سيناريوهات نهاية العالم في أدبيات الخيال العلمي
قصص (نهاية العالم) ليست وليدة اليوم، بل موجودة منذ فجر التاريخ.
أثناء المرحلة الإعدادية، قرأت كتابًا رائعًا في هذا الصدد، طبع بصمته في عقلي منذ ذاك الحين، عنوانه (حضارات مفقودة)، وطرح فيه المؤلف الموسوعي محمد العزب موسى نظرية تشير إلى مرور الأرض بعدة كوارث شاملة، تركت أثرًا واضحًا في مختلف الحضارات القديمة، ويشير المؤلف إلى أن هناك اتجاهين من التفسيرات لهذه العوامل المشتركة:
-أن ما سبق يمثل كوارث محلية، حاقت بتلك الحضارات دون غيرها، ونظرًا للأجواء البدائية المنغلقة، من الطبيعي أن يظن كل منهم، أن ما أصابه، حاق بالعالم أجمع.
– الاحتمال الثاني؛ أن الكوارث كانت شاملة بالفعل، وضربت أنحاء الكوكب بأكملها، بدليل كل هذه الذكريات المشتركة بين الحضارات المختلفة، عن طوفان تارة وعن نيزك تارة أخرى، بل ويذهب البعض إلى أن الأرض شهدت أكثر من نهاية، وكذلك أكثر من ميلاد، ففي كل حضارة منهم تجد روايات عمن يخلف وراءه قلة من الناجين، يعيدون بناء الحياة مرة أخرى.
وبالطبع حازت (نهاية العالم) مساحة اهتمام لائقة، لدى أهل الديانات الثلاثة، بالذات المسيحية، يكفي أن نذكر مثلًا (رؤيا يوحنا) التي كانت من الإحكام بحيث تم ضمها للعهد الجديد، ومنها اشتقوا مصطلح «أكاليبس» ويعنى «رفع الغطاء».
ونلخص هنا أبرز سيناريوهاته في أدبيات الخيال العلمي.
الحرب النووية
يقال أن أكثر من تأثروا بثيمة النهاية النووية، هم القوم الوحيدون الذي لفحتهم نارها بالفعل.. اليابانيون، وانعكس ذلك بشكل غير مباشر في عشرات من قصص المانجا المصورة، والرسوم المتحركة، التي يشتهرون بها، يمكننا أن نلمس ذلك في أعمال المخرج الأيقونة (أوسامو تيزوكا) وخليفته (هاياو ميازاكي)، وغيرهم.
وبالعودة إلى الغرب مرة أخرى، ألقى (راد برادبوري) نرده الإبداعي باكرًا عام 1950م، من خلال سلسلة قصص قصيرة أسماها «أسفار المريخ The Martian Chronicles»، تُروى الأحداث على خلفية هلاك الأرض نوويًا، فلاذ الناجون بهجرة جماعية إلى (المريخ)، مما أدى إلى اشتعال الحرب بيننا وبين السكان الأصليين للكوكب الأحمر.
في المقابل، توجد روايات مثل (ظل على المدفأة) عام 1950م، و(وا أسفاه على بابل) عام 1959م، تتحدث كلاهما عن محاولات ذاتية من قبل أفراد على الأرض، للنجاة عقب ضربة نووية.
وعلى النقيض تمامًا، قررت شخصيات (على شاطئ البحر) الاستسلام لقدرهم، فتصف الرواية انتظارهم للغبار النووي القادم من نصف الأرض الآخر، إثر نشوب حرب عالمية ثالثة، حرب ذرية شاملة هذه المرة.
الرواية من تأليف (نيفيل شوت)، وصدرت عام 1957م عن دار نشر (هاينمان).
في تلك الفترة، تعافى العالم بالكاد من ذكريات الحرب العالمية الثانية، وأخص منه بالذكر، فردًا مقاتلًا خدم ضمن جيش الحلفاء، وشهد ضمن صفوفه تدمير كنيسة أثرية خلال موقعة (ماونتني كاسيني)، هذا المجند هو (والتر ميلر الابن)، الذي تحول فيما بعد إلى كاتب شهير، وسطر عملًا أدبيًا من وحي هذه الذكرى، تحت اسم (ترنيمة ليبويتز).
تقدم الرواية صورة مبتكرة لعالم ما بعد الحرب النووية، تتخيل فيها شعوبًا صارت تمقت «العلم» و«المعرفة»، باعتبارهما من أثمرا الأسلحة التي دمرت العالم.
