إريك فروم وثورة الأمل
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
يُعدّ المفكّر الاشتراكيّ الألمانيّ إريك فروم شخصيّة مُهملة ظلمًا، خاصّةً عند مقارنته بزملائه السّابقين في مدرسة فرانكفورت، مثل ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو. ويقدّم تحليل فروم للثّقافة السّلطويّة ما يُعدّ، في نواح كثيرة، بديلاً أقوى تسويغًا للنّظريّات المؤثّرة لكلّ من هوركهايمر وأدورنو. كما يكشف تحليله بشكل واضح عن اشتباك أكثر تفاؤليّة واستبشاريّة مع مسألة التّغيير الاجتماعيّ الرّاديكاليّ.
من جانبها، أسهمت الكتابة البحثيّة حول مدرسة فرانكفورت والنّظريّة النّقديّة في التّقليل من إسهام فروم، مواصِلَةً اتّجاهًا دشّنه ماكس هوركهايمر نفسه بعد ترك فروم معهد فرانكفورت في عام 1939. وقد تركنا هذا مع صورة أحاديّة الجانب إلى حدّ ما للنّظريّة النّقديّة لمدرسة فرانكفورت، مع صورة تفتقر إلى سرد جادّ لفكر فروم ونقده المؤثّر للسّلطويّة.
توضّح لنا قصّة فروم أنّ نقدًا للثّقافة السّلطويّة – نقدًا يحدّد الميول القويّة نحو السّلبيّة والارتكاسيّة بين عموم السّكان – يمكن أن يُبقي على زخمه المركزيّ، مع الحفاظ على بعضٍ من تفاؤل النقد الماركسويّ الأصليّ للرّأسماليّة، وتوجهه نحو العمل السياسيّ هنا والآن.
السّنوات الأوائل
ولد فروم عام 1900 في عائلة يهوديّة أرثوذكسيّة من الطّبقة الوسطى في فرانكفورت أم ماين. وتمثّلت خطّته الأوّليّة عند ترك المدرسة في أن يصبح باحثًا في التّلمود؛ عوضًا عن ذلك، أقنعه والده بدراسة القانون في جامعة فرانكفورت، حيث استمرّ أقلّ من عام قبل أن ينتقل إلى جامعة روبريكت كارل في هايدلبرغ لدراسة الاقتصاد الوطنيّ nationalökonomie.
في هايدلبرغ، بإرشاد من ألفريد ويبر (شقيق ماكس) وكارل جاسبرز وهانز دريش وهاينز ريكيرت، حضر فروم دروسًا حول تاريخ الفلسفة وعلم النّفس والحركات الاجتماعيّة والسّياسيّة والنّظريّة الماركسيّة. وخلال هذه الفترة، واصل فروم دراساته في التّلمود جنبًا إلى جنب مع عمله الأكاديميّ. وكانت الاشتراكيّة الرّومانسيّة لمعلّم التّلمود خاصّته، سلمان رابينكوف، مؤثّرةً بشكل خاصّ.
شأنه شأن ماكس هوركهايمر، امتنع فروم عن الانخراط المباشر في السّياسة الاشتراكيّة خلال هذه السّنوات الأوائل. فلم يكن عضوًا في الحزب الاشتراكيّ الدّيمقراطيّ الألمانيّ أو الحزب الشّيوعيّ الألمانيّ. كان أقوى انخراط خاضه فروم في ذلك الوقت هو دراساته اليهوديّة.
لقد ساعد في إنشاء معهد تعليميّ يهوديّ مؤثّر، هو Freies Jüdisches Lehrhaus، حيث ألقى محاضرات مع شخصيّات مثل فرانز روزنزويغ ومارتن بوبر وغرشوم شوليم وليو بيك وسيغفريد كراكور. كما أسّس مصحّةً في هايدلبرغ مع زوجته المستقبليّة، فريدا فروم-رايكمان، من أجل العلاج النّفسيّ التّحليليّ المخصّص للمرضى اليهود.
