الأوقاف من لفائف الخمسينيات إلى لفائف الستينيات السوداء
الأصل الشرعي الذي يحكم أداء نظام الوقف برمته هو أن «شرط الواقف كنص الشارع في لزومه والعمل به». وشرط الواقف الصحيح هو الذي يخدم مقاصد الشريعة ولا يتصادم معها. وبهذا المعنى يكون احترام شرط الواقف أساسًا صلبًا للمشاركة الاجتماعية الواسعة في المجال العام، من جهة، ويؤدي إلى عدم تغول السلطة على المجتمع من جهة أخرى، ويسهم في بناء مجال تعاوني مشترك بينهما ليخدمهما معًا من جهة ثالثة.
ويبدو أن سلطة يوليو أدركت أن هذا الأصل الحاكم لنظام الوقف لا ينسجم مع نزعتها الشمولية التسلطية، ومن ثم صممت على إلغائه، وألغته بالفعل ودون تردد. فكان أن أصدرت القانون رقم 247 لسنة 1953 الذي قضى على الاستقلال الإداري للأوقاف ومؤسساتها، كما قضى أيضًا على استقلالها «الوظيفي» الذي كانت تفرضه شروط الواقفين -كتعبير عن الإرادة الاجتماعية الاختيارية- وكانت تلك الشروط تضمن هذا الاستقلال الوظيفي أيضًا بما لها من حصانة أسبغتها عليها الأحكام الشرعية لفقه الوقف منذ تبلور هذا الفقه على يد الإمام أبي بكر الخصاف قرب منتصف القرن الثالث الهجري.
فالمادة الأولى من القانون 247 لسنة 1953م، وهى المعدلة بالقانون رقم 30 لسنة 1957م أجازت لوزير الأوقاف أن يَصْرِفَ ريع الوقف «كله أو بعضه على الجهة التي يعينها (هو) دون تقيد بشرط الواقف»؛ وبذلك أقامت الدولة نفسها (يمثلها وزير الأوقاف) مقام الإرادات الاجتماعية المعبر عنهافي شروط الواقفين، بعد أن جمعت كل الوقفيات تحت الإدارة المركزية لوزارة الأوقاف، ومنحت لوزير الأوقاف سلطة تقديرية واسعة في عملية تغيير مصارف الأوقاف بحجة أن هناك «جهة بر أَوْلى» من تلك الجهة التي عيّنها الواقف في حجة وقفه.
ولم يكن هذا الإجراء، أو السياسة، أو القانون (وكل هذه المصطلحات صارت في حكم المترادفات في ظل سلطوية الدولة، على حد قول المستشار البشرى) سوى عملية تأميم لموارد الأوقاف الخيرية، وسعيًا لإعادة توظيفها في خدمة السياسة العامة للدولة، في إطار التوجه الاشتراكي للسلطة الحاكمة؛ الذي توالت وقائعه بسرعة منذ أواخر الخمسينيات.
ومن أهم القرارات الإدارية الكثيرة جدًا حول هذا الموضوع، وخاصة خلال الستينيات: القرار الذي أصدرته «لجنة شئون الأوقاف» بتاريخ 12/5/1967م، ونص على تغيير مصارف ريع الأوقاف الخيرية جميعها دفعة واحدة، ويشمل ذلك ما كان متجمدًا من أموالها أيضًا، وجعلها على مصرفين اثنين فقط هما: نشر الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج، والبر على اختلاف ألوانه بأولوية أقارب الواقفين.
وقد جاء هذا القرار لتشديد قبضة السلطة الإدارية الحكومية على موارد الأوقاف والاستعانة بها لفك أزمة الدولة الاقتصادية في ذلك الوقت؛ بغض النظر عن شروط الصرف وأوجه الإنفاق التي نص عليها الواقفون. وكان مما استولت عليه الدولة بموجب هذا القرار ما يعادل 12 جنيهًا ذهبيًا شرط المنشاوي باشا إنفاقها من ريع وقفه لإطعام الكلاب الضالة في القرى التي تقع فيها الأراضي التي وقفها(!).