مجرد إجادتك للقراءة والكتابة حينذاك، كفيلة بجعلك طريدًا من الجميع، غير أن رجلًا يدعى (ليبويتز) اختار السير عكس التيار، فلاذ بكنيسة منسية في الصحراء، مصطحبًا معه ما تبقى من تراث معرفي، تدريجيًا، توسعت دعوته لتجتذب أنصارًا وأتباعًا.
أي أنها نفس التيمة التي استخدمها بعده (راد برادبوري) بأعوام قليلة، عن عالم شمولي يعادي «المعرفة»، مع اختلاف الدوافع والخلفية الدرامية.
نهجر سماء الخيال، ونعود إلى القواعد العلمية على أرض الواقع:
– س: ماذا يحدث علميًا إذا اندلعت الحرب النووية؟
استطلعنا فيما سبق رأى أدباء الخيال العلمي، والذين يضطرون للتنازل أحيانا عن دقة التفاصيل العلمية، لأسباب عدة منها؛ عدم تخصصهم، أو ضروريات الحبكة الأدبية، أو – ببساطة – أنهم غير مطالبين بذلك.
أما الآن، نصغي إلى العلماء، الذين أفادوا بما يلي:
أولًا: سترفع السحابة الكئيبة التي تأخذ شكل عش الغراب، وتسحق الموجة الانفجارية والإشعاعية نحو ألف مليون شخص في لحظة.
الألف مليون التالين سيكونون أسوأ حظًا، إذ لن ينعموا بالميتة السريعة لأسلافهم، بل ستنسحب منهم الحياة ببطء، بينما يعانون أقسى الآلام والحروق الإشعاعية التي يمكن تخيلها.
سيتشبع الهواء بكل الغازات السامة التي تعرفها؛ من ثاني أكسد الكربون، والسيانيد، وغيرهم. بعد انتهاء لفحة الحريق التي ستحول الأرض إلى فرن كبير، ستنحسر الحرارة ثانية إلى متوسط 55 درجة، مما سيساهم مع العوامل السابقة في الإجهاز على كافة أشكال الحياة، يعقب الموجة الحرارية صقيع قارس، فتتجمد أسطح البحار والمحيطات، ويحل ما يعرف بـ «الشتاء النووي».
التفاصيل السابقة هي نتاج مجهود ما يزيد عن مائة متخصص في الفيزياء والمناخ والأحياء، اجتمعوا في مؤتمر واحد، لبحث: (التغييرات التي ستطرأ على العالم فيما بعد الحرب النووية).
يشير التقرير – كذلك – أن النصف الجنوبي من الأرض سيكون أقل تأثرًا بكثير ، نظرًا لأن الدول النووية في الأغلب تقع في الشمال، لكن الرياح والتيارات الهوائية ستتكفل بنشر بصمة الدمار إليها ولو بعد حين.
الأوبئة
وسط الضجة الدائمة في ميناء الصين، وقع حادث صغير غير ملحوظ. بضعة فئران تسللت إلى السفينة المتجهة إلى مدينة (ميسينا) الإيطالية. هذا الحدث الصغير أدى فيما بعد إلى هلاك ربع سكان أوربا، ونشر الرعب في أشنع حقبة شهدتها القارة العجوز، مما اصطلحوا على تسميته بـ (وباء الموت الأسود). السر أن هذه الفئران حملت وباء الطاعون الذي بدأ في هونج كونج والصين، ثم أتى على أوربا بسبب هذه الحادثة الصغيرة.
طرد الأهالي بحارتهم عندما شكّوا أنهم سبب الوباء، واستحم بعضهم بالبول عندما قيل أنه يحميهم من المرض، كما أغلقت أغلب المصالح الحكومية، لأن العاملين فيها في الأغلب قد ماتوا، حتى لعبة حلقة الورد التي يلعبها الصبية حتى اليوم، تعود جذورها لتلك الفترة عندما كانت الأزهار تستخدم كقناع لإبعاد الروائح الكريهة للموت من حولهم.
ولا ننسى الكوليرا التي انتشرت عام 1842م لتقطع أوربا بالكامل حتى وصلت إلى بريطانيا، وخلفت في طريقها عشرات لقتلى، ولم تشأ الأخيرة إلا أن تترك بصمتها على مصر أيضًا، من يقرأ الأعمال الأدبية للقرن الماضى حتمًا سيجد ذكرى تلك الرائحة الكريهة تفوح بين صفحاتها، كـ؛ طه حسين في (الأيام) وخيري شلبي (الوتد).
