أردوغان في القدس: هل يستعيد الأتراك المدينة القديمة؟
في القدس، إذا ما مررت بأحياء البلدة القديمة المُوصلة إلى المسجد الأقصى، ستُبصر بعينك العلم التركي مرفوعًا على سارية بعض الجمعيات الفلسطينية التي تتلقى دعمًا ماليًا أو عينيًا من الأتراك.
وستُخبرك صور الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» المنتشرة بين الأحياء عن المكانة التي يُوليها المقدسيون له، وداخل المسجد الأقصى ستُفاجَأ بالحضور الشبابي التركي إلى جانب الشباب المقدسي في ساحات مصاطب العلم، ذلك الإرث العثماني القديم، يُريدون بذلك إحياءه رغمًا عن إرادة الاحتلال ومُخططاته في إنهائه.
عندها ستوقن بتقدم الدور التركي في حماية البلدة القديمة وإعمارها على حساب الدور الأردني، خاصة وأن الأردن خذلت المقدسيين بالتوافق مع الاحتلال الإسرائيلي على تركيب كاميرات مراقبة في المسجد الأقصى؛ ما عزّز الوجود اليهودي وضاعف من اعتداءات واقتحامات المستوطنين على الأقصى ومن فيه، فاضطرت وأمام الضغط الفلسطيني إلى التراجع عن ذلك الاتفاق الخادم للاحتلال بالدرجة الأولى.
مواطنون مقدسيون وخبراء في شئون القدس رأوا في ذلك الموقف تخليًا من الأردن عن وصايتها الدينية لمقدسات المدينة، فأبدوا فتورًا لكل خطوة جديدة للأردن لتحسين واقع القدس المعيشي والتنموي، فهم يرون أن انعكاساتها ضئيلة في ظل التغوّل الاستيطاني في المدينة دون أي حراك على المستوى السياسي الأردني أو الدولي يمنع استمراره، مُقابل تعظيم الخطوات الجريئة التي تقوم بها تركيا حيال القضية الفلسطينية والقدس بشكل خاص، فهي لا تترك مناسبة إلا وتؤكد على رعايتها للمدينة وأهلها على المستوى السياسي أو الإنساني التنموي.
الدعم التركي ساهم في إعمار المدينة
شهدت مدينة القدس في الآونة الأخيرة تزايدًا في النشاط التركي الداعم لصمودها وإعمارها عبر تنفيذ العديد من المشاريع الإنسانية والتنموية، لكن لا أحد من المؤسسات والشخصيات التي التقت بهم مراسلة «إضاءات» أفصح عن القيمة المالية الدقيقة للأموال المُنفقة في القدس مكتفين بالقول: «إن قيمة الدعم التركي تتجاوز عشرات ملايين الدولارات»، مُشددين على أن تلك المشاريع تأتي في ظل تراجع الدور الأردني في إنعاش وإعمار المدينة المُقدسة وفقًا لمسئوليتها الرسمية.
وأكد الشيخ عكرمة صبري، مفتي القدس وخطيب المسجد الأقصى السابق، أن تركيا أدت دورًا بارزًا في إعمار المدينة المقدسة عبر سلسلة مشاريع تنموية واجتماعية ساهمت في التخفيف من معاناة السكان.
وأضاف بالقول: «إن ذلك الدعم جاء على حساب تراجع الدعم العربي وتقصير الدول الإسلامية تجاه مدينة القدس في ظل انشغالها بنزاعاتها الداخلية»، ورفض الشيخ صبري إمكانية أن يكون الدعم التركي نابعًا من رغبتها في فرض نفوذها في المدينة المقدسة والاستحواذ على الفضل في إعمارها والمحافظة على هويتها الإسلامية بعيدًا عن الدول العربية والإسلامية.
