نهاية كرة القدم: فن الفوز بهدف وحيد دون مقابل
قبل سنوات، قامت شركة مشروبات الطاقة «ريدبول» بإحداث ثورة في عالم كرة القدم الألمانية باقتحامهم المجال الكروي عن طريق فريق لايبزيج، الفريق الذي كان حديث الإنشاء تمكن من الوصول إلى الدرجة الأعلى في الدوري المحلي في ظرف 7 سنوات فقط. رقم يبدو إعجازيًا ما دام لم يتواجد به اسم من الأسماء التي عرفناها طوال الزمان، هم ليسوا «بارما» بأية حال.
لم يدخل هذا الفريق دائرة الجدال بين الجماليات والتجرد، أو ما يصفه البرازيليون بـ«كرة القدم الفنية وكرة القدم الموجهة نحو النتائج فقط». فلقد أمتع النوعين المختلفين من محبي اللعبة، ظهروا كفريق حديث العهد ينافس بقوة على لقب الدوري بعناصر ليست بالخارقة وحتى أسابيع طويلة من عمر البطولة، وكذلك قدموا كل الطرق التكتيكية تقريبًا.
في لحظة ما، كنت لتشعر وأنهم قد أكملوا دائرة التكتيك المفرغة بكامل منعطفاتها في عمر قصير للغاية. بدأوا رحلتهم بأداء هجومي قوي مدعم بالضغط المتقدم وبناء اللعب من خط الدفاع والسعي الدائم وراء تسجيل الأهداف، في شكل يوضح مدى التطور التكتيكي الذي يمتلكونه ومواكبتهم للعصر الكروي الذي نحياه.
وسرعان ما عادوا إلى الاعتماد على الكرات الطولية والهجمات المرتدة وزادوا عشقًا في الكرات الثانية، كأي فريق تعود أصوله إلى خمسينيات القرن الماضي. بعدما لاقوا ضغوطات مترتبة على قراءة أسلوبهم من المنافسين.
الرؤية الأعم لتلك التجربة التكتيكية الخالصة تُشير في أحد أبعادها إلى أن كرة القدم يبدو وأنها تدور في فلك واحد مغلق كل أطرافه بلا فرص لإيجاد جديد؛ ما يعني أن تلك النقطة التي تزورها الآن وتعتقد كونها جديدة، ستمر السنون لتدرك أنها بالية.
في حب الهدف النظيف
«كارلو أنشيلوتي» عقب فوزه مع ريال مدريد بـ ـ9 أهداف مقابل هدف ضد غرناطة
في الشهر الأخير من عام 2018، احتفلت صحيفة «ماركا» الإسبانية بنجاح فريق «دييجو سيميوني»، أتلتيكو مدريد، في الوصول إلى المباراة رقم 50 التي تنتهي بهدفٍ دون رد. أكثر من 4500 دقيقة نجح فيها فريق الأرجنتيني في تحقيق ما لم يستطيع الخصم تحقيقه، وهو قنص هدف واحد والحفاظ عليه، حالة اتفق الجميع على تسميتها «فن الفوز بهدف نظيف».
تنتهي كرة القدم في النهاية إلى شقين: شق دفاعي وآخر هجومي، بينهما تميل الجماهير شطرًا هنا وشطرًا هناك، جزء مثالي وجزء واقعي. الملحوظ في نتيجة 1-0 المحببة لأتلتيكو مدريد أنها ترضي الجانبين تقريبًا، لأنهم بالرغم من سمعتهم المعروفة بالدفاعية يقومون بأداء هجومي ليس بسيئ وإلا ما أتى انتصار ولا سُجلت أهداف.
خلال سنوات ولاية سيميوني في أتلتيكو مدريد، خَلَقَ حالة فنية دفاعية غير مسبوقة. كاد في عديد المناسبات أن يحطم كل الأرقام القياسية لأي فريق دفاعي عبر التاريخ.ونجح في تخطي العديد منهم بالفعل، وبظروف أكثر خطورة في عدة أحيان: فلم يواجه أحدً منافسين محليين بقوة قطبي إسبانيا على الأقل.
لكن ما جعل الأمر ينتقل من الإعجاز إلى الغرابة هو تلاقي سياسة سيميوني مع نقيضه الذي لن تحتاج إلى وقت لاستنتاج اسمه، «بيب جوارديولا».
يعرف عن الإسباني تطوره الهجومي إلى حد لم يصله مثيل، لكنه بموسم 2016 تشابهت أرقامه الدفاعية مع الأرجنتيني، حيث حصل كل منهما على معدل 0.47 هدفًا و0.44 هدفًا لكل لقاء في الدوري المحلي، على الترتيب.
