مسلسل النهاية: خيال علمي أم انتصار للخرافات؟
في عام 2019 فاز فيلم جوكر بالجائزة الكبرى من مهرجان فينيسا ثم ترشح لإحدى عشرة جائزة أوسكار، ولاقى استحسانًا جماهيريًا عالميًا وصل حتى إلى مصر وغيرها من بلدان العالم، يتحدث مخرجه تود فيليبس عنه بانفتاح، يناقش ملهمينه والمؤثرين عليه بكل تلقائية، فالفيلم يستعير جماليات كاملة من أفلام الثمانينيات وخاصة أفلام مارتن سكورسيزي، اختيارات لونية وإحالات لملابس ومشاهد مأخوذة بشكل كامل كتحية لمن أثروا على نتيجة الفيلم النهائية، تجميع تلك القصاصات من أفلام مختلفة تملك نفس المزاج والميل القصصي لم ينقص الفيلم في شيء بل هي إحدى سمات السينما إلما بعد حداثية، الاقتباس والقص واللصق من أعمال السابقين للإتيان بأفكار جديدة تخاطب العصر عن طريق الإحالة لوسائط فنية متعددة، لم يتهم أحد تود فيليبس بالسرقة ولم يدرأ هو التهمة عن نفسه.
في موسم رمضان الحالي لفت مسلسل النهاية من كتابة عمرو سمير عاطف وإخراج ياسر سامي الأنظار كون أحداثه تتخذ من المستقبل زمنًا وهو ما يندر مشاهدته في الدراما والسينما المصرية، منذ الإعلانات والصور الأولية يسهل التقاط التشابهات بينه وبين عشرات أفلام الخيال العلمي الأمريكية، سواء في تصميم الإنتاج، الملابس أو الأفكار المتناولة، لكن لا يكف صناعه عن درء كل شبهة من انعدام الأصالة أو السرقة كما يسمونها عن أنفسهم، رغم أن تلك الإحالات لم تكن لتقلل من قيمة العمل إذا ما تم احتضانها دون تحسس، لكن المشكلة الرئيسية لا تكمن في استعارة أفكار من أعمال أخرى بل في عدم القدرة على صنع عمل متماسك من تلك الأفكار البصرية والفكرية المتناثرة، فإذا كان من الممكن وصف العمل بوصف واحد سيكون عدم التناسق.
تصعد أفكار جيدة يمكن أن تأخذ العمل في اتجاهات مثيرة للاهتمام لكن سرعان ما يخالطها أفكار أخرى تجعله مشوشًا دون اتجاه واضح فهو مجموعة من البذور التي يمكن أن تؤدي إلى نتائج لكن ينتهي به الأمر إلى كونه مجموعة من الإسكتشات غير المكتملة التي تملك في داخلها إمكانية النجاح لكن لا تحققها، ويبدو في النهاية أن استعارة كل تلك الأفكار البصرية والموضوعية مجرد غطاء من الخيال العلمي يخفي ما ورائيات لا علمية والتواءات عشوائية غير مدروسة.
لماذا الخيال العلمي تحديدًا؟
يمكن إدراج مسلسل النهاية تحت عدة أنواع أدبية وسينمائية، بشكل واسع هو عمل من الخيال العلمي الذي يندرج تحته أفلام النهاية وما بعد النهاية apocalyptic-post apocalyptic كما أنه يملك لمحات من السايبر بانك cyberpunk المعني بدراسة عالم يختلط فيه الذكاء الاصطناعي بالحياة البشرية.
يصف أيزاك إسيموف أحد دارسي الخيال العلمي النوع بشكله الواسع بأنه دراسة تبعات التطور التكنولوجي، فاهتمامه الأول بالنتائج التخيلية وطرح أسئلة من نوع «ماذا لو حدثت حرب جديدة أو حكم العالم الذكاء الاصطناعي؟»، يتعامل النهاية مع أفكار مشابهة في جزء منه لكنه عمل دون فرضية أساسية فإن تلك الفكرة تتوه وسط مجموعة من الأفكار التي لا يوليها اهتمامًا كاملًا.