وكان من أهم النتائج التي ترتبت على هذا القرار أنه قطع الصلة نهائيا بين الأوقاف وبين المؤسسات الخيرية الأهلية، ومنها: مستشفيات ، ومدارس، وملاجئ أيتام… الخ، وهي المؤسسات التي أنشأتها الأوقاف أو أسهمت في إنشائها وتمويلها، ومن ثم حُرمت تلك المؤسسات من التمويل الوطنيالذاتي المستقل الذي كانت تحصل عليه من ريع تلك الأوقاف، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هذا القرار قد وضع إرادة السلطة الحكومية محل الإرادة الاجتماعية المعبر عنها في شروط الواقفين، واختزل الأهداف التي نصوا عليهافي هدفين فقط اتَّسَمَا بالعمومية الشديدة، والغموض الأشد. وبالعمومية والغموض انفتح باب الفساد المؤسسي ليتغلغل كيفما شاء في إدارة الأوقاف منذ ذلك الحين.
والغريب أن من أهم المبررات الرسمية التي سيقت لتبرير قرار لجنة الأوقاف بتغيير مصارف جميع الأوقاف واختزالها في المصرفَيْن المذكورين: «أن الدولة بصدد تعديل القوانين بما يساير المبادئ الاشتراكية وما يحقق أهداف الخطة الموضوعة للتحول الاشتراكي .. وأن وزارة الأوقاف هي وزارة الدعوة؛ ولابد لها أن تنقل دعوتها لتكون تحت تصرف كل مواطن عربي في جميع الأقطار دون استثناء» (!!!) وبمثل هذه التبريرات لم يعد «شرط الواقف كنص الشارع» بل أصبح «شرط الواقف كرغبة السلطة الحاكمة»، وافقت هذه الرغبة الإرادة الأصلية لمؤسسي الأوقاف أم خالفتها.
ومع تغيير مصارف الأوقاف خضعت وزارة الأوقاف نفسها لكثير من التعديلات الهيكلية في بنيتها الإدارية واختصاصاتها الوظيفية؛ حتى تتكيف مع المتغيرات الجديدة، وخاصة بعد أن تم تسليم الأعيان الموقوفة التي كانت تديرها إلى الإصلاح الزراعي والمجالس المحلية في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات.
فبموجب القوانين والقرارات الجمهورية والوزارية التي صدرت خلال الفترة من سنة 1959م إلى سنة 1969م بشأن إعادة تنظيم وزارة الأوقاف، أصبحت هذه الوزارة جزءاً من البيروقراطية الحكومية. وانتزعت السلطة منها ماكان لديها من مدارس ومستشفيات ومؤسسات خيرية اجتماعية أخرى وسلمتها إلى وزارات: التعليم، والصحة، والشئون الاجتماعية، على التوالي. وسلَّمت أيضًا جميع الأعيان الموقوفة على الخــيرات للإصلاح الزراعي والمجالس المحلية.
وما حدث هو أن نظام الوقف الذي بلغ عمره أكثر من أربعة عشر قرنًا، قد انهار على يد ثورة يوليو في ثمانية عشر عامًا فقط، وتمزقت أصوله المادية، وتشوهت فكرته الخيرية تحت الإجراءات التي اتخذتها حكومات الثورة منذ يوليو سنة 1952م حتى نهاية الستينيات.
وإلى تلك الحقبة يرجع أصل الحكاية المأساوية، ومنها منبع الشكاية المرة في قطاع الأوقاف المصرية إلى اليوم. فتلك السنوات الثماني عشرة (من 1952 إلى 1970) هي التي وصفها الشيخ عبد المنعم النمر وزير الأوقاف في سنة 1980م بأن ما حدث فيها كان «مذبحة ومأساة لفت الأوقاف في لفائفها السود». وقال عنها الشيخ صلاح أبو إسماعيل عضو مجلس الشعب في سنة 1980م أيضًا بأن ما حدث للأوقاف هو «تدويخ وبلطجة، وكأن أوقاف المساجد هي أوقاف لعدو وقع تحت أيدينا».