مشاريع تركية إنسانية تتوافق وعدالة القضية
الدكتور سعيد الحاج، الباحث في الشأن التركي، أكد أن اهتمام تركيا بالقضية الفلسطينية والقدس نابع من عدة عوامل أهمها المشترك الديني والثقافي والحضاري والتاريخي، إضافةً إلى العاطفة الجيّاشة لدى الشعب التركي تجاه القضية الفلسطينية؛ ما انعكس على سياسات حكومات حزب العدالة والتنمية التي تبدو حريصة على التناغم مع نبض الشارع التركي.
من جهة أخرى أوضح الحاج أن عدالة القضية الفلسطينية والطابع الإنساني الواضح في معطياتها سبب كافٍ لتركيا لأن تتفاعل بتنفيذ العديد من المشروعات الإغاثية والإنسانية التي تُخفف وطأة المأساة الواقعة على السكان المقدسيين بسبب الاحتلال، وقال: «إن المقاربة التركية للقضية الفلسطينية نابعة من إدراك أنقرة أن لعب أي دور فاعل في المنطقة على المستوى الدولي لا بد وأن يمر عبر امتلاك أوراق في القضية الفلسطينية»، مؤكدًا أنها تقوم بذلك وفقًا لخيارات المجتمع الدولي المتمثلة بحل الدولتين وخيارات المجتمع العربي الرسمي المتمثل بالمبادرة العربية للسلام.
وبرأي الحاج فإن الخصوصية التي تتعامل بها تركيا مع مدينة القدس مردّها من ناحية إلى الثقل التاريخي والديني لهذه المدينة، بالإضافة إلى احتوائها على آثار عثمانية، ومن ناحية أخرى إلى أهمية ملف القدس في سيناريوهات حل القضية الفلسطينية، مؤكدًا أنها تقع ضمن «المختلف عليه» سياسيًا والذي تغطيه القرارات الدولية.
لا أهداف سياسية لتركيا في القدس
على الرغم من تنامي المشاريع التركية في المدينة المقدسة في السنوات الأخيرة؛ إلا أن فخري أبو دياب، الباحث في شئون القدس، يُصر على أنها لا ترقى إلى مستوى نزع النفوذ الأردني عن المدينة لصالح تركيا، وقال في حديث خاص مع «إضاءات»: «لا يُمكن إنكار الدور التركي في إعمار المدينة المقدسة والمسجد الأقصى بما تقدمه من خدمات إنسانية وإغاثية للسكان هناك»، ويستدرك «لكن القدس بحاجة إلى جهد أكبر بكثير» منتقدًا سياسة الأتراك في إيصال الدعم عبر فلسطينيي الداخل المحتل، ومؤكدًا أنهم لم يتمكنوا من الإحاطة باحتياجات المقدسيين بشكل كامل وصحيح، ناهيك أن بعض المؤسسات في الداخل عمدت إلى إبعاد العنصر المقدسي عمدًا عبر علاقاتها المباشرة بالأتراك، وقال: «بدا ذلك واضحًا في مشاريع الرباط بالمسجد الأقصى ومشاريع مصاطب العلم، فكون الدعم كان يأتي بطريقة واحدة عبر أهل الداخل المحتل كان من السهل على الاحتلال قطعها وإنهاؤها».
يرى دياب بضرورة إيجاد جهة رقابية وإدارة مهنية واعية تتولى عملية توزيع الأموال التي يتبرع بها الأتراك وفقًا للحاجة المُلحّة للمقدسيين، بالإضافة إلى عدم الاعتماد على جهة واحدة لإدخال الدعم للمقدسيين وإيلائه لأكثر من جهة، ليتعذر على الاحتلال منعه وإنهائه، ولكي يصل إلى كافة القطاعات الإنسانية والإغاثية والتنموية أيضًا.
وبسؤاله عن دور القنصلية التركية في القدس، أوضح أنها لا تتولى عمليات الإشراف بشكل مباشر على ما يُنفذ من مشاريع بدعم مؤسسات تركية في المدينة المقدسة، عازيًا ذلك إلى عدم رغبة تركيا في مزاحمة الأردن التي تتولى شئون القدس الدينية بشكل رسمي وبحسب اتفاقات سياسية.
