إريتريا: عندما يصبح الهروب من المنتخب الوطني بطولة
ما تعلَّمه أليكسندر هو كيفية الحفاظ على الكرة أمام خصوم أكبر حجمًا. أما القفص فلم يكن سوى اسم لملعب صغير في بلدية سولنا السويدية، حيث أمضى سنوات طفولته، مغمورًا برعاية مُثلى من عائلته، التي فرَّت من جحيم حقيقي لم يختبره، مثل كثير من أبناء المهاجرين الأفارقة الذين تركوا خلفهم كل شيء بحثًا عن حياة أفضل في أوروبا.
كان أليكسندر محظوظًا جدًّا، ربما أكثر حظًّا من كل أبناء جلدته، دون تدخُّل حقيقي منه. لكنَّ قصته تُعد الأشهر بينهم؛ لأنَّه أصبح سويدي الجنسية، يلعب في الدوري الإنجليزي الممتاز، وهذه رفاهية لا يمكن أن يتخيلها أي إريتري.
نصف الحقيقة
في كأس العالم 2022 بقطر شارك 71 لاعبًا من أصول أفريقية لمصلحة 14 منتخبًا أجنبيًّا. من ضمنهم 17 لاعبًا كانوا قد ولدوا بالفعل داخل أفريقيا، قبل أن تجبرهم وذويهم الظروف لمغادرة القارة السمراء نحو أوروبا كمهاجرين أو لاجئين.
في 2019، قرر الباحث الهولندي «جيس فان كومبنهاوت» أن تكون دراسة تأثُّر كرة القدم الدولية بالهجرة موضوع بحثه لنيل درجة الدكتوراه من جامعة روتردام الهولندية.
في بحثه حلل فان كومبنهاوت قوائم المنتخبات المشاركة في كئوس العالم منذ انطلاق البطولة في 1930 وحتى 2018. وكانت خلاصة بحثه أن تزايُد عدد المُهاجرين المُمثلين لمنتخبات الدول الأجنبية يُمكن أن يُعطي مؤشرًا إيجابيًّا يؤكد على تقبُّل الإعلام والجمهور للتنوُّع داخل المُجتمع، مع بعض الاستثناءات الفردية التي تظهر في حالات الإخفاق.
من وجهة نظر غربية، يعد هذا التنوُّع نجاحًا مُبهرًا دون شك. لكن قصص هؤلاء النجوم، الذين وصلوا لتمثيل هذه المنتخبات، حتى وإن كانت مُلهمةً، ليست القصص الأهم من وجهة نظر إنسانية، لأنها تتجاهَل آلاف الحكايات التي لم تتوَّج بنجاح مماثل.
في غرب ووسط أفريقيا يمتلك الفرد عشرات الأسباب التي تدفعه للهجرة بشكل شرعي أو غير شرعي لأي وجهة كانت. ليس لأجل تحقيق حلمه بأن يُصبح لاعب كرة قدمٍ يُمثِّل منتخبًا يشارك في كأس العالم وحسب، بل أحيانًا حتى يحصل على حياة أفضل له ولأسرته.
حياة أفضل
في كتابهما، «النظام السحري: لاعبو كرة القدم الأفارقة وتجارة الرقيق الحديثة»، أمضى الصحفيان «بارتيليمي جيلارد» و«كريستوف جليزيس» عامًا كاملًا لإجراء تحقيق حول هجرة مئات اللاعبين من وسط وغرب أفريقيا للبحث عن فرصة الالتحاق بأحد الأندية الأوروبية.
طبقًا للتحقيق، يمكن تقسيم اللاعبين إلى ثلاث فئات أساسية: موهوب وعادي وعديم الموهبة. جميعهم يشترك في حُلم واحد وهو الهروب من محل إقامته نحو مكان أفضل. وفي خلال هذه الرحلة الخطرة، يتم شحن الشاب بلا أي ضمانات لإجراء فترات اختبار داخل أحد أندية أوروبا، بعد دفع ذويه كل ما يمتلكون من مدخرات لتأمين هذه الفرصة.
حتى وإن كانت نسبة نجاح هذه المغامرة لا تتعدَّى 30% من الحالات، يتحمَّل هؤلاء الشباب وذووهم التكلفة برحابة صدرٍ؛ فامتلاك لاعب كرة قدمٍ داخل عائلة أفريقية يُشبه امتلاك بئر نفط. فحتى وإن فشلت التجربة تمامًا، يكون الشاب قد نجا بنفسه، ووصل لبلد آخر، يمكنه العمل بداخله، ولو بشكل غير شرعي، في أي وظيفة مهما كانت غريبة.
كل ذلك، وبقدر مأساويته، لا يُمكن أن يُقارن بما يعيشه لاعب كرة القدم في إريتريا، ذلك البلد الصغير الواقع بمنطقة القرن الأفريقي.
إريتريا: الأحلام ليست مُمكنة
فقط تخيَّل أنك نجم كرة قدم دولي تسير في قريتك التي وُلدت بها. المنطقي أن تلتف حولك الجماهير التي تهتف باسمك، أو في أقصى الحالات تطرفًا، يتركونك وشأنك. لكن كونك لاعب كرة قدم دوليًّا في إريتريا لا يعني أي شيء؛ مجرَّد التواجد في الشارع دون تصريح قد يجعلك عُرضة للإهانة، والضرب على أيدي الشرطة الإريترية وأحيانًا الاعتقال.
