المهندس أوربان: قاهر القسطنطينية
أخيرًا في عام 1453م سقطت المدينة العصية القسطنطينية بين أيدي المسلمين بعد 10 محاولات فاشلة باءت بالفشل، رغم قيامها في عِز دولة الإسلام في العصرين الأموي والعباسي، وهو الحدث التاريخي الذي لم يقع إلا على يدي السُلطان العثماني محمد الفاتح محققًا ما فشل به سليمان بن عبدالملك وهارون الرشيد.
نجح محمد الفاتح في حل شفرة أسوار القسطنطينية الحصينة بفضل اختراع المدفع العملاق الذي ابتكره المهندس الأوروبي الغامض أوربان، والذي نكاد لا نعرف عنه شيئًا على الرغم من دوره الحربي الجليل، الذي دفع شابًا تركيًا من قرية دميركوي التي تقع شمال تركيا لنحتِ نصب تذكاري لأوربان على هيئة مدفع!
من أوربان؟
تباين المؤرخون في تحديد مسقط رأس أوربان (Urban)، فقالوا، إنه من المجر أو من ألمانيا أو من إقليم داشيا (Dacia) الذي يقع برومانيا حاليًا. أوربان اسم مجري بالفعل، لكنه أيضًا شائع في دول أوروبية أخرى مثل بلجيكا وهولندا ما يضفي المزيد من جهود تحديد منبته الأصلي ويجعل محاولة حسمها أمرًا مستحيلاً.
وبحسب ما أورده عبدالمنعم الجميعي أستاذ التاريخ المعاصر في كتابه «العثمانيون بين أوروبا والعرب ومحمد علي»، فإن المهندس أوربان كان يُعدُّ أحد أشهر صنّاع المدافع في زمانه، وطاف على أوروبا يعرض على حكّامها اختراعاته فلم يلتفت إليه أحد بما في ذلك الإمبراطور البيزنطي قسطنطين، وهو الوضع الذي تغيّر حين وفدَ أوربان على الدولة العثمانية وعرض على سُلطانها محمد الفاتح اختراعه فاهتمَّ به ووفّر له كُل متطلباته.
تمتّع أوربان بخبرة كبيرة في صبِّ المدافع من البرونز، وهو ما يرجّح أن ميوله أوروبية شرقية (المجر أو رومانيا) لأن أوروبا الغربية- ومنها ألمانيا- توقّفت عن استخدام البرونز في صناعة المدافع أو القذائف منذ منتصف القرن الـ14 الميلادي واستعانت بالحديد بدلاً منه.
في ذلك الوقت كانت الإمبراطورية البيزنطية تعيش أسوأ أوضاعها فلم تمتلك الموارد الكافية من الخشب أو البرونز لصناعة المدافع، كما لم تمتلك أي أموال تكفي لإغراء مهندس حربي عبقري مثل أوربان، وبشكلٍ عام لم يهتم البيزنطيون بالمدافع كسلاحٍ يستخدمونه في المعارك، أما القطع الضعيفة التي كانت بحوزتهم فكانت هدايا نوعية وفدت عليهم من حكّام أوروبا الغربية في سنواتٍ لاحقة.
لكل هذه الأسباب غادر أوربان المدينة البيزنطية بحثًا عن عميلٍ جديد، فكان السُلطان العثماني محمد الفاتح.
ويمنحنا الطبيب نيقولو باربارو- الشاهد على وقائع حصار العثمانيين للبلاد البيزنطية- في كتابه «الفتح الإسلامي للقسطنطينية» المزيد من تفاصيل لجوء أوربان إلى العثمانيين، فيقول إن أوربان كان يعمل لدى الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الحادي عشر قبل أن يفرَّ إلى العثمانيين ويعمل بأربعة أضعاف راتبه عند البزنطيين، وعقب انخراطه في خدمة المسلمين طلب منه محمد الفاتح أن يصنع له مدفعًا لا مثيل له.
في لقائه بالسُلطان كشف أوربان أنه تفحّص جُدران العاصمة البيزنطية جيدًا ويعرف تحديدًا كيف يصنع مدفعًا يقهر سُمكها.
ورغم توافر كافة الإمكانيات عانى أوربان من صعوبات فنية جمّة في البداية؛ فمدفعه لم يكن قادرًا على إطلاق القذائف إلا 7 مرات في اليوم، ويتحاج إلى قرابة 3 ساعات كاملة يُنقع خلالها في الزيت حتى يبرد ويكون قادرًا على إطلاق النار مُجددًا، وهي العيوب التي حاول أوربان القضاء عليها- ولو جزئيًا- قبل تحرُّك الجيش الإسلامي نحو بيزنطة.
وخلال ـ3 أشهر كان أوربان قد انتهى من بناء مدفعٍ وصفه المؤرخ البيزنطي دوكاس (Doukas) بأنه كان كـ«الحيوان الخرافي»، وخلال تجربته الأولى أحدثت القذيفة دويًّا هائلاً سُمعت آثاره من على بُعد 10 أميال وصنعت فجوة في الأرض عُمقها 6 أميال، وكادت تخلق موجة هائلة من الرعب بين سكان أدرنة لولا أن أذاع الفاتح قبل التجربة أن حدثًا ما سيقوم به قد يُؤدي إلى انفجارٍ هائل.