تفوّق سيميوني جعل قراءة المقارنة تنتقل إلى محور آخر وهو مدى جدوى الكرة الدفاعية مقارنة بالهجومية. فهل لو وُضع بيب على مقعد سيميوني واضطر لمواجهة نفس الخصوم بنفس الإمكانيات المتاحة سيعتمد نفس الفكر أم سيتبدل؟ الأكيد هنا أنه لا يوجد اتجاه صحيح وآخر خاطئ، إنما هو معطى ضمن كثير يؤخذ به لإيجاد نتائج.
لحسن حظ المتابعين لهذا الصدد، ضرب القدر في موسم 2016 موعدًا لتلاقي هاتين القوتين. كان على أي منهما أن يثبت قدرته على قنص الفوز بطريقته الخاصة أمام الآخر، يمكن القول إن في العالم الموازي كان المحايدون ينتظرون انتصار أحدهما للميل له في المستقبل، وبفوز الجانب الدفاعي بنموذجه الخاص وبنتيجته المحببة، قُطعت الشكوك بالنسبة للكثيرين.
الإنجيل الدفاعي للفرق الهجومية
يعتقد «جونثان ويلسون» الصحفي المخضرم بالجارديان البريطانية، أن هزيمة بيب برباعية أمام فولفسبورج بموسم 2015 كانت السبب في فتح موجة طويلة من التفكير في شئون المدرب الإسباني التكتيكية. لا شك أن جوارديولا قد استفاد كثيرًا من تجربته في ألمانيا إجمالًا، حتى بالرغم من أن الجميع وضعه في تقييمٍ أقل من الذي يستحق بعد ثلاث سنوات هناك، لكن التفكير المكثف الذي قام به الإسباني بسبب ذلك قد أعاد جوارديولا إلى تعاليم الأب الروحي «يوهان كرويف».
يؤكد الكاتب الإنجليزي أن منذ هذه اللحظة وهناك 3 قواعد لا تفارق السبورة البيضاء في غرفة جوارديولا:
1. 2 ضد 4 في الحالة الهجومية.
2. زيادة لاعب إضافي في عمق وسط الملعب
3. زيادة لاعب إضافي في خط الدفاع.
حسب وصف ويلسون، بات ذلك إنجيله المصغر، لكن ألا تلاحظ أنه يخص الحالة الدفاعية؟ لوحة أكثر مدرب ذي نزعة هجومية في العالم تحتوي على تعليمات بهذه الصورة!
في ديسمبر/ كانون الأول 2016، نال بيب سخرية شديدة على تصريحه المستنكر للأرقام الدفاعية وإحصائياتها، مؤكدًا أنه لا يُدرج ذلك ضمن برنامجه التدريبي أصلًا، إنما يبحث فقط عن تسجيل الأهداف. هنا يجب عليك ألا تتعجب حينما تسمع نفس الشخص يتحدث من نفس المنبر، بعد ذلك بعامين، عن أنه يجب أن يتحسن فريقه كثيرًا بالرغم من فوزه حينها بسداسية مقابل هدف وحيد.
والمؤكد أن المعنى الذي وصلك كان صحيحًا، لقد كان يتحدث عن التحسن الدفاعي، لأنه في هذا اللقاء كان قد تلقى 6 تصويبات مباشرة على المرمى وفي غضون 90 دقيقة فقط، ما يعني أنه استقبل في مباراة واحدة أكثر من نصف ما استقبله في 10 مباريات قبلها «10 تصويبات».
المؤكد أيضًا أن الموسم الأول له بإنجلترا جعله يشعر أكثر بضرورة تواجد هذه التعليمات رفقته، لأنه وحتى في أقوى فترات فريقه الهجومية كان يعاني من فرق تنتهج السياسات البرجماتية أو التي ترفض استحواذ الكرة، أو ما يعرف بالفرق الدفاعية، مواجهات أمام ساري مثلًا في الموسم الأول للإيطالي، والذي غيّر فكره خصيصًا لتلك المباراة، يمكن أن تشرح ذلك.
وضعه ذلك تحت طائلة النقد مهما قدم هجوميًا، أو بمعنى آخر يمكن القول إن جعبته الهجومية لم تجد حلولًا لمواجهة الطرق من هذا النوع. السؤال هنا: هل أصلًا لديك مساحة للاقتناع بميول دفاعية لفرقة يتولاها جوارديولا؟ إن كان بيب نفسه قد اقتنع بالدفاع، فماذا عنك أنت؟
فن الدفاع عن طريق الاستحواذ
«جراهام تايلور»النجم الإنجليزي السابق لمجلة «فور فور تو»
يمكنك أن تلحظ العديد من أنماط التطور الدفاعي لدى جوارديولا مؤخرًا، فمثلًا بدأ يعتمد على 4-3-3 بأجنحة كلاسيكية في أغلب الأحيان، بمعنى أن الجناح صاحب القدم اليسرى يتواجد على الرواق الأيسر والآخر الأيمن على الرواق المطابق لقدمه، وليس العكس، يعطي ذلك زيادة عددية في قلب الملعب وكذلك يسمح بعدم وجود تقدم مبالغ فيه من قبل أظهرة الطرف الدفاعية.