نما اهتمام فروم بالماركسيّة بدايةً من منتصف عشرينيّات القرن العشرين -في الفترة الّتي أطلق عليها كارل كورش اسم «أزمة الماركسيّة»- والّتي درس خلالها في معهد برلين للتّحليل النّفسيّ. وأصبح فروم، الّذي تخلّى عن اليهوديّة في هذه المرحلة، جزءًا من مجموعة من المفكّرين الاشتراكيّين المنشقّين الشّباب، بما في ذلك ويلهلم رايك وأوتو فينشل، الّذين كانوا مهتمّين بتطبيق أفكار التّحليل النّفسيّ على القضايا الاجتماعيّة.
ابتغت هذه المجموعة، شأنها شأن العديد من المجموعات الأخرى في ألمانيا في ذلك الوقت، فهم سبب فشل الاشتراكيّة في الظّهور بشكل مادّيّ حتّى الآن في ألمانيا، بالرّغم من وجود طبقة عاملة كبيرة وحركة عمّاليّة عالية التّنظيم. لقد تأثّروا بنقد «الماركسيّة الميكانيكيّة» الّذي دشّنه كلّ من جورج لوكاش وكارل كورش، وحاولوا تحديد ما يمكن تسميته الحواجز «الذّاتيّة» الّتي تحول دون الاشتراكيّة. واعتقدوا أنّ التّحليل النّفسيّ يمكن أن يلعب دورًا مهمًا بشكل خاصّ في إلقاء الضّوء على تلك الحواجز.
الالتحاق بمدرسة فرانكفورت
خلال هذه الفترة، تعرّف فروم إلى ماكس هوركهايمر، الّذي كان مهتمّاً أيضًا بإمكانيّات التّحليل النّفسيّ في فهم إخفاقات الاشتراكيّة. وكان هوركهايمر في ذلك الوقت تابعًا لمعهد فرانكفورت للبحوث الاجتماعيّة الشّهير، الّذي أنشأه في عام 1923 فيليكس ويل، وهو ابن رجل أعمال ثريّ وطالب سابق لدى كارل كورش.
بالرّغم من أنّ المعهد كان أشبه ما يكون في البداية بمركز ماركسيّ أرثوذكسيّ للدّراسات العمّاليّة، فقد تحوّل تركيزه، بعد أن أصبح هوركهايمر مديرًا له في عام 1930، نحو الخلط متعدّد التّخصّصات للفلسفة مع العلوم الاجتماعيّة الإمبريقيّة، لا سيّما خلط الاهتمامات الاجتماعيّة والتّحليل نفسيّة. وبتحريضٍ من هوركهايمر، تلقّى فروم دعوةً للالتحاق بالمعهد، حيث مثّل هو وهوركهايمر القوّة الفكريّة المركزيّة في هذه السّنوات الأوائل، وكانا رائدين في دمج التّحليل النّفسيّ بالماركسيّة قبل وقت طويل من دخول ثيودور أدورنو في الصّورة.
في المعهد، تولّى فروم مسؤوليّة دراسة إمبريقيّة مبتكرة للعمّال الألمان من اليدويّين وذوي الياقات البيضاء. فباستخدام استبيان مفصّل وُزّع على حوالي 3,300 عامل، سعت الدّراسة إلى تحليل العلاقة بين التّركيبة النّفسيّة للعمّال وآرائهم السّياسيّة. وكما كشف الاستبيان، فقد ربط غالبيّة المستجيبين أنفسهم بالشّعارات اليساريّة الخاصّة بحزبهم، لكن راديكاليّتهم كانت أضعف بكثير عندما تعلّق الأمر بأسئلة أكثر دقّة وغير سياسيّة المظهر.
خَلُص فروم إلى أنّ ما يقرب من 10 في المائة من المشاركين كانوا «سلطويّين»، وأنّ حوالي 15 في المائة كانوا «ديمقراطيّين/إنسانيّين»، والـ 75 في المائة المتبقين وقعوا في منزلةٍ ما بين المنزلتين. وتنبّأ بأنّ السّلطويّين سيدعمون حركةً سياسيّةً فاشيّةً مستقبليّة، بينما سيقف الدّيمقراطيّون/الإنسانيّون ويعارضونهم. وتمثّلت المشكلة في أنّ الجزء الدّيمقراطيّ/الإنسانيّ قد لا يكون قويًّا بما يكفي لهزيمة الـ 10 في المائة السّلطويّين إذا كان أولئك الّذين في الوسط غير مستعدّين نفسيًّا لمقاومة السّلطويّين.
