إريتريا من الاستعمار إلى الاستبداد: هل من ولادة ثانية؟
هكذا وصف «فرديناندو مارتيني» (أول حاكم إيطالي لإريتريا) الجمال الخلاب للغروب على شاطئ بحر إريتريا، لكن لم يكن ذلك الجمال وحده سبب قدومه إلى هذه المنطقة القصية في شرقي أفريقيا بطبيعة الحال، بل كان قدوم الإيطاليين نتيجة لمتغيرات محلية ودولية أهمها وحدة إيطاليا، ورغبتها في الحصول على نصيبها من كعكة المستعمرات الخارجية، إلى جانب افتتاح قناة السويس في العام 1869 التي منحت البحر الأحمر أهمية تجارية دولية عظمى، حتى قال وزير الخارجية الإيطالية «مانشيني»: «إن مفاتيح البحر الأبيض هي في الحقيقة في البحر الأحمر».
هكذا ولدت إريتريا نتيجة لمغامرة عسكرية إيطالية في شرقي أفريقيا، في عصر شكلت فيه المغامرات الاستعمارية الأوروبية وجه العالم فيما بعد. ففي عام 1869 قامت شركة «روباتينو» الإيطالية بشراء قطعة أرض في خليج عصب الإريتري قريبًا من باب المندب، شكلت موطئ قدم للجحافل القادمة بعد عقد ونصف من السنوات، لتملأ الفراغ الذي خلفه انسحاب المصريين من البلاد، بعد وقوعهم بين فكي كماشة الإثيوبيين من جهة، وجنود المهدي في السودان من جهة أخرى. وبتشجيع من بريطانيا التي كانت تحتل عدن حينها، ورأت في إيطاليا معادلًا لفرنسا التي رفعت أعلامها عام 1862 في جيبوتي على الشاطئ المقابل للمستعمرة الإنجليزية في عدن.
وهكذا احتل الإيطاليون في العام 1885 مدينة مصوع الإريترية، ثم توسعوا داخل البلاد مستفيدين من الصراع على العرش الإثيوبي، داعمين «منيليك» الذي سيصبح إمبراطور إثيوبيا، والذي وقع معهم معاهدة في أكتوبر 1889، اعترف فيها بسيادة الإيطاليين على إريتريا. ومع مطلع عام 1890 أصدر الملك «همبرت الأول»، ملك إيطاليا، مرسومًا ملكيًا بتوحيد الأقاليم التي احتلتها إيطاليا تحت اسم «مستعمرة إريتريا»، نسبة إلى التسمية الرومانية للبحر الأحمر «ماري أرثريان».
وككل المستعمرات، التي تحولت إلى دول فيما بعد، ظهرت نتيجةَ توافقات ومصالح دولية مستعمرةُ إريتريا، دون اعتبار لامتداد ثقافي وديموغرافي لأبناء المجموعات العرقية واللغوية التسع التي تتصل في حدودها الديموغرافية ببلاد مجاورة، كالسودان، أصبحت هي الأخرى مستعمرات لقوى أوروبية. وهذه الولادة غير الطبيعية للمستعمَرة ستلقي بظلالها عليها كل حين طارحةً مشاريع مختلفة، وسؤال الهوية المؤرق.
بنظرة عجلى، حكم الأتراك ومصر ما بعد «محمد علي» وإثيوبيا مناطق مختلفة من إريتريا، غير أن الإيطاليين كانوا الأعمق أثرًا في تشكيل نواة لكيان سياسي متمايز؛ فالإيطاليون هم الذين رسموا الحدود السياسية للمستعمرة، وقسموها إلى تسع محافظات، وأنهوا حالة التنازع بين مكونات من المجموعات العرقية والقبلية والدينية في إريتريا التي تسودها الديانتان الإسلام والمسيحية.
كما كان لشبكة المواصلات التي أنشئوها دور كبير في توحيد البلاد وتنشيط الحركة التجارية فيها، وتركوا خلفهم آثارًا معمارية عظيمة في العاصمة أسمرة التي أطلقوا عليها «روما الصغيرة»، وكان الغرض الأساسي من كل ذلك تسهيل إدارة المستعمرة بما يصب في خدمة المصالح الإيطالية، واندرج تحت ذلك تجهيل الشعب الإريتري وتسخيره لبناء تلك المشاريع في الداخل، وتجنيده في الخارج لتعبيد الطريق للمشاريع الاستعمارية لإيطاليا في أفريقيا، كما نالته المعاناة من المعاملة العنصرية من الإدارة والمستوطنين الإيطاليين، ولا سيما في المرحلة الفاشية.
