انتهاء عصر الجيوش
مع تجربة انقلاب تركيا الفاشل ليلة السادس عشر من يوليو 2016 يتكون لدينا دليل جديد على أن زمن الجيوش قد انتهى، و أنها صارت عبئًا على الشعوب بدل أن تكون حاميةً لها، وأن بوابة دخول العصر تتمثل في تعزيز المجتمع المدني وتبني أدوات القوة الناعمة وخلق منظومة من العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية التي تغير مفهوم السلطة وتحررها من هيمنة فئة قليلة لتتحول إلى سلطة لا مركزية منتشرة يصعب التفرد بها.
الجيوش تنتمي إلى عصر الديناصورات حيث الغلبة لضخامة الجسم وقوة العضلة، أما الإنسان فقد كرمه الله بالعقل الذي استطاع به تذليل الجبال وإخضاع الطبيعة لسلطانه، الإنسان كائن ضعيف تستطيع وحوش الغابة افتراسه بسهولة، لكنه بالتفكير استطاع اصطياد الوحوش وإحكام وثاقها، فالعقل هو ميدان الرهان الناجح للإنسان.
في المسيرة التطورية للإنسان بدأ تاريخه ضعيفًا عاريًا لا يملك حولًا ولا قوةً في مواجهة أخطار الغابة، لكن الله تعالى جعل له السمع والبصر والفؤاد فبدأ رحلة التفكير في امتلاك أدوات يدفع بها عن نفسه الأضرار و الأخطار، فكان الحجر والرمح والعصا، وعبر مراحل تاريخه المتتابعة كانت تتبدى له تحديات مستجدة لتستفز أفكاره لتطوير أدواته التي يعزز بها سلطانه على الطبيعة، فكان تقدم التاريخ نتاجًا لحركة العقل، وكلما تقدم الإنسان في سيره كلما تجلت قوة العقل وسلطانه.
نشأت الجيوش استجابةً لحاجة تاريخية تمثلت في ظروف الصراع وتنافس الأمم والشعوب على الهيمنة السياسية والاقتصادية وحاجة كل شعب لتكوين قوة مضادة يحمي بها نفسه من اعتداءات الآخرين وأطماعهم، وقد كان تكوين الجيوش وتطورها تجليًا لهيمنة علاقات القوة والصدام بين البشر وغياب ثقافة الحوار والاجتماع على كلمة سواء، إذ إن فلسفة الجيوش تقوم على تحطيم إرادة الخصم وإخضاعه بقوة الإكراه، هذه الفلسفة عبر عنها القرآن على لسان سليمان وهو يراسل ملكة سبأ: «فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلةً وهم صاغرون»، بينما جاء صوت العقل على لسان امرأة: «رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين»، فكلمة سليمان تنطوي على روح عسكرية تؤمن بإخضاع الآخر بينما كلمة بلقيس تنبئ عن رغبة في التعايش والشراكة.
سيادة لغة الإخضاع والقهر في العلاقات الإنسانية فيها ظلم لروح الإنسان وعقله وممكناته، فالإنسان لا يعطي أفضل ما عنده إلا بالحب والرضا، أما حين تتسلط عليه قوة غاشمة وتكرهه على فعل ما لا يؤمن به فلا يعطي إلا قليلًا مضطرًا بنفس مشبعة بالقهر والخوف، وتتعود نفسه التزلف والنفاق ويبيت متحينًا فرصة الانقضاض على الحاكم والغدر به، هذا الواقع مشحون بالطاقة السلبية و يتبادل فيه الناس نوايا الغدر والخداع والكراهية بدل أن يتبادلوا الرغبة الصادقة في التعايش والحياة والنماء.
اختار الإنسان مسار القوة وأنشأ علاقاته تاريخيًا على سفك الدماء والإفساد في الأرض فلم يذكر التاريخ إلا سنوات قليلة من الهدوء وسط بحور من الدماء والدموع، وفي واقع كهذا ظل الإنسان يغذي ترسانته العسكرية ويقدم القرابين لها كونها إلهه الذي يبتغي عنده النصرة والعزة، لكن طريق القوة مسدود ومآله الفناء الشامل، وهو ما تبدى في الحربين العالميتين اللتين أزهقتا أرواح عشرات الملايين ونشرتا الخراب والدمار في أنحاء العالم، إذ وصل التنافس إلى ذروته مع اختراع قنابل التدمير الشامل، وأدرك الإنسان أن خيار الحرب مجنون وباهظ التكلفة لجميع الأطراف، فأعلنت اليابان استسلامها دون شروط تحت وطأة القنبلة النووية الأمريكية، لكن هذا الاستسلام لم يمنعها من عودة الظهور كدولة مؤثرة على المسرح العالمي، هذه المرة ليس بالبوارج والطائرات إنما بالمصانع ومختبرات العلم، وهو ما حدث مع ألمانيا أيضًا التي هزمت في الحرب العالمية الثانية لكنها استطاعت النهوض كقوة اقتصادية وازنة.
ثورة وسائل التواصل وتداخل المصالح وتشابك العلاقات بين الشعوب لعب دورًا في تهميش خيار الحرب وتغيير مفهوم القوة، إذ ترابطت المصالح وغدت الدول محكومةً بمنظومة كبيرة من العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية الممتدة في كافة أنحاء العالم والتي يلزم معها الحفاظ على الاستقرار، وبذلك اضطر الإنسان للبحث عن وسائل بديلة عن وسيلة الحرب، ليس من منطلقات أخلاقية إنما بدافع حماية المصالح وتشجيع الاستثمارات.
أدركت الدول الكبرى هذا الواقع الجديد فلم تعد تتحاور بالسلاح، ووجهت ميزانياتها الضخمة إلى المشاريع الاقتصادية والثقافية والمعرفية، وتحدث وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت غيتس عن الحاجة إلى تعزيز القوة الناعمة الأمريكية عن طريق “زيادة الإنفاق على الأدوات المدنية، وتقديم المساعدة الأجنبية، وإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية.
في بلادنا تدرك القوى الحاكمة أن المدخل الحقيقي للقوة لم يعد امتلاك السلاح وتضخيم الجيوش بل هو الديمقراطية والنهضة الاقتصادية، لكنها تستثمر في خوف الناس وجهلهم لأن الجيوش غدت مؤسسات ربحيةً يحظى جنرالاتها بامتيازات اقتصادية وسياسية لا يحظى بها غيرهم، فمن الطبيعي ألا يفرطوا بهذه الامتيازات وأن يزيفوا وعي الجماهير حتى يحافظوا على مبرر وجودهم وإدامة سيطرتهم.
السلاح لم يعد أكثر من سحر كبير يخيل للناس من سحرهم أنه يسعى، فالسعودية مثلًا هي ثاني دولة مستوردة للسلاح في العالم دون أن تجد أثرًا لذلك في استقلال سياسي أو تنمية اقتصادية، وباكستان تمتلك قنبلةً نوويةً لكنها لا تجرؤ على منع تحليق الطائرات الأمريكية في سمائها، وإيران قايضت الغرب ببرنامجها النووي من أجل فك حصارها الاقتصادي، في المقابل لجأت روسيا في الرد على إسقاط تركيا طائرتها الحربية إلى عقوبات اقتصادية وسياسية رغم أنها تمتلك ترسانةً عسكريةً مدمرةً!
هذه الشواهد تؤكد أننا في عالم جديد يتراجع فيه تأثير القوة والسلاح، ويتعزز خيار التنافس المدني حيث يربح الإنسان بعقله لا بعضلاته.