بالرّغم من أنّ الدّراسة نفسها لم تُنشر حتّى الثّمانينيّات من القرن العشرين، تحت عنوان «الطّبقة العاملة في جمهوريّة فايمار» – ويرجع ذلك، جزئيًّا، إلى الانهيار الّلاحق في علاقة فروم بهوركهايمر -، فمن الواضح أنّها قد سلّطت ضوءًا كبيرًا على ما سيحدث في ظلّ النّظام النّازيّ. كما كانت مثالاً نادرًا للبحث الإمبريقيّ في حياة ومواقف الطّبقة العاملة من داخل تقاليد مدرسة فرانكفورت.
ظلّ فروم جزءًا مهمًّا من عمل المعهد لمعظم فترة الثّلاثينيّات من القرن العشرين. وكان مسؤولاً إلى حدّ كبير عن نقل المعهد إلى الولايات المتّحدة ردًّا على استيلاء النّازيّين على السّلطة، مُجريًا اتّصالات شخصيّة مع باحثين في جامعة كولومبيا، حيث استقرّ المعهد في نهاية المطاف. وكان دوره محوريًّا أيضًا في أبحاث المعهد المتواصلة حول السّلطويّة، ولعب دورًا محوريًّا في صدور «دراسات حول السّلطة والأسرة» (1936) – وهو تقرير أوليّ من ألف صفحة ساعد في تمهيد الطّريق أمام عمل المعهد الأكثر شهرة «الشّخصيّة السّلطويّة».
ومع ذلك، بدأت مراجعة فروم لسيغموند فرويد خلال هذه الفترة في تغريبه عن هوركهايمر. فقد حاجج فروم بأنّ مشكلة علم النّفس الرّئيسة هي كيفيّة ارتباط الأفراد ببعضهم البعض وبالمجتمع من حولهم؛ لم يتعلّق الأمر بمراحل لبيدويّة [من لبيدو] مقرّرة سلفًا (الشّرجيّة، الفمويّة، التّناسليّة، إلخ)، كما هو الحال في نظريّة فرويد. وأسهمت العلاقة الفكريّة المزدهرة بين هوركهايمر وأدورنو في زيادة شعور فروم بالاغتراب. وهكذا، ترك فروم المعهد في نهاية عام 1939.
الخوف من الحريّة
بعد فترة وجيزة من تركه المعهد، اقتحم فروم المشهد الفكريّ الأمريكيّ بعمله «الهروب من الحريّة» (1941). وقد تمثّلت الثّيمة الرّئيسة للكتاب في أنّ أوروبا قد ضحّت بتقدّمها على مدى قرون باتّجاه أشكال متزايدة من الحريّة السّياسيّة -وحتّى باتّجاه الاشتراكيّة- من خلال استسلامها للفاشيّة. أراد فروم أن يُشرّح كيف سيطرت النّازيّة في ألمانيا، ولِمَ دعم كثير من الأفراد أدولف هتلر.
لقد طرح فكرة الشّخصيّة «السّاديّة المازوكيّة» أو «السّلطويّة»، الّتي جمعت بين نُزُوعات إلى الخضوع وإلى الهيمنة لتوفير الأساس البشريّ للحكم السّلطويّ. أراد فروم تجاوز التّفسيرات المبسّطة للنّازيّة والّتي صوّرتها على أنّها ظاهرة سياسيّة أو اقتصاديّة بشكل حصريّ، دون أن يتقهقر إلى نظريّات نفسيّة بحتة (بالشّكل الّذي يشير إلى أنّ هتلر مجنون، وأنّ أتباعه كذلك). وسعى إلى فهم النّازية على أنّها مشكلة نفسيّة واجتماعيّة-اقتصاديّة.
شأن معظم التّحليلات الماركسيّة في ذلك الوقت، ركّز فروم على دور الطّبقات الوسطى الدّنيا. وحاجج بأنّ تغييرات اجتماعيّة-اقتصاديّة وسياسيّة محدّدة تركت بصمةً نفسيّةً عميقة، مزيلاً الارتكازات والآليّات التّقليديّة لتقدير الذّات. وقد تضمّنت تلك التّغييرات تدهور وضع هذه الطّبقة في مواجهة الرّأسماليّة الاحتكاريّة والتّضخّم المفرط، فضلاً عن الهزيمة الّتي عانتها ألمانيا في الحرب العالميّة الأولى.
