حرب غرفة الاستقبال في بلدِِ تغرق في شبر ماء
«1»
كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون
كان يمضي في طريقه متثاقلا ومتعجلاً في آن واحد. فقد بقيت خمس دقائق على موعد تسليم النوبتجية. مر أكثر من عام، وما زال كأنه في أول أيامه في هذا المكان. يكاد يجزم أنه فقد تماماً القدرة الطبيعية على التكيف والتي أودعها الله في كل الكائنات الحية حتى الأميبا !!. أكثر من 350 يوماً، وما زال – في كل مرة – يلاحقه ويحبس أنفاسه ويخنق روحه نفس المزيج المتكرر من الضيق والتوتر والغضب والندم والضجر والخوف بل والرعب، كلما اقترب من مدخل المستشفى ولاح مبناها الكئيب يسد أفقه.
كانت أنفاس يوليو/تموز الحارة تلهبه من الخارج، بينما يتلظى من داخله بالسؤال المؤلم الذي يلح عليه ألف مرة كل صباح.. فيم ولِم وإلى متى كل هذا العذاب !، ما الذي يجنيه مقابل حرق أعصابه، وخنق زهرة شبابه، والغرق اليومي في الدماء وصرخات المتألمين والثكالى ؟. بدأ يشعر أنه يُمسَخُ مع الوقت إلى ميتٍ حي !، كما تتحول أنَّات الوجع والفقد إلى موسيقى تصويرية معتادة في خلفية حياته.
ما إن دخل من باب المستشفى الخارجي حتى أفزعه المشهد رغم تكرار مثله كثيراً طوال العام، عدد من سيارات الإسعاف بناقوسها المفزع تشق أذنه وما بقي من اطمئنانه، وعشرات بل مئات من البشر يحجبون الرؤية ويستنزفون آخر جزيئات الأكسجين في هواء المكان. وسط هذا الهرج والمرج لمح عدداُ من المصابين وبعض البلاطي البيضاء تحاول النفاذ من سد الهستيريا العالي المحيط بكل حالة… صراخ وأنين ودموع … هذا هو المشهد المعتاد في النوبتجيات الساخنة – تعبير دارج بين الأطباء عن النوبتجية في اليوم الذي يكون فيه هدف الإسعاف هو هذه المستشفى ! -، ولابد أنها حادثة كبيرة على الطريق – وما أكثرها -.
فجأة سرت في جسده طاقة انفعالية عجيبة. إذ مرت بخاطره لثانية فكرة أن بشراً ما يمتلك حياة كاملة تؤثر في حيواتٍ أخرى، تنسحب روحه منه الآن في كل ثانية تأخير وسط هذه الفوضى الهستيرية العارمة. لا يدري ما سر هذه الانتفاضة التي لا يعرف أين اختبأت منابعها وسط ركام البرود الذي أصبح يميزه من كثرة ما رأي من دماء وأهوال.
لم يشعر بنفسه إلا وقد ارتدى البالطو في ثانية، وبدأ في الصراخ ودفع الأهالي المتجمهرين بإصرار حول مصابيهم، لا يتذكر تحديداً ما الذي كان يقوله، غالباً هو مزيج من الضجيج غير المفهوم والشتائم !. نجح بعد دقيقتين في الوصول إلى أحد المصابين، وكان شاباً في الثلاثين مصاباً بكسر مفتوح في أحد ذراعيه، وعدة كدمات وجروح في مناطق متفرقة، ويبدو من ملابسه المنقوعة في الدماء أنه قد نزف كثيراً. وكان يصرخ صراخاً مريراً يخلع الجبال.
لحسن حظه وحظ الشاب طبعا أنه يحتفظ دائما في جيب البالطو برباط شاش وعدة كانيولات، قام بتركيب اثنين منهما سريعاً، وشق طريقه بنفس الطريقة إلى غرفة أدوية الطوارئ وأحضر زجاجتين من محلول الملح العادي ليقوم بالتنقيط الوريدي السريع جداً لهم لمحاولة إسناد هذه الدورة الدموية المسكينة المشرفة على الانهيار.
