صحن الكعبة الفارغ: استعدادات متكررة ليوم القيامة
هكذا كتب أحد المعلقين على فيسبوك معلقًا على إخلاء السلطات السعودية للحرم الشريف وصحن الكعبة من المصلين لأغراض التعقيم وتطهير المكان، خشية انتشار عدوى فيروس كورونا، وهذه لم تكن سوى جزء صغير من حالة جماعية من الغضب والحزن الجماعي انتشرت عبر صفحات فيسبوك، وصلت إلى بعض النداءات المعتادة المحذرة من «اقتراب يوم القيامة».
لم يستغرق الأمر أكثر من 4 ساعات تقريبًا بعد أن اكتشفت السلطات السعودية بشكل رسمي 5 حالات جديدة مصابة بفيروس كورونا الجديد (مرض كوفيد-19) داخل الأراضي السعودية، ما دفعها إلى اتخاذ خطوة إخلاء الحرم للتطهير والتعقيم، فهل كانت هذه هي المرة الأولى منذ عصر نوح عليه السلام؟ وكيف حدث ذلك؟
حصار مكة والحرم
قدم وثائقي «حصار مكة» الذي أنتجته شبكة بي بي سي عربي، توثيقًا تفصيليًّا لحادثة حصار مكة والحرم الشريف على يد جهيمان وأتباعه، والتي كانت نقطة تحول في التاريخ السعودي.
نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1979 وبعد صلاة الفجر بقليل دخل مجموعة من المنتمين لجماعة السلفية المحتسبة إلى الحرم المكي، بقيادة جهيمان العتيبي، وبصحبتهم مجموعة من النعوش التي من المفترض أن بداخلها جثامين موتى للصلاة عليهم في الحرم، وبمجرد أن رُفع أذان الفجر، فُتحت النعوش وظهر ما بداخلها. ترسانة كاملة من الأسلحة الثقيلة والذخائر، أُبعد بعدها المؤذن من مكانه، واستولى جهيمان وفريقه على الميكروفون لإعلان بيانهم الهام.
كان البيان إعلانًا لظهور المهدي المنتظر الذي أعلن جيهمان أنه «محمد بن عبدالله القحطاني» الذي رأي جهيمان ومن معه أنه تنطبق عليه شروط المهدي المنتظر، وتتوافر فيه الرؤى والأدلة.
انتشرت المجموعات المسلحة التابعة لجيهمان في أرجاء المسجد الحرام وحول الكعبة، ودخلوا كل مئذنة محيطة بالحرم حاملين أسلحتهم الثقيلة، وبدأوا في إطلاق النار على كل من اقترب من الحرم من الخارج، وبدا الأمر وكأنه محاولة عابرة للإخلال بالأمن داخل الحرم المكي، لكن الوضع كان مخيفًا ومقلقًا أكثر بكثير مما يعتقد البعض، فمجموعات جهيمان المسلحة كانت منظمة بشكل كبير، وأوقعت الكثير من الضحايا في صفوف قوات الأمن. صار الحرم المكي محاصرًا بالكامل.
تسعة أيام كاملة تدخل فيها قوات الأمن السعودية إلى مداخل متفرقة من الحرم لمواجهة جهيمان وأتباعه وإخراجهم من داخل المسجد، لكن الأمور في كل مرة كانت تتفاقم بصورة واضحة، عبر ازدياد واضح في إطلاق النيران، وتزايد مستمر في عدد الضحايا من القوات السعودية، ما أعطى انطباعًا في النهاية بفقدان القدرة لدى القوات السعودية على تقديم بديل متماسك ومنتظم للمواجهة، فيما قدم جهيمان والمتمردون معه قدرة غريبة على الهجوم وإحداث الإصابات والقتلى.
كان خيار المملكة العربية السعودية آنذاك الاستعانة بوحدة مسلحة من فرنسا للسيطرة على الوضع، ووصلت بالفعل وحدة GIGN الفرنسية، التي لم يسمح لها بدخول مكة لكنها قدمت الاستشارات العسكرية والتخطيط للقوات السعودية، بجانب تزويدها بغاز مخدر بكميات كبيرة للسيطرة وحسم الأمر.
بدأت الخطة تتخذ مسارًا أكثر نجاحًا حينما استمرت القوات السعودية في تنفيذ هجمات متكررة على مجموعات جهيمان حتى اضطروهم للتخلي عن كل النقاط الهامة التي يمتلكونها، واحتجزوا في الأدوار السفلية حيث استمرت عمليات القتال بنفس الشراسة، وتضرر الحرم المكي بصورة كبيرة، لكن الكعبة لم تتضرر.
استخدمت القوات السعودية فكرة الغاز المخدر، فأطلقته بشراسة على المتمردين، وبحلول اليوم الخامس عشر على ذلك الحصار، سقط جهيمان ومن معه في قبضة القوات السعودية، وبحسب ما أعلنت الهيئات الرسمية في المملكة فإن عدد الضحايا بلغ 127 من القوات السعودية، و117 من المسلحين، و26 من الحجاج الموجودين في الحرم، ولفترة لا تقل عن شهر بعدها كان الحرم فارغًا ولم يصلِّ فيه أحد.
على مدى أيام طوال شهدها الحرم المكي خلال ذلك الحصار، كان صحن الكعبة فارغًا، ولم يكن هناك أذان ولا طواف ولا أي من الشعائر التي لا تتوقف طوال الـ 24 ساعة.