حدّد فروم مشاعر عميقة من القلق والعجز استطاع هتلر الاستفادة منها. وقد وفّرت رسالته السّاديّة المازوكيّة الحاضّة على حبّ القويّ وكراهيّة الضّعيف – ناهيك عن برنامجٍ عنصريٍّ رفعَ الألمان «بالميلاد عن حقّ» إلى قمّة السّلّم التّطوريّ – وسيلةً للهروب من الأعباء النّفسيّة الّتي لا تُطاق والّتي عانتها جماهير المجتمع.
لم يكن «الهروب من الحريّة» محض تحليل للنّازيّة. ففي قلب أطروحة الكتاب توجد الفكرة القائلة بأنّ الرّأسماليّة -خاصّة في مرحلتها الاحتكاريّة- عزّزت «تنمية شخصيّة تشعر بالعجز والوحدة والقلق وعدم الأمان»، وبالتّالي تميل إلى التّنازل عن حرّيّتها للقادة الأقوياء.
تحدّث تحليل فروم بشكل صريح عن ظروف الفاشيّة الّتي وُجدت في الولايات المتّحدة: آثار الكساد الكبير ووجود أشكال آليّة على نحو متزايد من العمل الصّناعيّ وانتشار البروباغندا السّياسيّة وأشكال الدّعاية والإعلان التّنويميّة، والّتي تفاعلت مع نزعة نفسيّة مُدّعاة نحو «التّوافق الآليّانيّ» (automaton conformity) من جانب نسبة كبيرة من السّكان.
التّوجّه التّسويقيّ
عاد فروم إلى ثيمة التّوافق الاجتماعيّ بعد أربعة عشر عامًا في «المجتمع العاقل» (1955)، الّذي حدّد «باثولوجيا للوضع الطّبيعيّ»، واسعة الانتشار ومنمّطة اجتماعيًّا، تحكم المجتمعات الرّأسماليّة المتقدّمة. وانخرط «المجتمع العاقل» في نقد موسّع للمجتمع الأمريكيّ في منتصف القرن العشرين، وهو المجتمع الّذي كان بالنّسبة إلى فروم شكلاً بيروقراطيًّا من الرّأسماليّة الاستهلاكيّة-الجماعيّة.
ضمن هذا النّقد، استخدم فروم فكرة «التّوجّه التّسويقيّ» لوصف ما رآه على أنّه نمط الشّخصيّة المهيمن حديثًا في المجتمع الأمريكيّ. ومن الواضح أنّ هذه الفكرة كانت انعكاسًا اجتماعيًّا-نفسيًّا للمفهوم الماركسيّ عن الاغتراب، أي اغتراب البشر عن أنفسهم وعن قواهم وقدراتهم. بالنّسبة إلى فروم، يشير «التّوجّه التّسويقيّ» إلى نمط وجود يختبر فيه النّاس أنفسهم والآخرين بما هم سلع – حرفيًّا، بما هم أشياء يجب أن تُسوّق.
أظهر «المجتمع العاقل» تقاربًا معيّنًا مع تركيز منظّري مدرسة فرانكفورت الآخرين على اندماج الطّبقة العاملة في المجتمع الرّأسماليّ. لكن كان هناك شعور أكبر في عمل فروم بإمكانيّات التّغيير، حتّى لو لم يُحدّد فاعلاً اجتماعيًّا معيّنًا يكون مسؤولاً عن مثل هذا التّغيير. كما كرّس فروم مساحةً كبيرةً للبدائل العمليّة، بما في ذلك تحليل موسّع لممارسات العمل المجتمعيّة، مثل مصنع علب السّاعات [الّذي أسّسه العامل] مارسيل باربو في بويمانداو.
تميّز المجتمع العاقل أيضًا بانتقاده جوانب من المشروع الماركسيّ، خاصّةً ما تعلّق بالمفهوم التّقليديّ للثّورة. اعتقد فروم أنّ هناك خطأ نفسيًّا عميقًا في التّصريح الشّهير الّذي يختتم البيان الشّيوعيّ، حيث الإشارة إلى أنّ العمّال «ليس لديهم ما يخسرونه سوى قيودهم». فبالإضافة إلى قيودهم، كان على العمّال أيضًا خسارة شيء آخر: كلّ الاحتياجات والإشباعات الّلا عقلانيّة الّتي نشأت أثناء وضعهم في هذه القيود.
