أزمة الطاقة: كيف استفادت أوروبا من ملاعب مصر الفارغة؟
في الواقع لا يبدو الظرف مناسبًا للتفكير في مستقبل صناعة كرة القدم، بخاصة في ظل تداعيات تهدد مستقبل ملايين من البشر. ومع ذلك، يمكن لصناعة كرة القدم نفسها أن تخبرنا كثيرًا عن توجهات الحكومات المختلفة سياسيًا، اجتماعيًا واقتصاديًا.
أزمة وجودية
في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، بدا من الواضح سعي عدد من الدول الأوروبية لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري الروسي، الذي كان حتى وقت قريب أحد أهم مصادر الطاقة الأوروبية.
وبما أن الأزمة الروسية/الأوروبية لا يبدو أنّها في طريقها لأن تنتهِي قريبًا، وفي ظل استعداد أوروبا لمواجهة شتاء يتوقع أنه الأقسى في العقود الأخيرة، وجد ساسة واقتصاديو أوروبا أنفسهم أمام ارتفاع جنوني في أسعار الغاز، وصل لـ8 أضعاف متوسط السعر في آخر 10 سنوات؛ نظرًا لقلة المعروض أمام الطلب.
بحسب المدير التنفيذي لنادي «مايوركا» الإسباني، يثير المشهد قلق عديد من الأندية الأوروبية، حتى وإن لم تتم مناقشة تداعيات أزمة الطاقة في اجتماعات موسّعة. لكن الحَل بحسب وجهة النظر السائدة -البديهي بالمناسبة- هو التقشُّف، عن طريق تقليل استهلاك الكهرباء، ومن ثم البحث عن مصادر طاقة أكثر استدامة.
حتى عام 2019، لم تكن الأندية مجبرة على تضمين تفاصيل تكاليف استهلاكها للكهرباء داخل بياناتها المالية، التي اتضح لاحقًا أنها تكاليف باهظة أكثر مما نتصوَّر.
بإلقاء نظرة على بعض أندية الدوري الإنجليزي الممتاز، نجد أن ناديًا مثل «ويست هام» استهلك نحو 2.7 مليون كيلو واط من الكهرباء عام 2021 لتشغيل مرافق ملعبه. وهو الرقم الذي يعد قليلًا مقارنة باستهلاك نظيره الإنجليزي «إيفرتون» الذي استهلك ملعبه «جوديسون بارك» ما يقترب من 7.5 مليون كيلو واط ساعة.
وحتى لا يتشتّت انتباهك، طبقًا لوزارة الأعمال والطاقة والاستراتيجية الصناعية البريطانية (DBEIS)، بلغت تكلفة تشغيل كل كيلو واط ساعة من الكهرباء نحو 0.189 جنيه إسترليني. ويتوقَّع أن ترتفع تكلفة التشغيل بنسبة تقترب من 37% لتصل إلى 0.211 جنيه إسترليني لكل كيلو واط ساعة.
يعني ذلك أن بند الكهرباء وحده قد يثقل خزينة نادٍ مثل إيفرتون ما يتجاوز المليون ونصف المليون جنيه إسترليني.
ربما يبدو الرقم أعلاه عاديًا ظاهريًا، لأننا نعلم مسبقًا أن أندية الدرجات الممتازة محصنة نسبيًا من مثل تلك التهديدات الوجودية، التي ربما تنال فقط من أندية الدرجات الأدنى، التي لا تمتلك مصادر متعددة للدخل.
سياسة «شد الفيشة»
عملًا بمبدأ «إذا غلا علي شيء تركته»، بدأت أندية الدوريات الأوروبية اتخاذ حزمة من قرارات التقشُّف، لمواجهة غلاء أسعار مصادر الطاقة اللازمة لإنتاج الكهرباء. لذا كان الحل المنطقي هو تقليل استخدام الأضواء الكاشفة قدر المستطاع.
في إيطاليا مثلًا، نشرت رابطة الأندية المحترفة بيانًا رسميًا يجبر الأندية على وضع حد أقصى لاستخدام الأضواء الكاشفة في أيام المباريات. وفي دول مثل فرنسا، الدنمارك والسويد، أجبرت الأندية على تخفيض استهلاكها من الكهرباء بنسبة 25%.
أما في ألمانيا، أجبر نادي «نورمبورغ» على تقديم مواعيد مبارياته، حتى يتثنى للمسؤولين عن تشغيل ملعب «ماكس مورلوك» إغلاق الأضواء الكاشفة في تمام التاسعة مساءً. مع فرض بعض القيود حول استخدام تكنولوچيا تدفئة العشب.
كذلك قامت بعض الأندية الألمانية أيضًا بفرض بعض قواعد التوفير داخليًا مثل: إضاءة ملعب «بوروسيا» الخاص بنادي «مونشنغلادباخ» باللون الأخضر في يوم المباراة فقط، بدلًا من كل أيام الأسبوع، إجبار لاعبي الشباب والفريق الأول على المشاركة في استخدام أحواض الاستشفاء جنبًا إلى جنب. وقيام مسؤولو ملعب «أليانز آرينا» بتبريد أو تسخين غرف الموظفين والزوّار بالملعب بدرجتين أقل من ذي قبل بحسب حالة الطقس.