فور الانتهاء من سلاحه العملاق سيُطلق عليه أوربان اسم «مدفع البازيليك»، وهو اللقب الذي لن يشتهر كثيرًا بعدما فضّلت كُتب التاريخ باقي الأسماء المُرعبة التي منحها المؤرخون البيزنطيون لتلك القطعة العسكرية الفريدة من نوعها وقتها، والتي نُسبت إلى محمد الفاتح ذاته.
يوم الفتح
في يوم الفتح ظهرت ثمار عمل أوربان بعدما صمّم للجيش الأحمر عدة مدافع ضخمة أبرزها مدفع عملاق يزن 700 طن وتزن قذيفته 12 ألف رطل، كان يجره 70 ثورًا و100 رجلٍ قوي، وبسبب ثقله المفرط استغرق نقله من أدرنة إلى القسطنطينية نحو شهرين لأن حركته لم تزد سُرعتها على 4 كيلومترات في اليوم الواحد. وهو المدفع الذي سمته المصادر الغربية «المدفع السُلطاني» أو «المحمدية Mohametta».
ومن فرط تأثير ذلك المدفع الساحق على مسار المعركة شبّهه بعض المؤرخين الغربيين بأنه «قنبلة عصره الذرية». خلّفت القذائف آثارًا تدميرية ضخمة، فالجدار الخارجي السميك لعاصمة البيزنطيين لم يحتمل أكثر من قذيفتين حتى بدأ في الانهيار.
رغم ذلك فإن مؤرخين كُثر كتبوا عن عيوبٍ كبيرة سادت عملية إطلاق المدافع التي لم تسر بشكلٍ منتظم أبدًا أو على الأقل كما خُطِّط لها، لأنه عقب إطلاق أي قذيفة كان المدفع يحتاج إلى وقتٍ طويل وكميات كبيرة من الزيت ليبرد ويكون قادرًا على إطلاق قذيفة أخرى. خلال فترة التوقف تلك كان البيزنطيون ينجحون في ترميم الفجوات التي صنعتها المدافع في الأسوار، وهو ما أطال من مُدة الحصار ودفع السُلطان محمد لضرب حصار بحري حول المدينة بواسطة سُفنه لتضييق الخناق عليها أكثر فأكثر.
لاحقًا، أسهم سقوط العاصمة البيزنطية بأيدي العثمانيين عبر الاستعانة بالمدافع في تغيير مفاهيم حرب القرون الوسطى، فلم يعد الاختباء وراء أسوار حصينة خيارًا متاحًا للنجاة من عدوك طالما يمتلك مدفعًا قويًّا، لذا يعتبر بعض المؤرخين أن ذلك المدفع العثماني كان البداية الحقيقية لعصر النهضة الأوروبي وظهور نوعية جديدة من الحروب تُسرف في الاعتماد على البارود والقذائف بعيدة المدى.
موت أوربان
بحسب ما أورده الدكتور حسين المصري في كتابه «معجم الدولة العثمانية» فإن أوربان دفع حياته ثمنًا لخطأ في كيفية إطلاق المدافع من دون أن يوضّح لنا هل وقع هذا الخطأ ثم الوفاة يوم فتح القسطنطينية أم بعدها؟
ذات الموقف الذي يرويه علي الصلابي في كتابه «الدولة العثمانية» بتفاصيل أكثر قليلاً مفادها أن السُلطان محمد لما ييأس من استسلام المدينة فأمر بتكثيف الهجوم عليها وبخاصة القصف المدفعي، حتى إن المدفع السُلطاني العملاق انفجر من كثرة الاستخدام وقتل كافة المُشغلين له وعلى رأسهم المهندس أوربان. إلا أن السُلطان أصرَّ على استكمال القصف فأمر جنوده بتبريد المدافع بزيت الزيتون ثم يُعاودون القصف مُجددًا.
حدثت هذه الوفاة على الرغم مما رُوِي عن بناء خندق حصين للجنود المُكلّفين بتشغيل المدفع، لكن يبدو أن قوة ذلك الانفجار فاقت كل التوقعات.
مفارقة الاسم
سقطت القسطنطينية دُرة المسيحية الشرقية في أيدي المُسلمين بفضل أوربان، لكن قبلها بنحو 400 عامٍ تعرّض العالم الإسلامي لمحنة شديدة على أيدي أوربان آخر، هو أوربان الثاني بابا الفاتيكان الذي لعب دورًا محوريًّا في إشعال الحروب الصليبية على بلاد المسلمين بعد خطبته الشهيرة في مجمع كليرمون 488هـ/1095م، وعلى يديه انطلقت الحملة الصليبية الأولى، والتي نشأت عنها إقامة إمارات مسيحية لأول مرة بالشام في بيت المقدس وانطاكية وطرابلس.
كما أنه اسم رئيس وزراء المجر، الذي يحكم بلاده منذ عام 2010م حتى الآن تبنّى خلالها سياسات مسيحية قومية معادية للمسلمين، وكأنه يسير على خطى «أوربان الآخر» بممحاة أو كمُحاولة متأخرة للتكفير عمّا فعل.