وحاجج فروم بأنّنا بحاجة إلى مفهوم موسّع للثّورة: مفهوم لا يتعلّق فقط بالحواجز الخارجيّة، وإنّما الحواجز الدّاخليّة والذّاتيّة أيضًا. فمثل هذا المفهوم سيعالج جذور المشاعر السّاديّة المازوكيّة، مثل الجنسويّة والعنصريّة والقوميّة والتّشوّهات الأخرى في الشّخصيّة الفرديّة والاجتماعيّة الّتي لن تختفي بالضّرورة بسرعة في سياق مجتمع جديد.
الرّأسمالية والحبّ
واصل فروم تحليله للحواجز الذّاتيّة الّتي تحول دون اشتراكيّة إنسانيّة حقيقيّة في كتابه «فنّ الحبّ» (1956)، والّذي يُعدّ ربّما أشهر أعماله. لقد أصرّ على وجود عدم توافق عميق بين «المبدأ الكامن وراء المجتمع الرأسماليّ ومبدأ الحبّ».
كان نقد الحبّ -الّذي هو، بالنّسبة إلى فروم، ليس ظاهرةً مقيّدةً بمظاهرها الرّومانسيّة- بالتّالي نقدًا للرّأسماليّة، أيضًا، والأساليب الّتي أعاقت بها [الرّأسماليّة] أشكال الحبّ الحقيقيّة الّتي يمكن أن تتحقّق في مجتمع أكثر إنسانيّة. وطالب فروم بأن نحلّل شروط إمكانيّة تحقيق الحبّ والنّزاهة في المجتمع الحاليّ وأن نسعى لتقويتها.
خلال الخمسينيّات من القرن العشرين، انضمّ فروم إلى الحزب الاشتراكيّ الأمريكيّ-الفيدراليّة الدّيمقراطيّة الاجتماعيّة وسعى للتّأثير على برنامجه. وقد حدّدت الوثيقة النّاتجة، الّتي نُشرت تحت عنوان «دع الإنسان ينتصر» (1958)، الشّكل المميّز لماركسيّة فروم، والّتي أسماها «الإنسانيّة الرّاديكاليّة». كان النّصّ مليئًا بانتقاد الاتّحاد السّوفييتيّ باعتباره شكلاً من أشكال «الاشتراكيّة المبتذلة والمشوّهة».
ما قدّمه فروم مكان هذا كان شكلاً ديمقراطيًّا إنسانيًّا للاشتراكيّة يضع الإنسان في المركز. وانتهى بمجموعة من الأهداف قصيرة ومتوسطة المدى، بما في ذلك مقترحات لزيادة المشاركة الشّعبيّة في المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتّعليميّة والسّياسيّة. وفي الوقت نفسه الّذي كان يبتعد فيه كلّ من هوركهايمر وأدورنو عن السّياسة المنظّمة، في ظلّ أوشفيتز، كان فروم، أكثر مفكري مدرسة فرانكفورت يهوديّة، يتّجه نحوها.
واصل سير هذه الطّريق في السّتينيّات من القرن العشرين. وكان «أيمكن أن ينتصر الإنسان؟» (1960) تحليلاً للشّيوعيّة السّوفييتيّة هَدِف إلى التّأثير على تحرّك نحو نزع السّلاح من جانب واحد خلال الحرب الباردة. كما أكّد نقد فروم الموسّع للستالينيّة والخروتشوفيّة ما بعد الستالينيّة على أوجه التّشابه الإداريّة والبيروقراطيّة بين النّظامين السّوفييتيّ والأمريكيّ. وأشار نصّه باستحسان إلى الثّورات المناهضة للاستعمار في آسيا وأفريقيا وأمريكا الّلاتينيّة، وانطوى على بعض الكلمات الحادّة الموجهة إلى النّفاق الغربيّ.