وكذلك استبعد سعيد الحاج أن يتحول الاهتمام التركي بالقدس إلى دور سياسي أو عسكري، عازيًا ذلك إلى التوجه التركي للمصالحة والتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. ورأى أن ما تقوم به من مشاريع يدخل في إطار البنية التحتية والاهتمام بالآثار وبعض المشاريع الإنسانية، ولا يتعدى لنطاق مسئولية الأردن الدينية أو السياسية، مستبعدًا أن تغير تركيا إستراتيجيتها في التعامل مع المدينة المقدسة على المدى المنظور، ومتوقعًا أن تُبدي جهدًا إضافيًا في التعاون وليس التنافس مع الأردن والدول المهتمة بالقدس، أو على الأقل إبقاء التنافس بارد الوتيرة كي لا يؤثر على جوهر الأعمال المقدمة للمدينة.
وفي السياق ذاته رأى حنا عيسى، أمين عام الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات، أن ما تُقدمه تركيا من مساعدات مالية وإغاثية يأتي في إطار التخفيف من الواقع المأساوي الذي يعيشه السكان، وقال: «لا مجال للحديث عن نفوذ سياسي لتركيا في القدس»، لافتًا أن الوصاية للأردن وحدها على الأماكن المُقدسة في القدس وأن ما يحدث من دعم خاصة للمشاريع التنموية الكبرى يكون بالتنسيق بين الأردن وتركيا؛ ما يُحقق الخدمة الأفضل للمقدسيين في ظل تعقيدات الاحتلال المتزايدة وممارساته الاستفزازية تجاه سكان المدينة الأصليين.
قلق أردني من الترحيب المقدسي بالأتراك
لكن الإدارة السياسية في الأردن أبدت تخوفها من فتور الشارع المقدسي والفلسطيني عمومًا تجاه ما تقوم به في المدينة المقدسة والمسجد الأقصى، ففي حادثة هي الأولى من نوعها في تاريخ الجمهورية التركية فقد تمكن وزير الشئون الدينية التركي «محمد غورماز» في 15 أيار/مايو 2015 من الوصول إلى المدينة المقدسة والصلاة في المسجد الأقصى.
وقد استقبل المقدسيون الوزير التركي بحفاوة شديدة وترحيب منقطع النظير؛ الأمر الذي اعتبره الأردنيون سابقة خطيرة، خاصة بعد إهانة قاضي القضاة الأردني «أحمد هليل» الذي زار المدينة بعد أسبوع تقريبًا، في 22 أيار/مايو 2015، إذ تم طرده ومنعه من إلقاء خطبة الجمعة في المسجد الأقصى على خلفية مواقف الأردن الأخيرة من المسجد الأقصى.
وخلاصة الأمر، أن تزايد تضخم النفوذ التركي في المدينة المُقدسة جاء بسبب المشاعر الجيّاشة التي يُكنها الأتراك للقدس، وما صاحب ذلك من مشاريع إعمار، ومساعدات مالية وعينية، وهذا لا ينفي سعي تركيا للعب دور إقليمي واسع النطاق، مستندةً إلى تاريخها العثماني في العالم العربي والإسلامي، وهو الأمر الذي ظهر جليًا في خطابات رئيس الوزراء التركي السابق «أحمد داوود أوغلو»، حينما أكد في أكثر من مناسبة أن دولته لن تقبل المساس بالمدينة المقدسة والمسجد الأقصى ولن تقف مكتوفة الأيدي أمام استمرار الاعتداءات الإسرائيلية بوتيرة متصاعدة.
فالتاريخ العثماني في القدس استمر لأكثر من 400 عام، شيًد مبانيَ ومساجد وكتاتيب، وخط طرقًا ومدّ جسورًا واستزرع أراضي، وتوالى عليه الخلفاء والولاة عقودًا بعد عقود، لينتهي في حضرة الرجل الذي صار مريضًا مع بداية الاحتلال البريطاني عام 1336 م، فهل يحلم أحفاد العثمانيين اليوم باستعادة المدينة القديمة ولو شرفيًا؟!