في تلك السنوات الثماني عشرة صدر عشرون قانوناً خاصاً بالوقف بمعدل قانون كل سنة، إضافة إلى عشرات القرارات الوزارية الخاصة بهذا القطاع؛ بمعدل خمسة قرارات أساسية كل سنة. وفي تلك السنوات أيضاً تمت السيطرة على وزارة الأوقاف بشكل غير مسبوق في التاريخ الإسلامي كله؛ حيث تناوب على منصب وزير الأوقاف أحد عشر وزيراً كان منهم ستة وزراء من ضباط ثورة يوليو وهم حسب أسبقية توليهم وزارة الأوقاف:الصاغ صلاح سالم (من 5 أغسطس 1953 إلى 10 أغسطس 1955)، والبكباشي كمال الدين رفعت (من 10 فبراير 1959 إلى أول سبتمبر 1959م)، والبكباشى على صبري (من أول سبتمبر إلى 24 أكتوبر 1959)، والصاغ أحمد عبد الله طعيمة(من 24 أكتوبر 1959 إلى 10 أكتوبر 1961)، والبكباشي حسين الشافعي (من 10 فبراير 1967 إلى سبتمبر 1967).
وكل قانون وكل وزير من هؤلاء وكل قرار وزاري أصدروه قد أصاب نظام الوقف في مقتل بدءاً من حظر إنشاء الوقف الأهلي في 14 سبتمبر 1952م، مروراً بمنح وزير الأوقاف سلطة إلغاء مصارف ريع الوقف الخيري وتحويله للإنفاق على جهات وبرامج تدعم سياسات السلطة، وصولاً إلى تصفية جميع أعيان وممتلكات الأوقاف وتسليمها لهيئة الإصلاح الزراعي والمجالس المحلية، وتعويض وزارة الأوقاف عنها بسندات تُستهلك (حسب نص القانون) على مدى ثلاثين سنة وبفائدة ربوية 3%، وبهذا دخل الربا المحرم شرعاً في صلب نظام الوقف الشرعي تحت سمع وبصر الأزهر ومشايخه والإفتاء ومفتييها.
ولم تنته الستينيات إلا ووزارة الأوقاف «بلا أوقاف»، ومع ذلك بقيت قائمة، بعد أن انتفى مبرر وجودها المتمثل في النظارة على الأوقاف وصرف ريعها حسب شروط الواقفين. وكان السؤال المنطقي الذي لم يسأله أحد آنذاك هو: بما أنه لم يعد لدى وزارة الأوقاف «أي أوقاف» فلماذا تستمر إذن؟
والذي حدث هو أنها استمرت، بل واتسعت اختصاصاتها لتحكم قبضتها شيئًا فشيئًا على قطاع الدعوة والمساجد، بعد أن كانت لا صلة لها البتة لا بالدعوة ولا بالمساجد؛ فيما عدا قيامها بإدارة بعض الأوقاف المشروط صرف ريعها على المساجد «السلطانية» الموروثة من العهود السابقة وهي قليلة العدد مقارنة بجملة مساجد مصر على مر العصور.
من هناك، ومن تلك اللفائف السوداء في الخمسينيات والستينيات، ابتدأت مأساة الأوقاف، واستمرت إلى اليوم، وسوف تستمر لسنوات طويلة قادمة طالما ظل المتحكمون فيها من ذوي الأيادي القوية والنفوس الضعيفة. ذلك هو أصل الحكاية، ومنبع الشكاية. إنها سياسات نظام يوليو 1952 التي مزقت الأساس المادي للوقف وشوهت فكرته الخيرية بخطوات منتظمة ومبرمجة، وحولته لأداة بيد السلطة السياسية، وفصلته عن إرادة المجتمع، ونقلته من الحيز الأهلي الحر المفتوح، إلى الحيز الحكومي السلطوي المغلق.
ويمكنك أن تتابع بنفسك تفاصيل مسلسل المراسيم والقوانين والقرارات الخاصة بالأوقاف التي صدرت ابتداءً من 1952 م حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي . ولكن ما يلفت النظر بحق هو أنه بعد 51 يومًا فقط على وقوع «ثورة» يوليو 1952م، كان مجلس قيادة الثورة قد بادر بإصدار المرسوم بقانون رقم 180 لسنة 1952م الذي قضى بإلغاء الوقف الأهلي وتنظيم قسمته على المستحقين فيه، وعدم جواز الوقف على غير الخيرات، فألغى بذلك نصف إرادة المجتمع في العمل الخيري.