عودة إلى ماركس
في «مفهوم ماركس حول الإنسان» (1961)، عاد فروم إلى ماركس. تضمّن الكتاب أوّل ترجمة إنجليزيّة كاملة لـ «مخطوطات ماركس الاقتصاديّة والفلسفيّة» لعام 1844، والّتي أصبحت نقطةً مرجعيّةً رئيسةً للإنسانيّة الماركسيّة، واستهلّه فروم ببضعة مقالات قصيرة عن ماركس وفلسفته. لقد سعى إلى إعادة الماركسيّة إلى شكلها الأصليّ باعتبارها «إنسانيّة جديدة»، وخالية من تشوّهات الشّيوعيّة السّوفيتيّة والصّينيّة.
ساعد «مفهوم ماركس حول الإنسان» في انتشار ماركس في الولايات المتّحدة وتحدّى بعض الرّؤى الّتي أساءت فهم فكره والّتي كانت سائدة في العالم النّاطق بالإنجليزيّة في ذلك الوقت. لم يخلُ الكتاب من مشكلاته. ففي رسالة إلى الماركسيّة الرّوسيّة-الأمريكيّة رايا دوناييفسكايا، اعترف فروم نفسه بأنّ روايته لماركس كانت «تجريديّة للغاية». ومع ذلك، فمن الملاحظ أنّ اشتباك فروم ركّز على عمل ماركس بأكمله. فقد رفض فروم فكرة الانفصال الحادّ بين «ماركس المبكّر» و«ماركس المتأخّر»، الّتي روّجت لها شخصيّات مثل الفيلسوف الماركسيّ الفرنسيّ لوي ألتوسير.
تواصل اشتباك فروم المتجدّد مع ماركس بنشره «ما وراء قيود الوهم» في عام 1962. في هذا العمل، طوّر فروم نظريّته الاجتماعيّة والنّفسيّة الفرويديّة-الماركسيّة عن الشّخصيّة الاجتماعيّة. وشمل ذلك محاولةً لتعزيز النّظريّة الماركسويّة للأيديولوجيا والّتي أشادت بالرّؤى النّفسيّة غير المعترف بها في أعمال ماركس. وأشاد فروم صراحةً بماركس باعتباره مفكّرًا «يتمتّع بعمق ونطاق أوسع بكثير من فرويد»، مؤكّداً على مركزيّة ماركس في مشروعه.
لعب فروم أيضًا دورًا رائدًا في نشر «الإنسانيّة الاشتراكيّة: ندوة دوليّة» (1965). فمن خلال العمل مع رايا دوناييفسكايا، والماركسيّ البولنديّ آدم شاف، قام بتجميع مجموعة عالميّة من الماركسيّين والاشتراكيّين الإنسانيّين، القادمين إلى حدّ كبير من أوروبا الشّرقيّة (مع عديدين من مدرسة البراكسيس اليوغوسلافيّة)، وآخرين من أفريقيا والهند أيضًا. وكان من بين المساهمين هربرت ماركوز وكاريل كوسيك وغاجو بتروفيتش وميهيلو ماركوفيتش وليوبولد سنغور وإرنست بلوتش وماكسيميليان روبل، بالإضافة إلى دوناييفسكايا وشاف نفسيهما.
التّعاطي مع السّياسة
ظلّ فروم شخصيّةً بارزةً في يسار الولايات المتّحدة على مدى السّنوات الّتي تلت ذلك، بالرّغم من عيشه في الغالب في المكسيك. فعلى عكس هوركهايمر وأدورنو، الّلذين رفضا انتقاد حرب فيتنام، كان فروم صريحًا في موقفه المناهض للحرب. وألقى العديد من الخطب في أكثر من حرم جامعيّ، بل وكتب خطابات للسّناتور يوجين مكارثي خلال تحدّيه المناهض للحرب لليندون جونسون في الانتخابات التّمهيديّة للحزب الدّيمقراطيّ.
وانطلاقًا من هذا الموقف، صاغ فروم «مذكّرة حول البدائل السّياسيّة» والّتي كانت طويلةً وحدّدت سلسلةً من الحركات الدّيمقراطيّة الشّعبيّة، الّتي تشبه بشكل أساسيّ تلك الّتي أجملها في «المجتمع العاقل»، والّتي يمكن أن تشكّل الأساس لحركة جماهيريّة من النّاس. وظهرت المذكّرة مطبوعةً باسم «ثورة الأمل» (1968) بعد محاولة مكارثي الرّئاسيّة الفاشلة.
