المخ: كيف تعمل آلة التفكير السحرية؟
تستيقظ صباحا يوما ما في المستقبل القريب -أو البعيد، لا أدري على وجه التحديد- تتناول فطورك؛ رغيف خبز وقطعة جبن وبيضة مسلوقة وسلاطة وربما كوبا من القهوة. يكفيك هذا الفطور البسيط كمصدر للطاقة -ربما مع بعض المسليات الخفيفة- حتى تنتهي من عملك عصرا وتعود للمنزل لتناول الغداء مع الأسرة.
في نفس تلك الفترة يقوم نظام الذكاء الاصطناعي الجديد المطور من قبل شركة DeepMind التابعة لجوجل بتعليم شبكته العصبونية متعددة الطبقات مجالا جديدا من مجالات العلوم المختلفة، سنقول هنا الطب مثلا. يقرأ آلاف المراجع، ويشاهد ملايين العمليات، ويطالع كل الأبحاث الجديدة بلا استثناء. وأثناء هذا سيستخدم النظام الطاقة الحوسبية لخوادم جوجل التابعة لخدمات جوجل السحابية. لا يمكننا تخيل كم الطاقة المستخدم في هذا، لكننا سنحاول الآن الوصول لتوقعات قريبة لذلك. وبالطبع سيستغرق الذكاء الاصطناعي الجوجلي الكثير من الوقت والذي لن نتمكن من تحديده قطعا، وأيضا الكثير من المال.
وهنا يأتي السؤال؛ هل يستطيع الذكاء الاصطناعي بالفعل منافسة المخ، ليس من حيث القدرات العقلية، لكن من ناحية استهلاك الطاقة والتكلفة الإجمالية لاستخدامه بشكل عملي في عصرنا الحالي، ناهيك عن تطويره. سنبدأ حديثنا الآن عن المخ، وأدعوك صادقا لأن تتناول قطعة من الشكولاتة تكفي لإمداد مخك بالطاقة حتى الغد قبل أن تكمل القراءة.
المخ؛ الأداة الأكثر تعقيدا في الكون
بوزن حوالي 1400 جرام، وبسائل محيط حامٍ داخل جمجمة صلبة، يقوم هذا العضو اللدِن بمهام يعجز عنها حتى الآن أعتى حواسب الذكاء الاصطناعي. فبين تبيان وفهم المدخلات الحسية، والذاكرة، والحركة، والتحكم في أعضاء الجسم المختلفة، وحتى المهام الأعقد كالسلوك والتصرف والوعي والإحساس الذاتي العام، يصبح المخ هو الرائد على الإطلاق، تاج أعضاء الجسم البشري.
وعلى الرغم من هوس العلماء والفلاسفة بالمخ، إلا أن (المخ الحي) لم يبدأ في الكشف عن أسراره المعقدة سوى قريبا جدا مع تقدم تقنيات التصوير الطبي وقياس أنشطة المخ وكذلك تطور مجال علم وجراحات المخ الأعصاب. ويتكون المخ من حوالي 86 مليار خلية عصبية وأضعافهم من خلايا غير عصبية تتواصل فيما بينها في شبكة متجددة يتم بحثها الآن في مشروع الكونكتم البشري. يتكون المخ البشري من ثلاثة أقسام رئيسية؛ المخ الأمامي forebrain، والمخ الاوسط midbrain والمخ الخلفي hindbrain، ولكل منها تكوين ووظيفة مختلفة.
يتكون المخ الخلفي من المخيخ وجذع المخ وأعلى جزء من الحبل الشوكي، ويتحكم في الوظائف الفسيولوجية الحيوية اللاتلقائية كالتنفس وونبض القلب، كما يتحمل المخيخ مسؤولية التوازن -مع الأذن الوسطى. أما المخ الأوسط فهو المسؤول عن ردود الأفعال التلقائية وبعض أنواع الحركة الإرادية وأيضا حركة العينين. أما عن المخ الأمامي فهو الأكثر تطورا عند الإنسان، وهو الجزء الأعلى من المخ، وينقسم لجزئين متماثلين تشريحيا hemispheres لكنها مختلفين وظيفيا، ومتصلان عبر ضفائر عصبية معقدة. وتقع مهمة العمليات الفكرية المعقدة على عاتق المخ الأمامي، كالذاكرة والتخطيط والتفكير والفهم. فيمكنك باستخدام المخ الأمامي القراءة والتفكير في المستقبل والتعرف على الأصدقاء والخوض في النقاشات الفكرية المعقدة، وهذا بجانب التحكم في الحركة الدقيقة وفهم دلالات المستقبلات الحسية المختلفة كالرؤية والسمع والشم. وعلى عكس المتوقع، يتحكم نصف المخ الأيمن في نصف الجسم الأيسر، والعكس كذلك.
ويحيط بالمخ والمخيخ الطبقة الخارجية التي تسمى القشرة المخية The Cerebral Cortex أو المادة الرمادية. وبسمك أقل من نصف سنتيمتر، تحتوي المادة الرمادية على أجسام الخلايا العصبية في المخ، وهي المسؤولة عن معالجة Processing كل وظائف المخ. وتحتوي القشرة المخية على الكثير من المنحنيات والتي تزيد من مساحة سطحها وبالتالي تعقيد المهام التي تقوم بها. أما المادة البيضاء التي تشكل باقي تكوين المخ فهي تتكون أساسا من محاور الخلايا العصبية.
الإنسان يستخدم 10% فقط من قدرات مخه: حقا؟!
