على خطى سترومر: البداية كانت من الإسكندرية
إذا كنت متواجدًا في ميناء الإسكندرية في صباح التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1910، فإنك على الأغلب كنت لتلاحظ ذاك الرجل أرستقراطي المظهر، الذي يقف ممتعضًا أعلى سفينة كليوباترا التي رست على الميناء بعد سفر طويل عبر البحر المتوسط، مرتديًا قبعته المميزة، قميصًا أبيض ومعطفًا طويلًا، وحذاءً كلاسيكيًا منمقًا، إلا إنك لم تكن لتتوقع أن ذلك الرجل على وشك التقدم بعيدًا في الصحراء، باحثًا عن صخور قديمة تحت الرمال.
الحرارة مرتفعة في الميناء رغم اقتراب فصل الشتاء، الهواء محمل بالرمال والدخان والأصوات المتداخلة للعمال والمسافرين وضجة العربات الصغيرة التي تجرها الحمير، في الخلفية بيوت صغيرة متخامة لمبانٍ عالية على طراز المعمار الفرنسي، ومنارات مساجد مرتفعة تطلق الأذان للصلاة، ربما كان ذلك ليملأ سترومر بالحماس في أي يوم آخر، لكن ليس اليوم.
لقد ظل محتجزًا في السفينة لمدة يومين، بعد أن أبلغ قبطان السفينة عن حالة في الدرجة الثالثة يحتمل إصابتها بالكوليرا، ليفُرض على الركاب حجر صحي حتى التأكد من عدم انتشار العدوى، ويطلق سراحهم أخيرًا بحلول المساء، يقضي سترومر ليلته في فندق بالإسكندرية، وينطلق صباحا إلى العاصمة.
يقدر سترومر المعاملات الرسمية للغاية، فور وصوله إلى مستقره بالقاهرة، عجل بالتحقق من الرسائل التي وصلت إلى بريده، ليجد ترحيبا مرسلا من هيئة المساحة الجيولوجية المصرية، كانت الهيئة التي تعامل معها سترومر في رحلته الأولى لمصر عام 1901، لتسهل عليه بعض الصعاب في رحلته القادمة المرتقبة.
الخامس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني، سترومر في طريقه إلى الفندق بعد جولة في القاهرة، يسجل في مذكراته الصعوبات التي تعرقل انطلاق بعثته الاستكشافية، محددًا أزمتين رئيسيتين، الأولى هي الدكتور «لوكس»، الرجل الذي من المفترض أن يرافقه في البعثة إلى قلب الصحراء لم يعد محتملا، لم يظهر الحماس الكافي ولم يدرك أساسيات الثقافة العربية، سجل سترومر صدمته مسبقا عندما فوجئ بأن لوكس قد اصطحب زوجته معه على متن السفينة لتكون معه خلال البعثة الاستكشافية، الرحلة خطيرة ومجهدة للغاية، ولن تكون أجواء الصحراء الكبرى على الأغلب مكانًا مريحًا لفتاة أرستقراطية.
المشكلة الثانية وعلى الأغلب الأكثر أهمية، هي اختفاء رفيق رحلاته الاستكشافية السابقة إلى الفيوم «ريتشارد مارجراف»، لسوء الحظ لم يسجل التاريخ كثيرًا عن مارجراف، ذلك الرجل الغامض الذي عشق صحراء شمال أفريقيا، واستقر بالقرب منها في «مركز سنورس» الذي يجاور بركة قارون من الجنوب الشرقي ويتبع محافظة الفيوم، عمل مارجراف كصائد أحافير مقابل المال، مع جيولوجين مرموقين من مختلف العالم، وتوجد على الأقل 3 أحافير مسجلة باسمه!
لم يكن مارجراف بصحة جيدة عند وصول سترومر هذه المرة، وقد حاول سترومر الوصول إليه بشتى الطرق إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل.
قبل وصوله إلى غرفته، التقى سترومر بلوكس الذي كان يستشيط غضبًا، وبّخ سترومر لما وصفه سوء التعامل مع زوجته وكرهه للنساء عامة، لينتهي الجدل بتقاسم العالمين لمؤن الرحلة، وينطلق كل منهما بذاته، تنفس سترومر الصعداء، فتح باب غرفته ليجد مراجراف جالسا على الكرسي بانتظاره، لقد ابتسمت السماء أخيرا!
جد قديم للثدييات
كانت خطة سترومر مقسمة لثلاث مراحل أساسية، الانطلاق أولا إلى وادي النطرون والبحث في صخورها لعدة أسابيع، العودة إلى القاهرة لتعزيز المؤن والأدوات، ثم التوجه إلى الأقصر، وأخيرًا العودة للقاهرة لاستكمال باقي التصريحات المطلوبة وتجميع المؤن الضرورية، للتوجه إلى الهدف الرئيسي في الصحراء الغربية، الواحات البحرية.
الثامن عشر من نوفمبر/تشرين الثاني، سترومر برفقة مارجراف، 4 جمال وسائس مصري، يصعدون هضبة الجيزة، والهدف واضح ومحدد، البحث عن جد أقدم للثدييات، كان اكتشاف جورج أوغست شفاينفورت، عالم الجيولوجيا والنبات الألماني، ومؤسس الجمعية الجغرافية المصرية، لحوت قديم في الفيوم – الباسيلوسورس -، قد حفز سترومر إلى البحث عن ضآلته في مصر.