لقد دافع فروم عن نفسه بثبات ضدّ النّقاد الّذين اتّهموه بالإصلاحيّة الدّيمقراطيّة-الاجتماعيّة، بما في ذلك صديقه القديم هربرت ماركوز. وبالإشارة إلى اليأس الظّاهر في تفسير ماركوز للنّظريّة النّقديّة في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد» الصّادر عام 1964، اقترح فروم أنّه «إذا لم يكن المرء مهتمًّا بالخطوات بين الحاضر والمستقبل، فإنّه لا يتعاطى مع السّياسة، سواء كانت راديكاليّة أو غير ذلك».
ومنذ أواخر عام 1960، بعد سلسلة من النّوبات القلبيّة، تراجعت مشاركة فروم السّياسيّة، وتحوّلت طاقاته أكثر نحو الاهتمامات الأكاديميّة. ومع ذلك، لم يقطع فروم صلاته بقضايا اليسار. فقد شارك كتابه «تشريح الدّمار البشريّ» عام 1973 في المناقشات الأكاديميّة المعاصرة للطّبيعة البشريّة، متحدّيّاً وجهة النّظر القائلة بأنّ تلك الطّبيعة عدوانيّة وجشعة بالفطرة، وهي النّظرة الّتي من شأنها أن توفّر ثقلاً فكريًّا للعصر النّيوليبراليّ.
ظهر آخر كتب فروم الاجتماعيّة والسّياسيّة، «أن نملك أم أن نكون؟» (1976)، بعد عودته من المكسيك إلى أوروبا. لقد عاد مجدّدًا لمناقشة «مخطوطات ماركس الاقتصاديّة والفلسفيّة»، ودمجها مع نقد تدمير الرّأسماليّة للبيئة الّذي ساعد في إلهام الحركة الخضراء الأوروبيّة. ومرةً أخرى، محور فروم النّصّ حول دعوته لإجراء إصلاحات اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة عمليّة، وهذه المرّة اقترب أكثر من ماركس في إعلان ما رآه «البداية -المتزايدة بسرعة- لانحدار الرّأسماليّة».
مفكّرٌ لعصرنا
في واحد من تعليقاته القليلة على ماكس هوركهايمر ومدرسة فرانكفورت، والّذي كُتب قرب نهاية حياته، أعطى فروم تصوّرًا لما اعتبره طبيعة «النّظريّة النّقديّة»:
وفي حين لم تولِ كتابات فروم اهتمامًا كافيًا لموجات الاضطّرابات العمّاليّة في الخمسينيّات والسّتينيّات والسّبعينيّات من القرن العشرين، فعلى عكس هوركهايمر، لم ينظر فروم إلى صعود الفاشيّة على أنّه يمثّل الهزيمة النّهائيّة للمشروع الاشتراكيّ. عوضًا عن ذلك، دفعت تجربة الفاشيّة فروم إلى مزيد من الانخراط السّياسيّ اليساريّ، الّذي تميّز بروح الأمل والتّفاؤل الرّاديكاليّين، وعودة إلى ماركس هَدِفت إلى المساعدة في إحياء اليسار على نطاق واسع.
من نواح كثيرة، يعتبر فروم مفكّر مدرسة فرانكفورت الأكثر ملاءمة للعصر الحاليّ. فرؤيته متنبّهة للعلاقات المتبادلة بين الاقتصاد والثّقافة والعواطف الإنسانيّة، وهو تجنّب شراك الاستسلام الميلانكوليّ أو الحتميّة التّخطيطيّة. لقد وضع الاتّجاهات الرجعيّة والنّكوصيّة للحاضر بقوّة في طليعة تحليله، لكنّه سعى أيضًا إلى تحديد السّبل الملموسة للتّقدّم.
وفي سياق سياسيّ ينتقل بسرعة إلى منطقة خطرة، مع ركود اقتصاديّ يهدّد بأنّ يكون عميقًا مثل الكساد الكبير، فإنّ روايةً اشتراكيّةً لا تأبه لخطر السّلطويّة ستكون غير مسؤولة شأنها شأن رواية تُقدّم لنا ذلك على أنّه مصير لا مفرّ منه. هنا، وكذلك من خلال اشتباكه مع النّزعة الإنسانيّة لماركس، لا يزال لدى إريك فروم العديد من الدّروس القيّمة ليقدّمها إلينا.