تقول الأسطورة الشهيرة للغاية أن الإنسان الطبيعي يستخدم 10% فقط من قوة المخ، وكما قلت فهي أسطورة، فأنت الآن تستخدم مخك بالكامل، ولكل جزء فيه وظيفة محددة يقوم بها كما قلنا. لكن، كم يستهلك المخ من الطاقة؟ لن نجيب عن هذا السؤال الآن، بل سنحاول فهم كيفية عمل المخ على المستوى الخلوي.
الخلايا التي تكون المخ
أنواع التشابكات العصبية
كما ذكرنا سابقا، فالمخ يتكون من حوالي 86 مليار خلية عصبية، وهو عدد أكبر بكثير من أي كائن متطور آخر. ولكل خلية عصبية 1000 حتى 10000 نقطة تشابك عصبي، بإجمالي حوالي 125 مليار تشابك عصبي، بكل واحد منهم أكثر من 1000 جزيء اتصال على مستوى الجزيء، أي أكثر من 125000 مليار نقطة اتصال بين الخلايا العصبية للمخ الواحد. كل هذا غير الخلايا المساعدة كالخلايا الدبقية Glial Cells والتي يبلغ عددها عشرة أضعاف الخلايا العصبية. فكر في الأمر كشبكة كاملة متكاملة بملايين نقاط الاتصال والتي تعمل كلها بتناغم غير مُدرك ماهيته وذلك لتصبح في النهاية «أنت».
كم يستهلك المخ من طاقة؟
كوابينا بوهين، أستاذ بجامعة ستانفورد.
هذا لا يعني أن المخ أسرع من الحاسوب الخارق، فطريقة العمل هنا مختلفة تماما. فالحاسوب بأشكاله التقليدية يقوم بعملياته الحسابية بشكل متتالٍ حيث تتم كل عملية تلو الأخرى بشكل مرتب، وهذا عكس المخ القادر على العمل على ملايين العمليات المختلفة بشكل متوازٍ في نفس الوقت. هذا لو قارننا بين المخ والحواسيب الخارقة أو أنظمة الذكاء الصناعي بشكل بسيط. لكننا سنتحدث فقط عن استهلاك المخ البشري بتلك القدرات غير المسبوقة للطاقة.
منذ حوالي خمسة وسبعين عاما، قام العالمان الحائزان على نوبل آلان هودجكين وأندرو هكسلي بتصميم أول نموذج يحاول حساب الطاقة التي يستهلكها المخ، وكذلك قياس شدة الإشارات الكهربية السارية في الخلايا العصبية. لكنها لم يطبقاه على مخ إنسان، أو حتى حيوان فقاري، لكن على حَبّار. الآن، استطاع العلماء القيام بحسابات دقيقة لاستهلاك المخ البشري للطاقة، وفي هذا الموضوع تم إصدار ونشر عشرات الأوراق البحثية من مختلف جامعات العالم.
يستهلك المخ الطاقة بشكل متواصل -سواء كنت مستيقظا أو نائما- وذلك باستهلاكه للجلوكوز كالمصدر الوحيد للطاقة في المخ، وذلك عبر عملية تحلل الجلوكوز glycolysis وتحوله لجزئيات الطاقة ATP. ويستهلك المخ الطاقة في نقل الإشارات العصبية خلال محاور الخلايا وكذلك نقلها في التشابكات العصبية «action potential propagation and synaptic transmission». وفي الساعة الواحدة يستخدم المخ حوالي 15 كيلو كالوري من الطاقة، أي حوالي ما يستهلكه معالج رباعي الأنوية معتاد في ثلث ساعة. وعند القيام بمهام فكرية معقدة كالتفكير في معضلة رياضية أو لعب مباراة شطرنج قوية يزداد استهلاك المخ للطاقة. يقوم أساتذة وباحثي علوم المخ والأعصاب باستخدام تقنيات جديدة كالتصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي أو التصوير المقطعي باستخدام انبعاث البوزيترون لقياس نشاط المخ واستهلاكه للطاقة أثناء القيام بالمهام المختلفة. وتختلف نسبة الطاقة المستهلكة في المخ حسب طبيعة الكائن الحي. ففي الإنسان والذي تعتمد حياته أساسا على التفكير يستهلك المخ حوالي 20-25% من طاقة الجسم الكلية. بينما في الطيور والتي تعتمد حياتها على الحركة يستهلك المخ حوالي 2-8% من طاقة جسمها، ذلك لتوفر أكبر قدر ممكن من الطاقة لعضلات الأجنحة. وتختلف توزيعة استخدام الطاقة داخل المخ، فكان يعتقد قديما أن نصف الطاقة تستخدم في توليد الإشارات العصبية بينما النصف الآخر يستخدم في نقلها خلال التشابكات العصبية. لكن أحدث الأبحاث تؤكد أن 125,000 مليار تشابك عصبي يستهلكون حوالي 85% من الطاقة التي يستهلكها المخ.
يمكن حساب هذا الكم من الطاقة بمعادلة بسيطة وذلك حسب وزنك الكلي واستهلاكك اليومي للطاقة. فلنفترض أنك تزن 80 كيلو جراما وبطول مثالي 180 سم. يستهلك جسمك في يوم متوسط النشاط حوالي 2500 كيلو كالوري، يستهلك المخ حوالي الربع منهم، أي حوالي 700 كيلو كالوري تقريبا، تقريبا ما يوازي وجبة الإفطار التي ذكرناها في البداية. هذا كل ما يستهلكه المخ يوميا للقيام بكامل المهام التي لا يكاد يقترب من تعقيدها أي حاسوب ذكي كان أم غبي. فكم تستهلك أنظمة الذكاء الاصطناعي إذا؟ كيف يحاول العلماء محاكاة آلية عمل المخ فيها ليستطيعوا مجاراتها؟ وهل سينتصر الذكاء الاصطناعي في منافسة الطاقة؟ سنتحدث عن هذا لاحقا إن شاء الله.