بصعوبة شديدة كرر الأمر مع مريضين آخرين، ولم ينجح في هذا إلا بعد أن قام تقريباً بسب ودفع وضرب – بقصد وغير قصد – اثنين من زملائه وثلاث ممرضين و أكثر من ثلاثين من الأهالي !.
«2»
أقسام الطواريء الطبية هي أكثر مثال حي شاهد على أن بين الحياة والموتِ حجابُ رقيق، ودقائقُ أو ثوانِ أو أجزاء من الثانية. ولا يمكن لمنظومة طبية أن توصف بأنها منظومة أو طبية، إلا إذا تضمنت إدارة جيدة للغاية لحالات الطوارئ، وسخاءً استثنائيا في تجهيز أقسام الطوارئ بالمستشفيات بما تحتاجه من طواقم بشرية طبية وأدوات وأدوية ..الخ، وكذلك أسرة للعناية المركزة ما بعد الإسعاف الأولي للحالات الخطرة منها.
وهنا تتضح الكارثة الكبرى التي تحيط بنا في بلد اللا نظام واللاشئ، فوضع الطواريء مُزرٍ للغاية. فلا إدارة جيدة في الأوقات العادية، وبالتالي فلا غرابة في الغياب التام المميت لإدارة الأزمات والطواريء. طبق هذا على نطاق الدولة الكبير، وطبقه على أصغر غرفة لاستقبال الطواريء في مستشفىً ناءٍ صغير.
نقص الموارد المادية والبشرية مشكلة فعلا… لكن سوء إدارة الموجود أفدح ثمناً. وفي الطواريء الطبية يكون الثمن فقد حياةٍ، أو استمرارها لكن بعاهات ومضاعفات تدمر الجسد، وتنغص العمر.
«3»
بعد ربع ساعة في خضم المعمعة، لم يعد يستطيع التحكم في أعصابه، وبدأت عدوى الهستيريا تسيطر عليه. أكثر من عشرة مصابين بين الحياة والموت فيما فهم أنه تصادم مروع بين سيارة نقل وميكروباص على أحد الطرق الفردية. لا يستطيع هو والقلة من الأطباء المتواجدين في المكان حتى إخلاء منطقة حيوية مسافتها نصف متر حول كل مصاب حتى يمكن آداء واجب إسعافهم. مئات الأهالي المتجمهرين والذي يزيدون في كل لحظة، احتمال التفاهم المنطقي مع معظهم لا يتعدي 5 أجزاء من المليون في أحسن الأحوال. بل وبدأ بعضهم في سب الأطباء والتمريض !، كأن في دقائق الموت التي يمر بها ذووهم فائضاً لمزيد من تعطيل وتشتيت ما هو معطل بالفعل من جهود المسعفين. أمن المستشفي يرقبون المشهد في جمود يحسدون عليه، وتبدو على وجوههم أحيانا بعض أمارات التعجب البارد، كأنهم يستغربون لماذا لم يقم أحد ما بتوزيع بعض علب الفشار عليهم لتكتمل متعة المشاهدة !. اثنين منهم فقط حاولا بمبادرة فردية وشجاعة تعتبر في هذا المناخ نادرة أن يحاولوا تخفيف بعض الفوضى، وفتح مسارات آمنة للأطباء للوصول إلى الحالات والتي ما يزال معظمها على نقالات الإسعاف !.
«4»
الجهل يقتل !
يكاد لا يوجد تخصص في الطب إلا ويشتمل على بعض الحالات الطارئة. وللطواريء الطبية درجات، فهناك حالات طارئة لا غضاضة على الطبيب أن يتدخل فيها خلال دقائق، وهناك أخرى من الجريمة أن يتم التأخر فيها لثوان. وهناك حالات مرضية أخرى مزمنة خطيرة، وتحتاج إلى متابعة مستمرة وعناية فائقة، لكن لا يوجد تدخل عاجل ما للتعامل معها، وليس مكان التعاطي معها هو أقسام استقبال الطواريء.
