«قرآن التنوير»: تاريخ ترجمة القرآن في أوروبا المسيحية
يمكنك تمييز الطبيعة السياسية للفنون في أوضح صورها، في فن الترجمة. وتزداد وضوحًا عندما تستهدف إعادة تقديم نص يؤمن بقداسته قوم لا تربطك بهم علاقة ودية. هذه العبارة مدخل مناسب إلى كتاب «قرآن التنوير: سياسة الترجمة وبناء الإسلام»، الصادر عن منشورات وانوورلد، بالإنجليزية، عام 2009، لمؤلفه المصري «زياد المرصفي»، أستاذ الأدب المقارن بـ«كلية الملك بلندن – King’s College London».
يمكن تقسيم الكتاب، بفصوله السبعة، إلى جزأيْن. يسرد الجزء الأول محاولات ترجمة القرآن في أوروبا، خلال عصر التنوير، وأثر كل من الموقف العقدي المسبق، والخلاف الطائفي المسيحي، على النصوص النهائية، وهو الجزء الذي يتناوله مقالنا هذا.
أما الجزء الآخر، الأكبر حجمًا، فيدرس تأثير هذه الترجمات على عدد من أبرز أعلام عصر النهضة، والقرن الذي تلاه، وقد تناولناه في مقالة أخرى.
الترجمات الأولى
يفتتح «المرصفي» دراسته بتاريخ موجز لأبرز محاولات ترجمة القرآن في أوروبا. بدأه بالدعوة التي أرسلها «ألفونسو» السابع، ملك قشطالة وليون وغيرها، إلى «بطرس المبجل»، الراهب واللاهوتي الفرنسي، للقدوم إلى إسبانيا عام 1142، ولم تزل ذكريات الحملة الصليبية الأولى عالقة بالأذهان.
كان «بطرس» يرى اتخاذ تنصير المسلمين لا إفنائهم هدفًا نهائيًا، وهو ما يستلزم دراسة دينهم ونصوصه. وهناك، أشرف بطرس على إصدار أول ترجمة لاتينية للقرآن. لكنّ النص القرآني المترجم تخللته كثير من التفاسير والشروحات، من مصادر مختلفة ترجمت عن العربية أيضًا، فجاء أقرب إلى إعادة صياغة تفصيلية للنص المقدس منه إلى ترجمة منضبطة، وعرف باسم «مدوّنة طليطلة – Toledan Collection».
بعدها، جرت محاولات عديدة لإنتاج ترجمات أكثر التزامًا وحرفية، منها ترجمات لاتينية لبعض السور في مقابل النص العربي الأصلي، لكنها لم تلقَ نفس انتشار مدونة طليطلة وقبولها، وكانت أشد إتقانًا لكنّها أكثر ملاءمة للمستشرقين ودارسي العربية منها للمثقف الفضولي.
استمر الحال هكذا حتى عام 1543، حين طبع «تيودور ببلياندر» الناشر والمستشرق السويدي، مدوّنة طليطلة للمرة الأولى في مدينة بازل السويسرية، بعد خلاف مسيحي كبير بين من يرى في ذلك إفسادًا لعقيدة العامة، ومن يرى في كشف هذه الهرطقات أمامهم وسيلة لتحذيرهم من خطر عقيدة العثمانيين. بالتالي دفعهم إلى الاستبسال في قتالهم.
كان رموز حركة الإصلاح البروتستانتية، مثل «مارتن لوثر» اللاهوتي الثائر، من أبرز المتحمسين لهذه الخطوة، حتى أنهم شاركوا في تعزيز المدوّنة المنشورة بمختلف الحجج والتفانيد اللاهوتية. لكن الحقيقة أن الخصم المستهدف من كل هذا لم يكن العثمانيين فحسب، بل الكاثوليك وسائر الطوائف المسيحية الأخرى أيضًا. فبقراءة هذه الهرطقات –في رأيهم-؛ سيكتشف العامة مغبة الجهل واتباع رجال الدين الكَذَبة.
إلى جانب ذلك، كان اتهام الفرق المسيحية نقادها بالإسلام أو العمالة للمسلمين أمرًا شائعًا. ومع نشر هذه النصوص، عكف القساوسة والمصلحون عليها لكشف مواطن التشابه بين المنافسين والعثمانيين. وسيتواصل إنتاج ترجمات أخرى –سرًا في الأغلب، خوفًا من الكنيسة والسلطات- في دول أوروبية مختلفة، نقلًا عن ترجمات سابقة، مما سيزيدها اغترابًا عن النص الأصلي.
التنوير: من مراتشي إلى سيل
أدّى الشعور بالاكتفاء فيما يخص النص القرآني -سواء بمدونة طليطلة، أو بما تلاها من ترجمات فخمة، مثل ترجمة الفرنسي دي ريير عام 1648- إلى التفات السلطة السياسية والدينية نحو النصوص العربية الأخرى، مما أثرى المكتبة المترجمة في أوروبا كثيرًا، وجعلها مع نهاية القرن الـ17، جاهزة لاستقبال ترجمة موسوعية حديثة تليق بالنهضة المعرفية الأخيرة.