أضف إلى ذلك استخدامه للاعب وسط ملعب، كـ«فابيان ديلف» أو للاعب مدافع كـ«لابورت» في مركزي الظهيرين، وبالرغم من وصف ذلك بالاضطراري في أغلب الأحيان إلا أنه كان يظهر في أحيان كثيرة أثناء وجود ظهيره الأساسي متاحًا، كما حدث في فوزه بخماسية نظيفة على ليفربول عام 2017.
فهل يمكن القول الآن إن فِكر بيب تحول إلى دفاعي؟ الأكيد أنه لم يتخلى عن قدرته الهجومية إطلاقًا، لكن الأكيد أيضًا، ومن كل الشواهد، أنه تطور دفاعيًا بشكل يلاحظه أي متابع عادي.
جعلت تلك التحولات فريق مانشستر سيتي أقوى دفاعيًا من أي موسم قبل ذلك. فمثلًا، وبعد مرور 22 جولة من الدوري الإنجليزي الممتاز لعام 2018/19، يمتلك الـ«سيتيزنس» الأرقام الدفاعية الأفضل بين رباعي المقدمة، حيث يتلقى مرماهم 6.8 تصويبة فقط لكل مباراة، في حين أن ليفربول لا يقبل أقل من 9.5 تصويبات في كل مباراة، بينما يتلقى تشيلسي و توتنهام 9 و12.3 تصويبة لكل منهما على الترتيب.
ذلك بالرغم من كونه الأقل فيما بينهم جميعًا في كل الأرقام الدفاعية التي تخص الصراعات الهوائية والتدخلات المباشرة وغيرها، ومع ذلك فإن نسخة مانشستر سيتي لموسم 2018/19 ربما هي الأقوى دفاعيًا من بين كل فرق جوارديولا خلال عمره التدريبي الحافل.
لحظات النهاية
بالعودة إلى تجربة لايبزيج ومقارنتها بتجربة جوارديولا نجد أن تجربة الأوائل كانت بدائية للغاية، تمامًا كما كان التكتيك في قديم الأزل، أولًا بدأنا بـ7 مهاجمين ثم شعر الجميع بضرورة تقليلهم شيئًا فشيئًا حتى وصلنا إلى الـ«كاتيناتشو» الدفاعية التي كانت قمة الهرم التكتيكي وقتها. ثم أخذ ذلك يندثر حتى وصلنا إلى التطور الذي بدأ يحدث على يد «رينوس ميتشلز» ثم كرويف ثم وصل قمته على يد الإسباني الصغير بيب.
وإذا كان هناك شيء واحد يميز المدربين الذين حققوا نجاحًا على فترات طويلة مثل «فيرجسون» و«شانكلي» مثلًا، فهو قدرتهم على التطور دائمًا ولأن أساليب لعبهم تنوعت بشكلٍ كبير. الآن، يشير الأمر إلى أننا نعيش مرحلة تاريخية نحضر فيها رجوع أهمية الميل الدفاعي من جديد، أو أن كوكب كرة القدم قد أخذ دورته الكاملة حول شمسه، وهو الشيء الذي كان يحدث كل عدة عقود، وقد حان وقت إعادة الدوران من جديد.
وإن كان أحد يجب أن ينتمي لفئة المدربين الممتدين لعقود فما هناك أفضل من بيب لذلك، وبدلًا من كثرة الأسماء التي تؤسس كل علم على حدة، هذا للدفاعي وذاك للهجومي، نحن الآن نجد شخصًا واحدًا قد وصل لقمة الهرم الهجومي بقدرات براقة، وها هو ذا يؤسس بنفسه علمًا جديدًا في الدفاع عن طريق الاستحواذ وحرمان الخصم من الكرة، المساحة والأهداف بالتالي.
ربما كان بيب سباقًا في رؤية ذلك حينما أفصح عن رغبته في خوض تجربة داخل إيطاليا يومًا ما، تلك البلاد المعروف عنها النزعة الدفاعية، فهل كان يشير إلى وصوله إلى نفس الفكرة -مسبقًا- عن دوران كوكب كرة القدم؟