نهاية الاتحاد المالي الأفريقي: بداية سقوط فرنسا
اختفى مشهد الحشود العسكرية الفرنسية في المستعمرات الأفريقية السابقة منذ عقود عديدة، فالسيطرة على المقدرات في دول أفريقيا لم تعد بحاجة للوجود العسكري، بقدر ما تحول الأمر إلى خلطة من السياسة والاقتصاد، أبقت الدول الأفريقية في دائرة التبعية عبر سنوات طوال من الاتفاقيات الظالمة تبقت كتركة ثقيلة لحقبة الاستعمار.
واحدة من تلك التركات الثقيلة، والتي ما زالت محتفظة بوجودها حتى الآن، هي الفرنك الغرب أفريقي، أو ما يُعرف باسم «CFA Franc»، وهي عملة فرضتها فرنسا على مجموعة من مستعمراتها في غرب أفريقيا، ومن خلالها حكمت عليها بالتبعية الاقتصادية، وهي حكاية تستحق التنقيب.
عملة الاحتلال
من المنطقي في العالم الحديث أن يكون هناك من يمسك بالدفة طوال الوقت، من يتحكم بعجلة القيادة فيحرك الخريطة بتحركه نحو الأمام أو الخلف، وبإمكانك أن ترى ذلك بوضوح عام 1944، عندما وقعت دول الحلفاء الغربية على اتفاقية «بريتون وودز» التي كانت بمثابة انطلاقة جديدة لنظام اقتصادي لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وليصبح هو النظام المالي المتحكم في الأمور.
وكانت واحدة من أهم النتائج التي برزت عن هذه الاتفاقية هي الاتحاد المالي الغرب أفريقي، الذي أعلنت عنه فرنسا في عام 1948، ويتضمن 14 دولة أفريقية، ترتبط عملتها الموحدة بموجب الاتفاق بالعملة الفرنسية، بشرط أن تذهب العوائد المالية الأجنبية الخاصة بتلك الدول كل عام للبنك المركزي الفرنسي.
بصورة تضمن تحقيق الربح والاستقرار الاقتصادي لفرنسا، نتيجة الاحتفاظ بعوائد دول أخرى في بنكها المركزي.
أما الفائدة المزعومة التي تحصل عليها هذه الدول في المقابل، فهي ضمان ثبات العملة المحلية، لارتباطها بالفرنك الفرنسي، ثم اليورو لاحقًا، في واحدة من أجلى صور الكولونيالية، حيث تسيطر الدول الغربية بشكل كامل على مقدرات الدول الفقيرة والمستضعفة، تحت اسم الحماية الاقتصادية والحفاظ على الاستقرار المالي.
تبعثرت الأوراق فجأة، حينما قررت 8 دول أفريقية خاضعة للاتفاقية الخروج من تلك المظلة، والحصول على عملة حرة للدولة، والامتناع عن تقديم الإيرادات المالية السنوية للبنك المركزي الفرنسي، والاحتفاظ بالعوائد المالية داخل الدولة نفسها.
كيف استفادت فرنسا؟
نجحت فرنسا في تحقيق العديد من المكاسب الاقتصادية من هذه الاتفاقية التي استمرت لما يزيد عن 70 عامًا، منها على سبيل المثال الحصول على 500 مليار دولار من البلدان الأفريقية، تدخل الخزانة الفرنسية.
وواحدة من أعجب جوانب تلك القصة هي الدين السنوي الذي وجدت هذه الدول نفسها تدفعه كل عام للخزانة الفرنسية، كضريبة على ما استفادته تلك البلدان من حقبة الاحتلال الفرنسي!
تنص الاتفاقية على أن كل دولة من هذه الدول الأفريقية يجب عليها أن تودع 65% من إجمالي الاحتياطي الأجنبي في الخزانة الفرنسية، بالإضافة إلى 20% لتغطية الالتزامات المالية الخاصة بكل دولة من الدول الداخلة في الاتفاقية، أي أن حوالي 85% من العوائد الأجنبية لتلك الدول تدخل كل عام في الحيازة الفرنسية.
يعني هذا أن جميع الدول، بنص الاتفاقية، تحصل على 15% فقط بشكل تقريبي من عوائد التصدير واستغلال مواردها الوطنية، فإذا ما احتاجت أي من هذه الدول إلى نسبة تزيد عن الـ 15%، فهي بحاجة إلى تقديم طلب رسمي إلى الحكومة الفرنسية، للحصول على نسبة لا تتجاوز 20% من الأموال المملوكة للدول بالفعل لدى فرنسا.
ليس هذا فحسب، بل يعني أيضًا أن أيًّا من هذه الدول لا تمتلك سياستها الاقتصادية، إذ تحدد فرنسا السياسة النقدية لهذه الدول، وفقًا لمصلحتها هي.
من المهم الإشارة إلى أن معظم الأصول الحكومية والمرافق العامة في هذه الدول الأفريقية، تخضع لإشراف الشركات الفرنسية، على سبيل المثال ففي ساحل العاج، تتبع المرافق العامة مثل الكهرباء والمياه والسكك الحديدية والاتصالات والنقل العام والموانئ والبنوك، بشكل تام للإشراف الفرنسي.
وليكتمل مسلسل السيطرة بصورته الكاملة، فالدول الخاضعة للاتفاقية لا تستطيع إبرام صفقات تسليح أو الدخول في مناورات تدريب عسكرية، إلا بموافقة السلطات الفرنسية، كما أن الأنظمة التعليمية في الدول الخاضعة تلتزم بشكل كامل بجعل اللغة الفرنسية اللغة الأولى في المناهج التعليمية، كما هي اللغة الأولى في الدولة نفسها.
ماذا لو انقلبت الطاولة؟
خرج رئيس بنين بصفته رئيس واحدة من الدول المشاركة في الاتفاقية في تصريحات صحفية الشهر الماضي، متحدثًا عن أنه قد حان الوقت لأن تنتهي حالة التبعية التي عانت منها دول أفريقيا طوال العقود الماضية، وأن الدول السبع الأخرى صارت مستعدة للدخول في مفاوضات نهائية للخروج من التبعية الفرنسية والحصول على وضع اقتصادي مستقل، وقد شملت هذه الدول بجانب بنين، توجو، وبوركينا فاسو، ومالي، والسنغال، وساحل العاج، والنيجر، وغينيا بيساو.
تتحدث بعض الآراء الاقتصادية عن الخطر الذي يحدق بهذه الدول في حالة الخروج من الاتفاقية، خاصة أن ذلك الحلف الاقتصادي يتمتع بحالة من الاستقرار الملحوظ على مدى السنوات الماضية، وصلت به إلى معدل نمو 7%.
لكن هناك آراء أخرى ترى أن الأمر ليس بهذه الخطورة التي يصورها البعض، وأن حالة الاضطراب وعدم الاستقرار التي يمكن أن تواجه الدول الأفريقية حال الخروج من الحلف، يمكن أن تكون حالة اضطراب قصيرة الأجل، وليس بالضرورة أن تستمر لفترة طويلة، أو تكون نتيجتها طويلة المدى كما تبدي بعض التخوفات.
لاسيما وأن هذه الاضطرابات لا تعد سوى ثمن زهيد مقابل التخلص من حالة الاحتلال الاقتصادي التي فرضتها فرنسا على تلك الدول. أما فرنسا فستكون خسارتها الفادحة نهاية لقرون من الرفاه المبني على عرق أفريقيا ودمائها.