هذه ليست قصة خيالية، بل جزء من شهادة «مائيل يوسف»، لاعب منتخب إريتريا تحت 20 عامًا لصحيفة «جارديان» البريطانية عام 2020، والتي كانت نقطة من بحر الأسباب التي دفعته لطلب اللجوء إلى أوغندا.
عند استخدام كلمات مفتاحية مثل «كرة القدم» «إريتريا» في أي من محركات البحث، تكون أول نتائج هذا البحث عبارة عن خبر يشير إلى انسحاب منتخب إريتريا من التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2026. والسبب هو خوف الحكومة الإريترية من فرار لاعبي المنتخب خارج البلاد وطلب اللجوء لأي بلد آخر.
في الواقع، منذ 2009 فقط، وثقت المنافذ الصحفية 4 حالات هروب لعناصر منتخبات كرة القدم الإريترية المختلفة، أبرزها كان هروب قائمة المنتخب بأكملها عام 2012 إلى هولندا أثناء مشاركتهم في بطولة «سيكافا» الدولية.
هذه الحالات ما هي إلا انعكاس للوضع الذي يعيشه البشر داخل هذه الرقعة من العالم، والتي تُصنَّف كـ «سجن» بالمعنى الحرفي، حيث لا يأمن أي فرد على حياته، وبالمعنى المجازي حيث لا يمكن لأحد التخطيط لمستقبله.
تعيش إريتريا تحت حكم دكتاتور يُدعى «أسياس أفورقي» منذ الانفصال عن إثيوبيا عام 1993. وبسبب قسوة الحرب الإثيوبية الإريترية التي انتهت في مايو/آيار عام 2000، رسَّخ أفورقي دكتاتوريته متحججًا باحتمالية نشوب حرب جديدة بين البلدين المتنازعين.
على سبيل المثال، تمتلك إريتريا واحدًا من أقسى أنظمة التجنيد الإلزامي في العالم، حيث يحق للسلطات استدعاء أي شخص بين 18 و40 عامًا للخدمة العسكرية بلا أي ضمانات للخروج للحياة الطبيعية بعد انقضاء فترة التجنيد التي تبلغ – على الورق – 18 شهرًا. لكن على أرض الواقع، قد تمتد هذه الفترة لعقد كامل، حيث تحتفظ الحكومة بحق تمديد مدة الخدمة. وبالطبع، الهروب من أداء الخدمة العسكرية يعني السجن، أو حتى التصفية الجسدية.
داخل إريتريا تحظر التجمعات لأكثر من شخصين، ولا يوجد سوى حزب سياسي واحد وهو الحزب الحاكم، وطبقًا لمنظمة «مراسلون بلا حدود»، تقبع إريتريا بأسفل مؤشِّر حُرية الصحافة. وإن كنت مُهتمًّا، فوصول الإنترنت محدود جدًّا، وبالتالي، لا تصل أصوات قاطني هذه البقعة للعالم. إذن، ما الحل؟
الاستدعاء للمنتخب يساوي الحياة
طبقًا لـ «هيومن رايتس ووتش»، بنهاية عام 2021، وصل عدد اللاجئين وطالبي اللجوء الإريتريين نحو 580 ألف إنسان، من أصل 3.8 مليون نسمة هم تعداد سكان البلاد.
وفي ظل نظام أسمرة الحديدي، الذي يرى في تجييش السكان، دون مقابل آدمي، ضرورة للأمن القومي، يكون الحل هو تحمُّل مخاطرة الهجرة غير الشرعية، والوقوع في قبضة المُهربين أملًا في الخروج من هذا الجحيم.
هل تتذكَّر «مائيل يوسف» لاعب منتخب الشباب الواعد؟ يُخبرنا الرجُل، الذي يشارك ملايين من أبناء جلدته المعاناة، أنّه يظل أكثر حظًّا من الآخرين؛ لأنه وُفِّق حين تَم استدعاؤه للمنتخب، وهي الطريقة الوحيدة التي تضمن له الخروج من إريتريا بشكل طبيعي، حتى وإن كلفه ذلك الاختباء في أوغندا مع زملائه بمنطقة معزولة على الحدود دون طعام أو وسيلة تواصل مستدامة في انتظار قبول طلب اللجوء الخاص بهم.
لكن حتى هذه الحيلة البائسة التي مكنَّت بعضًا من الرياضيين من الهروب من «إريتريا» لم تعُد ممكنةً؛ إما بسبب قرارات وزارة الرياضة الصارمة بالانعزال عن المشاركات الدولية، أو بإرغام الرياضيين الذين يتم استدعاؤهم على إيداع مبلغ يصل لـ5600 جنيهًا إسترلينيًّا، أو ما يوازي قيمته من ممتلكات، لمجرَّد السماح لهم بالمشاركة في المنافسات الدولية.
في الواقع، لا يغامر الرياضي الإريتري المحلي كغيره من الرياضيين من أجل لعب كأس العالم رفقة منتخب أجنبي، أو حتى لتأمين مستقبل عائلته لكنه فقط يأمُل في أن يحصُل على فرصة أخرى للحياة.