نهاية الأيديولجيا أم نهاية السياسة؟
يفترض النقاش الدائر حول مفهوم «نهاية الأيديولوجيا» أنه عند مرحلة ما من النمو الصناعي في بلد ما، يسير النظام الاقتصادي – الاجتماعي وفقًا لهذا التطور بمنأى عن أي أيديولوجيات سياسية، ما وقف عليه إدوارد شيلز على أنه «نهاية الأيديولوجيا». وقد دار النقاش حول هذا المفهوم في مناسبتين؛ الأولى عام 1950 حين عُرِض النقاش حول المسألة على أنه أطروحة «نهاية الأيديولوجيا»، والثانية حيث عُرضت أطروحة «نهاية التاريخ» والتي ظهرت للمرة الأولى عام 1989، ولا زالت مثيرة لجدلٍ حادّ.
ولعل أبرز أنصار «نهاية الأيديولوجيا» هم: سيمور مارتن ليبست (1922-) صاحب كتاب (1959) «السياسي Political Man»، ودانيال بيل صاحب كتاب (1960) «نهاية الأيديولوجيا: عن استنزاف الأفكار السياسية في الخمسينات The End of Ideology: On the Exhaustion of Political Ideas in the Fifties»، فليبست عرض للمرة الأولى أطروحة «نهاية الأيديولوجيا» والتي تبناها لاحقًا: دانيال بيل، إدوارد شيلز وريمون آرون.
بالنسبة لليبست، فإن مجتمعات ما بعد الحرب في الغرب قضت على الحاجة الوظيفية للأيديولوجيات؛ لأنها حلّت المشاكل السياسية الأساسية للثورة الصناعية التي أفضت لهذه الأيديولوجيات أساسًا. وقد أشار دانيال بيل إلى أن «هناك إجماع شديد بين المثقفين في الغرب حول عدد من القضايا السياسية وهي: القبول بدولة الرفاة؛ الرغبة في السلطة اللامركزية، نظام اقتصادي مختلط وتعددية سياسية، وبهذا الشكل فإن عصر الأيديولوجيات قد انتهى». حتى أن رالف دارندوف وجد أن المجتمعات التي كانت رأسمالية في ما مضى قد أصبحت «مجتمعات ما بعد رأسمالية» حاليًا.
وفي هذه المجتمعات لا تتجاوز الصراعات حدود عالمها القويم، فلا تؤثر لا على السياسة ولا على مجالات الحياة الاجتماعية الأُخر، وقد أكد دانيال بيل في كتابه نهاية الأيديولوجيا على أنهم عرضة لمثل هذا التطور بغض النظر عن اختلافاتهم الأيديولوجية. في كتابه «السياسي: القواعد الاجتماعية للسياسة»، يلاحظ ليبست أن «الديمقراطية ليست فقط الوسيلة التي تستطيع مجموعات مختلفة من خلالها بلوغ غايتهم أو الوصول لمجتمع سليم، بل هي أيضًا الممارسة الفعلية لفكرة المجتمع السليم». فالمثقفون الآن يدركون أنهم لم يعودوا بحاجة لأيديولوجيات أو يوتوبيهات كمحفز ودافع للعمل السياسي.
في كتابه «مراحل النمو الاقتصادي: بيان غير شيوعي» (1960)، بنى دابليو دابليو روستو نموذجًا قياسيًا للنمو الاقتصادي ذا بعد واحد وينطبق على جميع الدول بغض النظر عن الأيديولوجيات السياسية. في كتابه «دولة صناعية جديدة»، يحدد جون كينيث جالبرايث عدة خصائص لمجتمعات صناعية متقدمة تتوافق مع أطروحة «نهاية الأيديولوجيا».
وهذه الخصائص كالآتي: المركزية، البيروقراطية، الفنية واحتراف التكنولوجيا. فالهيكل التكنولوجي الاقتصادي لكل بلد يشكّله مستوى التصنيع فيها، وقد اندمجت النخبة البيروقراطية والتكنوقراطية في المجتمعات الصناعية المتقدمة.
في بعض الدول المتقدمة، أصبحت السياسة مملة، فالسياسية كما يبدو تحولت من صراعات حية حول الأيديولوجيا إلى مناقشات تقنية عقيمة حول سبل تحقيق أهداف لم يطالب بها أحد. وهذه العملية غالبًا ما يشار إليها على أنها «نهاية الأيديولوجيا» أو نضوب تسيُّس السياسة.
نضوب التسيُّس هذا ينطوي على تحويل الأيديولوجيات السياسية إلى مجموعة من التقنيات الإدارية المتميزة لا أكثر ولا أقل، على أساس إجماع واسع النطاق على ما هو نوع الهدف المراد تحقيقه، حتى لو تم اجتثاث الخلافات الأيديولوجية في مجتمع سياسي نضب تسيسه. ظهرت فكرة نضوب التسيس على يد هربرت تينجستن بين عامي 1946- 1960، وسواء ما إذا كان نضوب التسيس سيسود بلدًا ما أم لا يعتمد ذلك على أفكار واضحة.
في غضون بضع سنوات ظهر اليسار الجديد، بدت النظرية مشكوكًا فيها، لم يكن هناك إحياء للأيديولوجيا في حد ذاتها، بل مطالب من شباب الدول الغربية الثري الغني بوضع نهاية للمادية، وهذا هو جوهر أطروحة «نهاية الأيديولوجيا».
الآن، النسخة الحديثة من أطروحة نهاية الأيديولوجيا لا تجادل بأن الأيديولوجيا وصلت لنهايتها، بل تدّعي أن «أيديولوجيا واحدة، حق، قويمة» فازت أخيرًا، تمامًا وبشكل دائم، في صراع الأفكار وستهيمن على الفكر الإنساني وللأبد. هذه الأيديولوجيا تُعرف بأطروحة «نهاية التاريخ»، وقد أرسى لها فرانسيس فوكوياما في كتابه (1992): «نهاية التاريخ والإنسان الأخير The End of History and the Last Man».