الصراع الطبقي والفانتازيا الشعبية
النهاية ينتمي في ظاهره إلى نوع ما بعد النهاية وهو نوع من الخيال المستقبلي، وتسير أحداثه في انتظار نهاية أخرى أكبر، تقع أحداثه في عالم ما بعد حرب كبرى غيرت وجه الأرض، عالم متهالك تسيطر عليه الرأسمالية متمثلة في شركات كبرى ، تقطر على المواطنين حقوقهم وتحتفظ لنفسها بالسلطة والغذاء والطاقة وتحرمهم التعليم وتمارس عليهم أقسى أنواع العنف، ويأخذ من القدس مكانًا لأحداثه الرئيسية للتشديد على أن العرب استطاعوا بالفعل تحرير القدس وتفتيت العالم الغربي.
لكن على الرغم من أن فرضية التحرير تلك هي فرضية مثالية في اتجاه عالم أكثر عدالة تنقلب فيه موازين القوى لصالح من وقع عليهم الظلم في الماضي، فإنها فرضية هشة فقدت رومانسيتها ولم يتم تناولها بالجدية الكافية التي تجعل منها فانتازيا شعبية مقبولة، فإذا كانت البذرة الأولية لبناء العالم هو تصور لواقع موازٍ يتمكن فيه العرب من تشريد الصهاينة والاستحواذ على القدس فلماذا ساء كل شيء مجددًا أو ما جدوى أصلًا تناول رؤية متصورة تفيد بأن العالم العربي بات أكثر حرية وقوة، هل يعني ذلك أنه من الحتمي وقوعه تحت حكم سلطوي أشبه بالاستعمار كيفما جرت الأحداث وفي كل العوالم الموازية؟ لكن لا يبدو أن صناع العمل يهتمون كثيرًا بإيجابية الفرضية أو بسلبيتها بل الهدف الرئيسي هو خلق عالم بديل لأن هذا ما تفعله أفلام الخيال العلمي المستقبلية الأخرى، فالمهم أن نبدو لا أن نكون .
يدمج المسلسل في أحداثه نوعًا آخر من الخيال العلمي وهو السايبربانك، وهو نوع متفرع يعنى باختلاط حياة البشريين باللابشريين من الآليين وأصحاب الذكاء الاصطناعي الذي صنعه الإنسان لتحسين حياته لكنه ينقلب عليه الأمر في النهاية لأن تلك الآلات غالبًا ما يتطور وعيها ويفقد صانعوها السيطرة عليها.
مثل سابقتها لا تذهب تلك الفكرة إلى أي مكان، فعادة ما يثير وجود الآليين تساؤلات عن طبيعة التجربة البشرية وأصالتها ومعنى أن يكون الإنسان إنسانًا لكن يتم المرور على كل ذلك بخفة وسطحية ويتم ذكره في مقاطع يمكن تشبيهها بوضوح بأفلام مثل بليد رانر blade runner لريدلي سكوت في أفكار مثل طبيعة الذكريات والوعي الجمعي أو فيلم الذكاء الاصطناعي ِA.I لستيفن سبيلبرج، في انقلاب البشر على الآليين ومحاولات إبادتهم بعد صعود مخاوف من خروجهم عن السيطرة، لكن تمثل تلك المشاهد شذرات متفرقة وليست فلسفات يناقشها العمل وهي أيضًا مجرد وسائل تستخدم ليبدو المسلسل مشابهًا لإرث الخيال العلمي المتعارف عليه والذي اعتاد عليه المتفرج العربي في الأفلام الأمريكية الذي يشاهدها بالصدفة على المحطات الفضائية.
في مقطع آخر من مقاطعه المتعددة يتناول النهاية فكرة أخرى من الأفكار الخيالية المعتادة وهي الصراع الطبقي المتطرف وتمثيلاته المستقبلية في الفصل الحرفي بين الأغنياء والفقراء، يظهر ذلك في مكان ملغز يسمى الواحة تبدو أهداف جميع من فيه غامضة لكنه غارق في تكنولوجيا حديثة وحياة عملية جافة يبدو أنها تخدم مصالح عليا وهي الفرضية التي شبهها الكثيرون بفيلم اليزيام Elysium من إنتاج 2013.