الكعبة المشرفة في مواجهة المنجنيق
يروي علي حسن الخربوطلي في كتابه «الكعبة على مر العصور» واحدة من أشد الحوادث قسوة في تاريخ الكعبة المشرفة، والتي يذكرها المسلمون حتى هذه اللحظة بعظيم الأسى والألم.
حيث رفض عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما، الاعتراف بيزيد بن معاوية خليفة وحاكمًا على المسلمين، ذلك أن توليه الحكم كان أول تغير في سياق الحكم الإسلامي الذي اعتمد بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، على الانتخاب والشورى، فكان تولي يزيد بالوراثة أول ضربة لذلك النظام القائم المستمر على مدى عقود.
وبرفض ابن الزبير للمبايعة ذهب إلى مكة واحتمى بالكعبة المشرفة وسمى نفسه حينها «العائذ بالكعبة»، وكان ذلك حدثًا هامًّا وفارقًا في عصر الحكم الأموي، فابن الزبير كان من أكثر الشخصيات المؤثرة في مكة، ورفضه للمبايعة كان له أثر لا يمكن إغفاله على يزيد وحكمه، لذا قرر إرسال جيش بقيادة الحصين بن نمير إلى الكعبة لإخراج الزبير منها، وقرر ضربها بالمجانيق المشتعلة، فاحترقت الكعبة وتهدم جانبها، وكانت تلك من العظائم الكارثية التي شهدها حكم التاريخ الأموي.
فكانت الحادثة على بشاعتها واختلاف الروايات بعدها، من الأسباب التي منعت المسلمين حينها من أداء المناسك في المشعر الحرام.
القرامطة وقتل الحجاج
ويستمر الكتاب في الغوص بنا عبر الممرات التاريخية الهامة التي شهدتها الكعبة في عصر الأمويين كذلك، فكان عصر عبد الملك بن مروان، والذي بعد أن نجح في السيطرة على العراق أرسل قائد جيشه «الحجاج بن يوسف الثقفي» والذي وصل خلال موسم الحج ووصول الحجيج إلى المشعر الحرام، فأراد الحجاج قتل ابن الزبير والسيطرة على الكعبة ومكة، فأطلق عليها حجارة المنجنيق خلال الحج، وقتل الثقفي العديد من الحجيج الموجودين في الكعبة، في حين احتمى ابن الزبير وجنده في الكعبة وقاوموا.
كانت الرسالة التي أرسلها عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، إلى الثقفي بالتوقف عن مهاجمة الكعبة فهي بيت الله الحرام، ومراعاة أنهم في شهر حرام وفي وقت اجتمع فيه المسلمون من كافة أرجاء الأرض للحج، فانتظر الثقفي حتى نهاية موسم الحج وعاد للهجوم من جديد، حتى استطاع أن يدخل وجنوده بعد استسلام الكثير من جند ابن الزبير، فهاجموه داخل الحرم وقتلوه.
الاستمتاع بمشاعر الصدمة
بالطبع لا يمكن لأحد إنكار أن صورة الحرم المكي وقد فرغ من المصلين صورة لها مهابتها وأثرها النفسي في الكثيرين، لكن التساؤلات المنطقية دائمًا تغيب عن التفسير في تلك الظواهر ويحل محلها الصياح والصراخ.
يتحدث ميشيل لكروا في كتابه «عبادة المشاعر» عن أن العصر الحديث الذي نعيشه هو عصر مشاعر الصدمة، فكل ما يحيط بنا من أحداث وعوامل يرتبط بشكل ما بشعور البشر بالصدمة، حتى إنهم وبشكل عام يبحثون عنها بعدما وجدوا متعة في الشعور بها، ذلك عبر القصص والدراما والسينما والرياضة وهزائمها والكثير والكثير مما يشبع شعور الصدمة لدى الكثيرين.
انفجرت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي خلال ساعات من إخلاء الحرم المكي من المعتمرين والمصلين، بأحاديث مروعة ومبالغ فيها عن اقتراب يوم القيامة، وعن الكارثة التي لم تحدث منذ عصر النبي نوح عليه السلام، وآخرون يضيفون على الحدث صبغات سياسية، وآخرون يبشرون بأنه علامة لاقتراب حد يزلزل الأرض، والكثير من التفسيرات، لكن أحدًا من أصحاب التفسيرات لم يلتفت للحظة واحدة لأن سلامة المعتمرين والخشية عليهم من انتشار فيروس قاتل قد تكون أهم وأعظم حرمة عند الله من أن تتوقف الشعائر، لفترة مؤقتة.
وبمثل ما قال لكروا في كتابة عبادة المشاعر، عن الهزيمة التي شهدها المنطق والعقل بل القيم الأخلاقية أمام ما أسماه «العصر الشعوري»، فبإمكاننا النظر عبر حالة الشعور الجماعي التي يعلنها الكثيرون حول العالم، والتي وجدت متنفسًا حيًّا يظهرها عبر صفحات فيسبوك، ولم يتحدث أي من هؤلاء عن أن «هدم الكعبة حجرًا حجرًا أهون عند الله من أن يراق دم مسلم»، لذا إذا رأيت عالم المشاعر يسيطر وينشب أنيابه في الواقع، فالنظر عن قرب قد يكون مهمًّا للغاية.