اقتصاد زائف
في سبتمبر/أيلول 2022، وأثناء الاجتماع الشهري لرابطة أندية الدرجة الثانية الإنجليزية «تشامبيونشيب»، تمت مناقشة احتمالية تقديم مواعيد المباريات لإعفاء الأندية ولو نسبيًا من توفير نفقات إضاءة الملاعب، بخاصة وأن بعض هذه الأندية قد لا تتمكَّن من إضاءة ملاعبها سوى باستخدام مصابيح «الهالوجين» الرخيصة، لكن الأكثر عرضة للتلف. على عكس الأندية الأكثر ثراءً، التي تعتمد على مصابيح من الـ«LED»، الأكثر توفيرًا على المدى البعيد.
في نفس الوقت كانت مؤسسة «Fair Game»، التي تسعى لإيجاد حلول واقعية للمشاكل التي تواجه كرة القدم الإنجليزية تنشُر نتائج دراسة استقصائية شملت 40 ناديًا من مختلف الدرجات.
اتضح أن أحد أكثر الحلول المقترحة، طبقًا لمسؤولي العينة المختارة، هي تقديم مواعيد مباريات الدوري والكأس لتقليل استخدام الأضواء الكاشفة، فيما قدّمت نسبة لا بأس بها اقتراحات حول ضرورة إيجاد مصادر جديدة وأكثر استدامة للطاقة. بينما ذهب البعض إلى أن أحد الحلول المقترحة للتعايش مع هذه الأزمة هو خفض أجور العاملين بالأندية.
بحسب أحد المسؤولين الذين حضروا الاجتماع الشهري أعلاه، الذي لم يصرح عن اسمه، فتقديم مواعيد المباريات لوقت الظهيرة ما هو إلا اقتصاد زائف. لكن لماذا؟
قبل أن نخبرك بالسبب، علينا أولًا أن نوضِّح مصادر دخل الأندية وهي: عوائد البث التلفزيوني، العوائد التجارية وإيرادات يوم المباراة. ودعنا نركّز قليلًا على مصدر الدخل الأخير.
تُشكِّل إيرادات يوم المباراة في المتوسط نحو 13% من مداخيل الأندية السنوية، بل إن هذه النسبة ترتفع أحيانًا لتصل إلى 20%. وبما أن الجماهير لا تزال جزءًا من المجتمع الذي يعاني من نفس أزمة الطاقة، ويسعى إلى توفير المال اللازم لمواجهة نفس تكاليف المعيشة الباهظة، فليس من المنطقي أن يلتزم بحضور المباريات من أرض الملعب.
بحسب استطلاع رأي شمل عينة من 2000 مشجع إنجليزي مهووس بكرة القدم، فضّلت نسبة تقترب من الـ65% مشاهدة المباريات من المنزل؛ نظرًا للظروف المادية الصعبة التي يمكن تلخيصها في وصول نسبة التضخُّم لحدود الـ18%، وهي النسبة التضخم الأعلى في إنجلترا منذ عام 1976.
لذا، فالحلول البديهية مثل لعب المباريات دون أضواء كاشفة، لا تبدو عملية من الأساس، لأن الجماهير التي تتحمَّل على عاتقها حمل دوران عجلة هذه الصناعة لم تعد قادرة على تحمُّل تكاليف الحياة. ولأن لكل إنسانٍ أولويات، بالتأكيد سيعطي المشجع حياته الشخصية الأولوية أمام ناديه المفضَّل.
الطريقة المصرية: القرار
في الواقع، لا تبدو تحركات مسؤولي الأندية الأوروبية المبدئية بهذا الصدد سوى محاكاة للتجربة المصرية لمواجهة نفس الأزمة.
بأغسطس/آب 2022، أعلنت وزارة الشباب والرياضة المصرية عن بدء تفعيل قرار رئاسة الوزراء المتعلقة بترشيد استهلاك الكهرباء، التي تستهدف توفير الغاز الطبيعي المستخدم في تشغيل محطات الكهرباء، بغرض تصديره والاستفادة من العملة الصعبة.
طبقًا للمادة الخامسة من قرار رئيس الوزراء، على المؤسسات الرياضية الكبرى أن تلتزم بتخفيض استهلاك الكهرباء، والغلق التام للإنارة الخاصة بالصالات والاستادات عقب انتهاء الفعاليات التي تقام مساءً والتنسيق مع جهات الاختصاص لإقامة الفعاليات والتدريبات نهارًا بقدر المستطاع.
بالفعل، تم تفعيل الخطة الجديدة بداية من موسم 2022/2023، حيث تم تقديم أغلب مواعيد انطلاق مباريات الدوري المصري لتصبح في السابعة مساءً بدلًا من التاسعة مساءً كحد أقصى. وفي الواقع، ربما يبدو الأمر اقتصاديًا بالفعل، لأن تبكير هذه المواعيد يضمَن تشغيل الأضواء الكاشفة داخل الملاعب لفترات أقل.
لكن دون أدنى شك، يبدو أن قرارًا عبقريًا مثل هذا لم يستلزم تفكيرًا عميقًا؛ لأنّه -لأسباب لا نعلمها- قد لا يؤثر بأي شكل على صناعة كرة القدم المصرية، إن جاز وصفها بالصناعة.
ففي معزِل عن العالم، تلعب الأندية المصرية دون جماهير، ولا تتأثر عقود الرعاية الخاصة بها، بل تزيد، على الرغم من حقيقة سوء المنتج. كما تقدِّم نفس الأندية ميزانيّات، يختلط بداخلها الحابل بالنابل، لتؤكد عدم وجود أي تهديد اقتصادي حقيقي.
بالتالي، كانت الأزمة الحقيقية هي الجدل الدائر حول تداعيات اللعب عصرًا -إن حدث- على لياقة لاعب كرة القدم المصري المحترف، إن صح وصفه بالمحترف كذلك.