عقب الحرب العالمية الأولى، ظن الجميع أنهم لن يمروا بهلاك أكثر مما ذاقوه فيها، لكن الزمن أثبت لهم أن هذا غير صحيح، فور ظهور ما أطلق عليه (الأنفلونزا الأسبانية)، وساعد في نشرها الجنود العائدون من الحرب ليحصد المرض ما بين 20 إلى 40 مليون نسمة حول العالم.
جميعهم احتضر برفقة آلام المخاط المدمم، الذي ملأ رئاتهم وشعبهم الهوائية.
من المعروف أيضًا أن علاقة الأوبئة بالجيوش معقدة، فلم تقتصر نظرة الطرف الثاني للأولى على أنها «عدو طبيعي» إضافي، فأحيانًا تتحول إلى سلاح.
ولهذه المسألة جذور موغلة في القدم، ربما منذ أيام التتار أنفسهم، عندما كانوا يلقون جثث موتى الطاعون، داخل أسوار المدن المحاصرة، كي تنتشر بينهم الأوبئة، ويسرعون بالاستسلام، مرورًا ببدايات تأسيس الولايات المتحدة، عندما أهدى الرجل الأبيض للهنود الحمر بطاطين ملوثة بفيروس الجدري، علاوة على اتهام الصين لليابان باستخدام الغازات السامة 2900 مرة، خلال فترة الاحتلال، مما نتج عنه مصرع ثمانين ألف مواطن صيني. تقدم الطب بخطوات واسعة إلى الأمام، وإن ظلت الأوبئة تتحدى تفوق الإنسان من حين لآخر، ومن ثم استمرت كثيمة متجددة تنهل منها أقلام الخيال العلمي.
القصة دائمًا عن وباء مفاجئ، أو فيروس طوره البشر قبل أن يخرج عن السيطرة، أو ربما يبقى سبب الوباء متواريًا طوال القصة لتتركز بالأساس على رحلة الأبطال من أجل النجاة.
من أوائل مقتحمي هذا الدرب، الفرنسي جان باتبست الذي تأثر بملحمة الشعر النثري «الفردوس المفقود» لجون ميلتون، فبينما تحدث الثاني فيها عن أبوي البشر، آدم وحواء، ركز الأول على حياة «الرجل الأخير»، وهو الاسم الذي منحه لقصيدته الطويلة المنشورة عام 1805.
وهو نفس العنوان والموضوع الذي اختارته الإنجليزية ماري شيلي التي يعرفها الأغلبية بروايتها الشهيرة «فرنكشتاين»، غير أننا نتحدث عن نثر هذه المرة وليس شعرًا، نشرت ماري روايتها عام 1926م، وتعتبر من أوائل الأعمال التي تناولت (نهاية العالم «وبائيًا»)، من خلال الطاعون.
استمر الأمر على هذا النحو، مع اختلاف سبب الوباء وطريقة انتشاره والمكان والزمان وعدد الناجين. فبالنسبة للأخيرة تحديدًا، تارة تغدو الشخصية الرئيسية عبارة عن ناجٍ واحدٍ: «الأرض تصمد» لجون ستيورات، عام 1949، «العالم الفارغ» لصامويل يود عام 1977، «أنا أسطورة» ل ريتشارد ماثيسون، ولعل أغلبنا يذكر الأخيرة أكثر، بحكم تحولها إلى فيلم شهير بطولة ول سميث.
تارة ثانية يكون الناجون جماعة يتوزع التركيز بينهم على غرار: «الصمود» عام 1978، لأسطورة الرعب ستيفن كينج، التي استوحاها بالتحديد من حلقة لبرنامج 60 دقيقة، على قناة CBS، موضوعها؛ تجارب بيولوجية على الفئران.
حتى تكنيك انتشار الوباء، تطور داخل القصص بشكل متزامن مع تطور العلم، ففي البداية كنا نقرأ عن العدوى العادية، أو بواسطة وسيلة تكررت في أدبيات القرنين السابقين، هي «الغيمة السامة»، بدأت هذه التقنية مع أولى أعوام القرن العشرين، ورواية «السحابة الأرجوانية» لـ ماثيو فيبس شيل، ثم أعاد آرثر كونان دويل استخدامها، نعم، هو نفسه مؤلف شخصية «شارلوك هولمز» البوليسية، اقتحم مجال الخيال العلمي، بنفس فكرة السحابة الوبائية في رواية «النطاق المسموم».