دونًا عن الأفكار السائدة حينها عن أن أصل الثدييات بما فيها الإنسان، لا بد ألا يكون بعيدًا عن أوروبا أو أمريكا الشمالية، كان لسترومر فرضيته الخاصة بأن أفريقيا قد تحمل ذلك الشرف، وأن قلة البعثات الاستكشافية للقارة السمراء وضع العلماء في حالة من من اللا موضوعية في إطلاق الأحكام.
إلا أن رحلتي وادي النطرون والأقصر كانتا لتحطان من آمال سترومر، لم يعثر على ثدييات مطلقًا عدى قرد صغير عثر عليه مارجراف في رمال وادي النطرون ليحمل اسمه «Libypithecus margrafi».
كان هناك خبر آخر يخص مارجراف، إلا أنه لم يكن مفرحا كسابقه، لقد عاودته نوبة المرض، وقد اعتذر عن إكمال خطة سترومر، لن يستطيع مرافقته إلى الواحات، ويجب على سترومر الآن البحث عن بديل بكفاءة مارجراف، وهي مهمة ستكون أصعب من الوصول لمارجراف من البداية.
يقضي سترومر أيامه التالية بحثًا عن مرافق بديل، واصفًا صعوبة تلك المهمة قائلا: «يضيع المرء هنا الكثير من وقته، فقط ليبحث عن شخص ما، لا أحد يعرف العنواين بالتحديد أو أرقام المنازل».
بعد أيام وُفق أخيرًا إلى بديل، إلا أنه كان على وشك مواجهة معضلة أكبر، الحصول على التصاريح والأوراق الرسمية من الإدارة البريطانية والمصرية لم يعد عملا سهلا.
قبل قرابة عقد من وصول سترومر إلى القاهرة، كانت زيارة تاريخية أخرى لرجل ألماني زادات شرارة العداء بين بريطانيا العظمى وألمانيا، حيث وقف قيصر الرايخ الثاني «فيلهلم» على قبر صلاح الدين في دمشق، ليقسم على حماية الإمبراطورية العثمانية، وهو ما أعتبره البريطانيون تهديدًا صريحًا.
مع حلول ليلة رأس السنة الجديدة، حزم سترومر أمتعته؛حذاء من جلد البقر،خزانات ماء كبيرة،حبال ونبيذ فلسطيني، وجرائد قديمة ليستخدمها في حفظ الأحافير التي قد يتحصل عليها، استقل القطار إلى مدينة الفيوم، لتلحقه الأوراق الضرورية إلى فندقه بفضل أصدقائه الإنجليز، التقى بطباخ الرحلة محمد مسلم، ودليلها البدوي جمعة، أيام قليلة تفصله عن رحلته المرتقبة.
بينما كان عالم الأحافير الذي جاوز سن الأربعين من شهور قليلة على وشك أن يقدم اكتشافات جديدة إلى تخصصه، كان علم الأحافير ككل لا يزال شابًا، لم تجد الكنسية قديمًا تفسيرًا أفضل للأحجار المزينة برسومات كائنات حية، إلا أنها عبر يضعها القدير تدليلا على قدرته العظيمة على خلق ما يريد، منتصف القرن السابع عشر وضع نيكولاس ستينو مبدأه عن التراكب، مفسرًا تكون الصخور الرسوبية، الذي ينص على أنه في أي تتابع من الطبقات، تقبع الصخور الأقدم في القاعدة والأحدث أعلاها، رغم بساطة الفكرة إلا أنها كانت ثورية حينها، فكرة أن تكون بعض الصخور أقدم من غيرها، تعني أن الأرض لم تخلق مرة واحدة في نفس الزمن، وأنها قد تكون أقدم كثيرا مما يعتقد حينها.
بنهاية القرن الثامن عشر جمع «جيمس هوتون» أبو الجيولوجيا الحديثة أدلته التي تدعم فكرة أن عمر الأرض لا بد أن يقدر بالملايين من السنين، بحلول القرن التاسع عشر دُعمت أساسيات علوم الجيولوجيا التاريخية، نشر تشارلز ليل كتابه «مبادئ الجيولوجيا» عام 1830، وقبل رحلة سترومر الأولى إلى مصر بـ 42 عامًا فقط، نجح جيولوجي آخر في ربط الكائنات المتحجرة في الصخور بنظيراتها الحية، عندما نشر كتابه المميز «أصل الأنواع»، انتشل داروين علم الأحافير أخيرًا من يد الهواة، وانطلق العلماء بحثا عن الغصون الناقصة في شجرة الحياة.
صباح الثالث من شهر يناير/كانون الثاني استقل سترومر ورفاقه القطار من مدينة الفيوم جنوبًا إلى قرية «الغرق»، حيث يبدأ الطريق القديم إلى الواحات البحرية، على طول الطريق سجل سترومر «اللون الأخضر يغطي كل شيء، عيدان القمح بطول المتر وقد بدأت في النضوج، محصول قصب السكر يبدو عليه النضوج كذلك، ومحصول الذرة مصفوف تحت أشعة الشمس بعد حصاده ، حتى يجف»، لم يكن سترومر ليرى اللون الأخضر مجددًا لأيام طويلة.
فور وصولهم، نصب سترومر خيمته على ضواحي القرية بانتظار وصول الجمال مع قائدها، توارى مسلم داخل الخيمة، حضر وجبة عشاء من الأرز والدجاج المشوي، الرحلة إلى الواحات أخيرًا قيد التنفيذ.
- The lost Dinosaurs of Egypt-2002
- spinosaurus
- ernst stromer and the lost dinosaurs of egypt
- mueller text
- historical geology