ثقافة الـ Triage – والذي يعني تنظيم أولويات التعامل مع حالات استقبال الطواريء طبقا لعاجلية كل حالة – السابقة غائبة تماما في أغلب مؤسساتنا الطبية، وكذلك في وعي الناس. فتجد تكدسا هائلا في أقسام الاستقبال – على قلتها وضعف إمكاناتها -، ومع سوء التنظيم أو غيابه التام في أغلب الأحوال، يتضاعف عبء التكدس عدة مرات. يستنزف الطاقم الطبي في محاولات بائسة للحصول على بعض النظام ومحاولة أكثر بؤساً للقيام بدوره بقدر معقول من الكفاءة والفاعلية. والطامة الكبرى أن ثلاث أرباع هذا التكدس كغثاء السيل!. فهي حالات باردة – ليست عاجلة – ومكانها في عيادات المتابعة، لا أن تزاحم الحالات الطارئة في قلب ملجأها للنجاة.
وهنا يكون الجهل ونقص الوعي والأنانية – ولو بحسن نية – من وسائل القتل.
ومن تجربتي الشخصية في طواريء القلب بإحدى المشافي الحكومية المزدحمة، كثيرا ما اكتشف حالة طارئة للغاية – كحالة جلطات شرايين القلب – وسط مظاهرة من الحالات المستقرة أو أصحاب العروض الروتينية !، وهؤلاء بالطبع لديهم فائض الصحة – والبجاحة أحيانا- للتدافع مع الآخرين، والالتصاق بباب غرفة كشف الطواريء !
وأعرف حالة وردت إلى الاستقبال بفشل شديد بعضلة القلب وهبوط حاد بالدورة الدموية، لنكتشف أنها أصيبت بجلطة كبيرة بشريان القلب منذ أيام، ولما عاتبنا أهلها على التأخر في جلبها للطواريء مع بداية الأعراض لإنقاذ عضلة القلب، فوجئنا بأنهم بالفعل جاءوا بها أول يوم، فلما رأت الحالة الازدحام الشديد باستقبال الطواريء، ألحت عليهم أن يعطوها مسكناً للألم، ويعيدوها للمنزل، بدلا منالانتظار في الازدحام الخانق !.
«5»
فجأة زاد الصراخ، وبدأ بعض الأهالي يلطمون حول إحدى الحالات !. كان يتوقع ماحدث، ولذا لم يتفاجأ لمشهد الشاب الشاحب الذي توقف عن الصراخ فجأة، وانقطعت أنفاسه، وضع يده على رقبة الشاب يتحسس نبض الشريان السباتي ….. Arrest arrest !.. هكذا صرخ. وسحب النقالة سريعاً إلى غرفة الإنعاش وسط أمواج الهستيريا والعويل. بدأ الإنعاش القلبي الرئوي في أقل من نصف دقيقة. السبب واضح لاشك، فهذا الشاب نزف كثيراً حتى توقف قلبه الجائع إلى تغذيته الدموية. أثناء دورات الإنعاش المتتالية أمر بضخ كمية كبيرة من السوائل الوريدية، كما سحب عينة عاجلة للتعرف على فصيلة دم الشاب. وأمر أهله – الذين تسلل 4 منهم إلى غرفة الإنعاش ! – على جناح السرعة أن يجلبوا كيسين من الدم من فصيلته من بنك دم الحالات الطارئة. استمر الإنعاش القلبي الرئوي أكثر من نصف ساعة، ولا استجابة … تراوده نفسه أن يتوقف إذ يبدو الأمر بلا جدوى. لكن هذا الشاب المسكين الذي يقاربه في العمر يحتاج إلى فرصة أخرى. فكل القصة هي النزيف، ولا أمراض مزمنة أو شيخوخة مهلكة. لحسن الحظ وجد أهل المريض أكياس دم من فصيلته، أمر على الفور بضخها بأسرع ما يمكن في أوردة المريض. أوشك طاقم الإنعاش على السقوط أرضا من الإعياء، لكن بعد نصف ساعة أخرى، جاءت اللحظة التي ينتظرها من حين لآخر والتي تكسبه حياته العملية المهلكة معناها، عاد قلب الشاب المسكين للعمل. بالطبع علاماته الحيوية – ضغطه ونبضه – ليست جيدة. لحسن الحظ هناك سرير متوافر بعناية الطوارئ، أمر بإدخال المريض عليه. هل سينجو ؟!! … لا وقت لهذا السؤال الآن. خرج ليحاول استكمال المعركة بالخارج، ولكن هذه المرة بروحٍ أفضل.