كل تلك الفرضيات والأنواع الفيلمية المتداخلة لا تصنع من المسلسل عملًا ثريًا أو معقدًا سرديًا بل تعمل كغطاء مسطح لمفاجأة الجمهور بالتواءات حبكة غير مدروسة أو متأصلة في النسيج القصصي للعمل.
التواء الحبكة لأني أذكى منك
يستخدم النهاية كل الاحالات لأنواع الخيال العلمي المختلفة كواجهة لمناقشة أفكار ميتافيزيقية مثل الجماعات السرية التي يسهل كشف قصديتها المباشرة وربطها بالماسونية، وكذريعة للتمهيد لالتواء الحبكة الذي يستدرج التنهدات المبهورة من جمهوره، ويصبح الهدف الأساسي هو التحول المفاجئ لذاته وليس طرح أفكار للمناقشة والتأمل الجدي بل هو أشبه بخدعة سحرية رخيصة تساعد العمل على التنصل من تفكك سرده وضعف بنائه وتشتته، ووسيلة لصناعه لإقناع مشاهديه أنهم متقدمون عنهم بخطوة وأن مشكلات العمل هي أنك لم تفهمه منذ البداية، فهاك مفاجأة تجعل الانتظار واحتمال الحلقات الرتيبة المفرغة من المعاني والأفكار وحتى من التشويق تستحق العناء.
يمكن اعتبار العمل محاولة لصناعة مسلسل من نوع ما بعد النهاية بمفردات تميل للثقافة الشرقية من إسقاطات على رؤى نهاية العالم الإسلامية أو نظريات المؤامرة العميقة التي يستلزم كشفها مئات السنين، لكن في سبيل ذلك يلقي كل فرضية تم إرساؤها في البداية جانبًا ويسهل عليه فعل ذلك نظرًا لهشاشتها، فتصبح كل الصراعات مجرد مكملات للصورة، صورة عمل الخيال العلمي الذي يضاهي نظائره من الأعمال الأمريكية الشعبية الشهيرة، بل إنه يستخدم اللغة البصرية ذاتها التي توحي بذلك، باستخدام الأزياء وتصفيفات الشعر الطليعية دون تفكير في دلالاتها لكنها بالطبع توحي بعالم مستقبلي لأن هذا ما نراه في التلفاز.
على مدار حلقاته يتناول النهاية صراعات متعددة ومتشعبة، صراع بين البشر والآلة، صراع بين السلطة والمواطن، صراع بين طبقة الأغنياء والفقراء، وصراع بين الآلات نفسها التي تمتلك أنواعًا مختلفة من الوعي الإنساني، كما أنه يطرح عشرات الصراعات الفرعية المتعلقة بالفساد المهني والأخلاقي، الوحدة والحب، والعلم والجهل لكنه يعزو كل مشكلات وصراعات الكون لنظريات مؤامرة رجعية متعلقة بعبادة الشيطان أو نموذج ما لشخص مطلق الشر ومطلق القدرة، كل المشكلات السياسية والاجتماعية والدينية سببها مجموعة من البشر الخانعين تحت سلطة قوة شيطانية عظمى، تصغر أمامها كل التساؤلات والتأملات عن ماهية نهاية الكون وطبيعة الحياة البشرية والصراع على موارد الأرض، فالكل دمى صغيرة تتلاعب بها تلك المجتمعات السفلية لمصالحها الكونية السلطوية، وإمعانًا في إثبات تفوق الصناع على جمهورهم وقدرتهم على المفاجأة وكسر التوقعات يعتمد المسلسل نهاية مفتوحة، لكنها على عكس ما يجب أن يثيره ذلك النوع من النهايات لا تثير أي تساؤلات عن أي من الأحداث الفائتة أو المقبلة ولا حتى تثير الحماس لأجزاء قادمة من المسلسل.