عندما نذكر أسماء الثميات العامة، مرفقة بأمثلة، قد يظن القارئ أننا بصدد أعمال مكررة مستهلكة، لكن أغلبها أثبت – بالفعل – قدرته على انتزاع الدهشة، فالباب لم يغلق على إمكانية تناول فكرة معينة بعدد لا نهائي من المعالجات النوعية الجديدة، نذكر هنا محاولة كاتب نوبل جوزيه ساراماجو الشهيرة، عن وباء غرائبي مختلف تمامًا، وباء سبب العمى الجماعي للكل.
كذلك، خرج علينا المؤلف (جيف كارلسون) برواية عن مرض استهدف ذوات الدم الحار فقط، فيما عدا المناطق غاية الارتفاع فوق سطح البحر، ولكم أن تتصوروا الصورة البشعة لسطح الأرض وقد سادتها الزواحف والحشرات.
خلال سلسلة القصص المصورة (واي: الرجل الأخير)، تعاون المؤلفان (بريان ك فون) و(بيا جيرا) في تقديم حبكة مختلفة، فنجد ها هنا تهديدًا بيولوجيًا قضى على كائن حي يحمل الكروموسوم (y)، فخلا العالم – تقريبًا – من الذكور سواء بشر أو حتى ثدييات.
نستمر مع عالم القصص المصورة، فلا نستطيع تخطي سلسلة (الموتى الأحياء)، للكاتبين (روبرت كيركمان) و(توني مور)، حازت السلسلة ظهورها الأول عام 2003م، وحصدت نجاحًا باهرًا أهلها للحصول على جائزة (إزنر) كأفضل سلسلة كوميكس، والتحول إلى مسلسل شهير لا تزال مواسمه مستمرة إلى الآن.
أخطار فلكية
وبطبيعة الحال، نال الثيمة تطور بمرور الزمن، على غرار روايات مثل (عندما تصطدم العوالم) عام 1933م، للكاتبين (فيليب وايلي) و(إدوين بالمر)، هذه المرة لا يقتصر الأمر على نيزك، بل يوجد كوكبان كاملان اقتحمها المجموعة الشمسية، أحدهما سيحول الأرض إلى شظايا، والآخر سيحمل معه بديل للنجاة.
ويتمحور – غالبًا – حول نيزك يضرب الأرض، وبعض أقدم النماذج في هذا الاتجاه، تعود إلى القرن التاسع عشر، على سبيل المثال؛ قصة «إيروس وكارميون»، بقلم الرائد إدجار آلان بو، «أوميجا: آخر أيام العالم» للكاتب وعالم الفلك كاميل فلاماريون، وتواصلت الاجتهادات في القرن العشرين بـ «مطرقة لوسيفر» عام 1977، للمؤلفَيْن جيري بورنيل و لاري نيفن.
تواصل قطار التجديد إلى محطات أبعد، حيث ذهب المسلسل الإنجليزي (الفضاء) إلى أبعاد مبتكرة عام 1999، فتخيل انفجارًا للنفايات النووية على القمر، مما يخرجه من مداره، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تأثيرات كارثية على الأرض.
التغيرات المناخية
طرح وارد مور تصورًا آخر عام 1947، فتفترض روايته «أخضر مما تعتقد»، هلاك النباتات لسبب غامض، مما يؤدى لتدمير مصدر الغذاء للبشر والحيوانات على السواء.
عقبتها رؤية مختلفة يقدمها لنا الأمريكي (آلان جورج إيكرت) عام 1976م عبر روايته (نظرية HAB)، ويصهر فيها فكرة التأثيرات المناخية مع ذوبان الجليد مع تغيرات في أقطاب الأرض.
سار على نفس النهج المناخي سلسلة (الاحتباس الحراري) بقلم (برايان ألديس)، موضوعها كما هو واضح من اسمها، وتتكون من خمس روايات مسلسلة قصيرة نشرت عام 1961، تم جمعها ونشرها لاحقًا بين دفتي غلاف واحد.
في العام التالي مباشرة، كتب الكاتب الإنجليزي (جي بالارد) محذرًا من (غرق العالم)، في رواية حملت نفس الاسم عام 1962م، وكأنما شعر أن هذا ليس كافيًا، فأكمل الثنائية بكتابة رواية أخرى مناقضة تحمل عنوان (حرق العالم) 1964م، ثم أتبعهما بعد عامين بختام الثلاثية عن (الجفاف).
مع استمرار التهديدات البيئية، ظلت الثيمة متجددة حتى وقتنا الحالي، ومن أبرز الأمثلة القريبة عام2009م، رواية (Girl Windup The) الحاصلة على جائزتي (السديم) و (هوجو)، وغيرهما.