ولعل أبرز ما يؤكد عمق الأثر الإيطالي أنه حال هزيمة الدوتشي في الحرب العالمية الثانية، وانحسار سلطة بلاده عن المستعمرة بعد ستين عامًا (1882-1941)، واجه الإريتريون السؤال الذي اختلفوا عميقًا حول الإجابة عنه: هل نحن دولة تستحق الاستقلال، أم مستعمرة منتزعة من دولة أخرى ولا بد من عودتها إلى «الوطن الأم»، أم مستعمرة ملفقة من خليط من تسع مجموعات لغوية متباينة لا رابط بينها؟ كانت هذه هي أسئلة ما تسمى بجدارة «مرحلة تقرير المصير».
صراعات مرحلة تقرير المصير
بهزيمة الإيطاليين في الحرب العالمية الثانية دخلت البلاد مرحلة جديدة تحت حكم الإنجليز، تميزت بحراك سياسي كبير داخل البلاد، واصطراع بين مشاريع متعددة لرسم مستقبلها؛ فمن جهة كانت إثيوبيا ترى في إريتريا حقًا وامتدادًا تاريخيًا وبشريًا وجغرافيًا لها، ولا سيما أنها دولة قارية لا منفذ بحريًا لها، في حين تتمتع إريتريا بـ1000 كم من ساحل البحر الأحمر. ومثـّل إثيوبيا حينها حزب «الاتحاد» الذي ظهر كفكرة في العام 1941، واتخذ شكله الرسمي الفعال في العام 1946.
من جهة أخرى، كان الإنجليز يرون أن مصلحتهم في تقسيم مستعمرة إريتريا إلى قسمين؛ ينضم أحدهما إلى إثيوبيا، والآخر إلى السودان الذي كان يحكمه الإنجليز، ومثـّلهم حزب «الرابطة الإسلامية للمديرية الغربية» الذي دعا إلى استقلال المنطقة الغربية المحاذية للسودان تحت الحماية البريطانية، والذي انشق عن حزب «الرابطة الإسلامية» الأم بقيادة الشيخ «إبراهيم سلطان» -تأسس عام 1947- المنادي بالاستقلال الكامل للبلاد.
الشيخ إبراهيم سلطان
شهدت إريتريا في مرحلة تقرير المصير عددًا من الأحزاب بجانب المذكورة سابقًا، وظهر فيها العديد من الصحف الناطقة بالعربية وبالتجرينية (لغة محلية) وبغيرهما. وانخرطت البلاد في دوامة صراع سياسي كبير استخدمت فيه كل الأدوات، وكان من أخطرها استخدام إثيوبيا للإرهاب وللكنيسة الإثيوبية التي تتبعها الكنيسة الإريترية لدفع المسيحيين الإريتريين إلى اختيار الاتحاد معها.
وهكذا عند الامتحان الأول ظهرت تشوهات الولادة غير الطبيعية لإريتريا، ورغم وجود حالات استثنائية لكن المجتمع تصدع على خطوط تناقض متعددة إسلامية مسيحية، استخدمها الإثيوبيون، وإسلامية إسلامية لأسباب إقليمية ومحلية استخدمها البريطانيون.
وكانت كل المشاريع صورة مصغرة عن عدد المشاريع التي انهالت على اللجنة الرباعية المنبثقة عن الأمم المتحدة، والتي تولت إدارة شأن المستعمرات الإيطالية، حيث توصلت بعد عناء كبير إلى مشروع الاتحاد الفيدرالي بين إريتريا وإثيوبيا ذي الرقم «390 أ» في 2 ديسمبر/ كانون الأول 1950، والذي نص على أنه: ضمن اتحاد مع إثيوبيا تتمتع إريتريا بحكم ذاتي، ويكون للحكومة الإريترية سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية في حقل الشئون المحلية.
وبناء على هذا القرار أجريت انتخابات للجمعية التمثيلية الإريترية في 25 و26 مارس/ آذار 1952 التي أقرت الدستور الإريتري الذي نص على إنشاء هيئات تشريعية وقضائية وتنفيذية مستقلة، وأن يكون نظام الحكم ديمقراطيًا، كما أقر ضمانات للمؤسسات الثقافية والدينية في البلاد، إلى جانب اعتماد اللغتين التجرينية والعربية كلغتين رسميتين للبلاد.
هذه البنود كانت في الحقيقة سببًا كافيًا لإلغاء إثيوبيا مفاعيل قرار الاتحاد الفيدرالي، الذي جهدت لإفراغه من مضمونه، من خلال سياسة الضم التدريجي التي انتهت بانتزاع مهمة الإشراف على الانتخابات البرلمانية، مما جعلها تنفرد فعليًا بتعيين عملائها نوابًا فيه، وهم الذين وافقوا بعد ذلك على قرار دمج البلاد مع إثيوبيا في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 1962.
يمكننا القول إن الدمج في مرحلته هذه كان في الآن نفسه هدفًا إثيوبيًا، وخطوة مرفوضة من قطاع عريض من الإريتريين لأنه يتضمن الانضواء تحت نظام الحكم الإمبراطوري الأوتوقراطي الإقطاعي في إثيوبيا، والذي كان من المحال أن يقبل بوجود نظام ديمقراطي برلماني دستوري داخل إريتريا؛ لما سيشكله من نموذج ملهم لبقية القوميات الإثيوبية التي كانت تُحكم بالحديد والنار، في دولة كان يعتبر الدستور فيها هبة من الإمبراطور لشعبه!
