أردوغان وغول: الصراع المؤجل بين السلطان والدكتور
قلت إنني لن أتهرب من المسئولية التي تقع على عاتقي، مع زملائي، إذا حدث توافق واسع النطاق، وهو الذي لم يتحقق في نهاية المباحثات التي أجراها رئيس حزب السعادة كرم الله أوغلو مع الأطراف المعنية الأخرى.
هكذا أعلن الرئيس التركي السابق عبدالله غول عدم ترشحه في الانتخابات الرئاسية المبكرة ضد صديقه القديم أردوغان، معللًا ذلك بعدم توافق المعارضة حول أمر ترشحه. أنهى بذلك غول علاقته تمامًا بحزب العدالة والتنمية الذي كان أحد مؤسسيه. ورغم تأكيد غول، في بيانه، أن أمر ترشحه كان بضغط من حزب السعادة، بينما كان شرطه الوحيد التفاف المعارضة كلها خلفه، فإن اللقاءات الثنائية العديدة التي قام بها الرجل مع قيادات كبرى من المختلفين مع أردوغان، مثل داود أوغلو وأرينتش وباباجان، أظهرت سعيه لإحداث انشقاق داخل الحزب لصالحه.
في حقيقة الأمر، لم يكن غريبًا حدوث ذلك. كان هناك العديد من المؤشرات التي توضح تزايد احتمالات ترشحه في الانتخابات المقبلة. لكن السؤال كيف حدث هذا التحول بين رفيقي الكفاح وصانعي النهضة التركية؟ وما مستقبل العلاقة بينهما؟الأكاديمي المخضرم والسياسي الهادئ
بدأ غول حياته السياسية بالتوازي مع دراسته الأكاديمية. انضم لجماعة أربكان وهو في سن التاسعة عشرة. بالتوازي مع دراسته الاقتصاد استكمل دراساته العليا حتى حصل على الماجستير ثم الدكتوراه من بريطانيا. تبنى آراء أربكان المعادية للغرب والعلمانية، المنادية بتطبيق الشريعة، وكان أحد أبرز المدافعين عنها بجانب صديقه أردوغان في التسعينيات. كما هاجم بشدة النظام السياسي التركي الذي تم تصميمه من قبل مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، والحركة القومية التركية، مشيرًا إلى أن هذا النظام العلماني فشل بشدة وبات يحتاج إلى التغيير. إلا أنه انقلب على هذه المبادئ وأضحى من المؤمنين بقيم العلمانية والليبرالية وحرية السوق، وجعل من الانضمام للاتحاد الأوروبي هدفًا استراتيجيًا لسياسات العدالة والتنمية، بل في 2002 وصف أفكار أستاذه أربكان بالغريبة، لاعتقاده أن مصدرها كان جماعة الإخوان المسلمين والثورة الإيرانية، ثم تشاء الأقدار بعد ذلك أن يكون أحد أهم الداعمين له في أمر الترشح حزب السعادة، آخر امتدادات جماعة أربكان، مما دفع علي يلدريم للهجوم على غول وحزب السعادة، مؤكدًا خروج الأخير عن تعاليم الأستاذ.يتسم غول بأنه صاحب شخصية هادئة غير صدامية، وهو ما أعلنه في أواخر أيامه في الرئاسة قائلًا: «لقد حاولت أن أكون محايدًا في رئاستي للبلاد، وأن أحفظ الديمقراطية»، وهو ما رآه البعض نقدًا ضمنيًا غير مباشر لسياسات رئيس الحكومة وقتها.
السلطان والدكتور: ماذا حدث بين أردوغان وغول؟
«رفيقي وصديقي وأخي».. بتلكمُ الكلمات كان الرئيس أردوغان دومًا يصف غول. مرّ الرفيقان بلحظات فارقة غالبًا ما انتهت بتزايد ثقة كلٍ منهما في الآخر. تولى غول رئاسة الوزراء مؤقتًا لحين قيام البرلمان بتعديل قانون يمنع أردوغان من رئاسة الحكومة في 2002. ظل خلالها أمينًا على المنصب لحين زوال العائق القانوني. وانتقل غول بعدها لحقيبة الخارجية ومنصب نائب رئيس الوزراء.شهد عام 2007 أكبر مأزق مر به حزب العدالة والتنمية، عندما وقف الحزب بقيادة أردوغان خلف ترشيح عبدالله غول لرئاسة الجمهورية. اتحدت المعارضة العلمانية بقوة لمنع حدوث ذلك، وامتنعت عن التصويت في البرلمان لعدم منحه الشرعية، حتى لا يأتي لمقعد الرئيس رجل زوجته متحجبة. أعلن الجيش التركي، في بيان، متابعته للأحداث، مؤكدًا استعداده للدفاع عن المبادئ العلمانية الكمالية، مهددًا الحزب الحاكم، وهو ما رفضه أردوغان باستنكار شديد، مطالبًا الجيش بعدم التدخل في الحياة المدنية وتركيزه في مهام الدفاع عن حدود الوطن.
اقرأ أيضًا:انتخابات رئاسية مبكرة في تركيا: ماذا يريد أردوغان؟
أعلنت المحكمة الدستورية بطلان ترشح عبدالله غول، وأعلنت هيئة الأركان العسكرية بيانًا ثانيًا يرفض ترشح غول، ومع ذلك أصر أردوغان على الوقوف وراء صديقه الذي سرعان ما أعلن انسحابه لتهدئة الأمر. لكن تمت الدعوة لعقد انتخابات مبكرة، تمكن بعدها غول من إعادة ترشحه، وبالفعل فاز بمنصب رئيس الجمهورية في أغسطس/ آب 2007، ليرد أردوغان بذلك الجميل لصديقه على موقفه في 2002.