«6»
هبوط حاد بالدورة الدموية ..
توقف عضلة القلب هو النتيجة النهائية التي لا مفر منها لكل الحالات الخطيرة التي يصاب بها الإنسان، وإن كان له بعض الأسباب المفاجئة غير المعروفة في بعض الحالات النادرة. يرفع الجسم الراية البيضاء أمام ما أصابه، فيستسلم محركه الدؤوب عن العمل. وهنا يكون الموت فعلاً أقرب إلى المريض من حبل الوريد. فعدة دقائق من انقطاع الدم عن المخ تعني تضرر المراكز الحيوية الهامة بالمخ ومن ثم الوفاة. دور الإنعاش القلبي الرئوي CPR هو القيام بدور القلب مؤقتاً لحين التدخل العاجل للغاية ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتدارك ما يمكن تداركه، ليعود القلب للعمل الذاتي. فالانضغاطات الصدرية chest compressions التي يقوم بها الأطباء، تكون كأنها انقباضات القلب الطبيعية، فتدفع الدم من داخل القلب إلى أجزاء الجسم، وهكذا تحرك الدورة الدموية التي توقفت، كما يقوم الأطباء بعمل تنفس صناعي للمريض وتركيب أنبوبة تنفسية تدخل مباشرة إلى قصبته الهوائية، لضمان وصول كمية جيدة من الأكسجين إلى رئتيه ومن ثم دمه، وبالتالي يتم الحفاظ على حد أدنى من التغذية الدموية لأجزاء الجسم وأهمها المخ ريثما يتدخلون بمنتهى السرعة بعلاجات طارئة قد تجدي أو لا تجدي في القضاء على الحالة الخطيرة التي أوقفت القلب. وتأخر دقيقتين أو ثلاثة في بدء الإنعاش، قد يعني وفاة المريض لا محالة، أو نجاته بعجز كبير في وظيفة المخ. ولذا ففي البلاد المتقدمة، تقوم حملات لا حصر لها بتعليم عامة الناس كيفية القيام بهذا الإنعاش، وذلك للحفاظ على حياة المرضى في الوقت القصير الذي يسبق وصول أطقم الإسعاف الطبية. بل ويوجد على الأعمدة في شوارع بعض المدن الكبري أجهزة صدمات كهربية أوتوماتيكية ،AEDs، وذلك للتعامل مع حالة الاضطرابات المفاجئة في ضربات القلب التي تؤدي إلى توقف القلب !.
«7»
وللقصة بقية …
كان المشهد في الاستقبال قد أصبح أقل هرجاً ومرجاً. فقد توزعت الحالات العشرة إلى أماكن مختلفة، مما مزق أشلاء الهستيريا الجماعية. حالتين في عمليات جراحة الطواريء، وحالتين في عمليات العظام، و 3 حالات جراحها سطحية يتم تطهيرها وخياطتها وتنظيفها. وحالة نزيف بالمخ ليس لها مكان في عناية المخ والأعصاب، فاضطر أهله للهرع به إلى مستشفىً أخرى بحثا عن عمر جديد له، وحالة كانت متوفاة بالفعل عند ورودها للمستشفى، فأخذها أهلها لدفنها بعد أن سبوا الأطباء واتهموهم بالتقصير في إنقاذه ! وهددوا بأنهم سيشتكونهم إلى أحد برامج التوك شو الذي يشتهر مقدمه اللزج بحملاته ضد «إهمال» الأطباء ، وقاموا بتكسير بعض كراسي الاستقبال ثم انصرفوا !!
لم يمر في هذا «الأكشن» سوى ساعتين فقط، ومازال أمامه ثلاثة أمثالها قبل مغادرة هذا المكان القميء. أخذ يحمد الله على بعض الطاقة الإيجابية التي اكتسبها من الشاب الذي قام بإنعاشه. فمثل هذه المواقف هي أكسير القيمة والمعنى لحياته ولصبره.
دعا الله ألا يكون باقي قصيدة النوبتجية كمطلعها، لكن صوت ناقوس الإسعاف الذي يدوي خارج المستشفى قد يأتيه بما لا تشتهي نفسه.