وهكذا كان فرار الإريتريين من الاستبداد وراء الحركة الاستقلالية قبل القرار الفيدرالي، ووراء ظهورها من جديد مع تنصل النظام الإثيوبي منه.
حرب التحرير: الفرصة الأولى
في سياق عالمي كان يضج بحركات التحرر من دول الاستعمار القديم، متأثرةً بالفكر الاشتراكي عمومًا، ومستفيدةً من ظروف الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، ولدت حركة التحرر الإريترية التي انتقلت إلى العمل المسلح في مواجهة الاحتلال الإثيوبي، في مطلع سبتمبر/ أيلول 1961م، واستمرت هذه الملحمة 30 عامًا (1961 -1991). وكانت هذه التجربة نقلة نوعية كبرى في العمل النضالي، وفرصة ثمينة لتكوين المشروع القادر على تحقيق الوحدة الوطنية لأول مرة للإريتريين.
ورغم نجاح تنظيمات الكفاح المسلح في وضع مشروع وطني يتمحور حول الحرية، فإن ذيول صراعات الأربعينيات والانتماءات المحلية سرعان ما ضربت تلك الحركة في عقدها الأول؛ صحيح أنها لم تقتلها لكنها أيضًا لم تقوها، بل زادت عوامل التشرذم التي ذكتها الطموحات الشخصية والانتماءات الفكرية الجديدة، والتي أفرزت عددًا من التنظيمات المتناحرة، كان أكثرها قدرة على البقاء الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا (التنظيم الحاكم اليوم)، والذي يعدُّ نتاجًا فكريًا لهوة عدم الثقة التي خلفتها مرحلة تقرير المصير في العلاقات بين مسلمي البلاد ومسيحييها.
إريتريا المستقلة: الفرصة الثانية
ثم كانت الدولة الإريترية المستقلة في العام 1993م الفرصة الثمينة الثانية لتشكيل هوية وطنية جامعة، لكن وبعكس الحكمة القائلة: «إن عقارب الساعة لا تدور إلى الوراء»؛ فإن عقارب ساعة إريتريا كانت تفعل ذلك! حيث كان سبتمبر/ أيلول 2001 إيذانًا بعودة البلاد 39 عامًا إلى الوراء، إلى عهد الإمبراطور الإثيوبي «هيلاسلاسي».
ورغم اختلاف المظهر بين الإمبراطور المتوج، والرئيس «أسياس أفورقي» غير المتوج، فإن الجوهر واحد، حيث تعيش إريتريا منذ ذلك الحين في ظل أحد أسوأ الأنظمة الدكتاتورية في العالم، فلا برلمان ولا دستور، ولا أحزاب ولا إعلام مستقل ولا نقابات، والبلاد تدار بحكومة «مؤقتة منذ 1991.
ما الذي تبقى إذن؟
اليوم، وبعد 16 عامًا من استئثار الرئيس «أسياس أفورقي» وأنصاره بالسلطة، وبعد التطورات الإيجابية في العلاقة مع إثيوبيا «آبي أحمد»، ينظر الإريتريون بتفاؤل يمزجه القلق إلى المستقبل في ظل عجز القوى المحلية ورفض القوى الدولية التأثير على مسارات السلطة في البلاد.
فمعسكر المعارضة السياسية تتوزعه مشاريعُ متخالفة، ترسم في المحصلة الأخيرة نجاح النظام في تقسيم الإريتريين وإدخالهم في حالة من التوهان السياسي، من خلال سياسة استبدادية طائفية شوفينية إقصائية تعمل على نهش فكرة التعايش الوطني، فضلًا عن تشكيل هوية وطنية واحدة. فاستمرار النظام في سياسته القمعية هو الخيار المقلق لكنه الأقرب، ومن جهة أخرى فالحرب الأهلية بعد وفاة الرئيس أو انهيار النظام احتمال مقلق آخر تمهد له سياسات التهجير والتلاعب الديمغرافي المتبعة اليوم.
بجانب هذين هناك خيار آخر أكثر معقولية وأقل تكلفة؛ خيار توافق الإريتريين على عقد اجتماعي وسياسي جديد يقوم على فكرة المواطنة بغض النظر عن الأصل أو الدين، وعلى الديمقراطية كآلية لإدارة العملية السياسية في البلاد، ومواجهة النظام المستبد بهذا المشروع، وزيادة وعي الجماهير الإريترية لتتبناه كخيارها المستقبلي الوحيد.. ربما يكون هذا الخيار ولادة صعبة في مجتمع ما تزال النزعات القبلية والإقليمية والدينية قوية فيه، لكنه سيكون على كل حال الولادة الصحية والطبيعية لإريتريا الدولة والمجتمع.