وفي 21 مايو 1953م، و«بعد الاطلاع على الإعلان الدستوري الصادر في 10 فبراير 1953م من القائد العام للقوات المسلحة وقائد ثورة الجيش» ــ حسب نص ديباجة القانون ــ صدر القانون رقم 247 لسنة 1953 الذي جعل من سلطة وزير الأوقاف تعديل مصارفها على جهات البر، دون التقيد بشرط الواقف؛ ومن ثم أطاح بالنصف المتبقي من إرادة المجتمع الحرة، وأطاح معها حرية اختيار مؤسسي الأوقاف الخيرية؛ حتى أولئك الذين ماتوا من أزمنة بعيدة.
ونص هذا القانون لأول مرة في تاريخ الوقف البالغ آنذاك أكثر من ألف وثلاثمائة سنة على معاقبة صاحب المبادرة بعمل خيري أو ذويه بالحبس والغرامة في حال عدم تبليغهم عن الأوقاف التي لديهم (م/5).
وفي 7 أكتوبر 1954م وبالاستناد أيضاً للإعلان الدستوري لقائد ثورة الجيش، صدر القانون رقم 525 لسنة 1954م بتخويل وزارة الأوقاف حق نزع ملكية بعض العقارات الموقوفة للمصلحة العامة، وتحويلها إلى «النفع العام».
وفي 13 يوليو 1957م أصدر رئيس الجمهورية (عبد الناصر) القانون رقم 152 لسنة 1957م بتنظيم استبدال الأراضي الزراعية الموقوفة على جهات البر في مدة أقصاها ثلاث سنوات (كانت تنتهي في سنة 1960م)، وتتسلمها اللجنة العليا للإصلاح الزراعي لتوزعها وفقاً لأحكام قانون مجلس قيادة الثورة رقم 178 لسنة 1952 بشأن الإصلاح الزراعي. على أن تؤدي الهيئة العامة للإصلاح الزراعي لوزارة الأوقاف سندات بقيمة تلك الأراضي تستهلك على مدى ثلاثين عاماً بفائدة سنوية 3% .
ونظراً لاشتداد الأزمة الاقتصادية في البلاد آنذاك، أسرعت السلطة بإصدار القانون رقم 133 لسنة 1960م بتخفيض الفائدة (الربوية) على سندات تعويض الأوقاف إلى واحد ونصف في المائةبدلاً من 3%.
وفي 21 ديسمبر 1959م صدر قرار رئيس الجمهورية بقانون رقم 272 لسنة 1959 بتنظيم وزارة الأوقاف ولائحة إجراءاتها، وتضمن هذا القانون لأول مرة في تاريخ وزارة الأوقاف النص على اختصاصها بتعيين أئمة المساجد التي تشرف عليها الوزارة، على أن يصدر بتعيينهم قرار من رئيس الجمهورية، إلى جانب اختصاصها بإدارة بعض الأوقاف!
ثم صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 55 لسنة 1960 بشأن قسمة الأعيان التي انتهى فيها الوقف، وفي 19 يوليو 1960م. وبعد أن اشتدت الإجراءات السلطوية ضد الأوقاف واقتربت من أن تشمل أوقاف ومؤسسات المواطنين المسيحيين، وتحت ضغوط مختلفة صدر قرار جمهوري بقانون رقم 264 لسنة 1960م بشأن استثناء أراضي الأوقاف الخاصة بجهات البر العامة للأقباط الأرثوذكس من أحكام تلك القوانين والقرارات التي كانت قد مزقت أكثر من نصف مليون فدان من أوقاف المواطنين المسلمين، والتي كانت موقوفة على المدارس والمساجد ودور الأيتام والمستشفيات…إلخ.
وفي 31 يناير 1962 صدر قرار رئيس الجمهورية بقانون رقم 44 لسنة 1962م بشأن تسليم الأعيان التي تديرها وزارة الأوقاف إلى الهيئة العامة للإصلاح الزراعي والمجالس المحلية، وهو ما حدث خلال الستينيات التي «لفت الأوقاف في لفائفها السود» كما قال ذات يوم وزير الأوقاف المرحوم الشيخ عبد المنعم النمر رحمه الله بواسع رحمته.