضم في الغالب جنودًا وعتادًا أكثر مما هو معلن في الإعلام وحيث توجد الخطوط الحمراء الإيرانية التي ذكرتها طهران وحذرت منها في بدايات الأزمة الخليجية. الأمر الذي قد يعني مواجهة إقليمية واسعة النطاق، لا يمكن معرفة مسارها ولا حدودها ومآلاتها.
أخيرًا، على صانع القرار السعودي التفكير مرارًا قبل اتخاذ أي خطوة من هذا القبيل بعيدًا عن جواره القريب، فلبنان ليست اليمن وحزب الله ليس الحوثيين ولا الطرفان متساويين بالنسبة لإيران. وبالتالي ينبغي الحذر من أن يؤدي التدخل المفترض – أيًا كان شكله – إلى نتائج عكسية تزيد من سيطرة الحزب وإيران في لبنان والمنطقة بشكل عام، وهو أمر لن يكون مستبعدًا إذا ما اتــُّخذت القرارات بارتجالية ودون حساب الأمور من كافة الزوايا.