لكل شيء إذا ما تم نقصان
الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان»
مثلما كان للربيع العربي أثر في قلب موازين القوى في العالم العربي، كان لصداه أثر على نظام الحكم في تركيا. اختلف غول مع أردوغان حول موقف الأخير المساند بشدة للمعارضة المسلحة في سوريا، وكان يرى ضرورة التأني وعدم تعريض المنطقة لخطر الفوضى الذي سيصعب السيطرة على الأمور فيما بعد، لاسيما أن سوريا تمثل عمقًا جيو-استراتيجيًا للأمن القومي التركي.مثلت احتجاجات ميدان تقسيم في 2013 نقطة خروج الخلافات بين رئيسي الحكومة والجمهورية إلى العلن، بعد أن انتقد الأخير طريقة تعامل الحكومة مع المتظاهرين، فيما يبدو نقدًا صريحًا لسياسات أردوغان، في الوقت الذي كان يرى فيه أردوغان أن هناك مؤامرة لقلب نظام الحكم، بعد اتهامات فساد نالت كبار رجال الدولة. وكان أردوغان ينتظر أن يقوم صديقه بالدفاع عنه ضد الاتهامات التي نالته هو وعائلته بدلًا من الهجوم عليه.جاء الانقلاب العسكري في مصر بمزيد من التصدع في صلب العلاقة بين الرجلين. قام غول بإرسال برقية تهنئة للسيسي عقب فوزه بالانتخابات الرئاسية، رغم وقوف أردوغان باستماتة خلف جماعة الإخوان والرئيس الأسبق مرسي. شعر أردوغان بمرارة الخذلان من مواقف صديق عمره، إذ كان الأول قاب قوسين أو أدنى من التضحية بالحزب لأجله، كيف يخرج هكذا وينتقده بهذه الصورة؟ ومن هنا قرر إزاحته تمامًا من المشهد السياسي برمته. في السابع والعشرين من أغسطس/ آب 2014، وقبل نهاية فترة رئاسة غول الثانية والأخيرة بيوم واحد، قام أردوغان بهندسة مؤتمر عام للحزب لاختيار رئيسه، حتى لا يتمكن غول من ترشيح نفسه، لأن الدستور يحظر على رئيس الجمهورية أن يكون رئيسًا لحزب، لاسيما بعدما تزايدت احتمالات اختياره رئيسًا للحزب أو الحكومة فيما بعد. وسريعًا أعلن أردوغان أن رئيس الحزب سيكون رئيسًا للحكومة، أي أنه قطع أي احتمالية لوجود غول داخل دوائر صنع القرار التركي، وهو الأمر الذي اعتبره البعض خيانة وانقلابًا من أردوغان على الضلع الثاني لنجاح تجربة العدالة والتنمية في الحكم.خرج غول من المشهد السياسي وتلاه داود أوغلو وبعض الشخصيات الأخرى التي اختلفت مع سياسات أردوغان ووجدته يستبد بالسلطة.ورغم أن المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016 جمعتهم مرة أخرى على رأي واحد، وأطلق غول كلمة نارية مناهضة للمنقلبين، فإنه سرعان ما عارض الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها الحكومة بحقهم، وزادت حدة معارضته لها عندما سنّت الحكومة قانونًا يعطي حصانة دستورية المواطنين الذين واجهوا محاولة الانقلاب لحمايتهم من ملاحقتهم قضائيًا من جانب أعداء الحكومة، وهو الأمر الذي وجده غول وآخرون عاملًا لتمزق المجتمع في المستقبل ويحوله إلى مليشيات. وهو ما رد عليه إعلام النظام بأنه كان على علاقة بجماعة غولن لترهيبه، بل قام أردوغان نفسه بمهاجمته بقسوة قائلًا:بينما كانت تركيا تحترق وكان العالم يشتعل بالتقلبات، لم نسمع لهم أي صوت. الآن باتوا ينتقدون كل كبيرة وصغيرة، خيرًا؟ من أين أتت كل هذه التخوفات فجأة وبهذه السرعة؟
الانتخابات المبكرة وفرصة العودة للساحة؟
اقرأ أيضًا: ميرال أكشنار: المرأة الحديدية القادرة على هزيمة أردوغان؟
ولذلك فإذا كانت الساحة السياسية برمتها منقسمة بين العدالة والتنمية والشعب الجمهوري والحزب الجيد والأقلية الكردية، فأين موقع غول وحزب السعادة الذي يدعمه من معادلات القوى! خاصة أن هذا الأخير لا تزيد كتلته التصويتية على 1%. علاوة على موقف داود أوغلو الذي كان غول يعول عليه كثيرًا، حيث أعلن الأول دعمه لقرار الحزب الحاكم.الخلاصة أنه من الصعب توقع خروج عبدالله غول من الساحة السياسية تمامًا، لكن كل ما في الأمر أنه سيتوارى مجددًا حتى تتاح له الفرصة للعودة من جديد، إذا توافقت عليه المعارضة توافقًا يسمح له بنصيب كبير من الأصوات يمكنه من النجاح. أو ربما يحدث انشقاق داخل العدالة والتنمية بخروج عدد غير قليل من أعضائه على سياسات أردوغان وحينئذ قد يقوده غول. لايزال المشهد التركي معقدًا، لكن مع ذلك تظل فرص أردوغان أعلى في حسم الأمور، في ظل هشاشة المعارضة التركية وغياب إجماعها.