عبدالقادر الجزائري: أمير الحروب الخاطفة
في 17 نوفمبر عام 1869، نظم الخديوي إسماعيل حفلاً تاريخيًا بمناسبة افتتاح قناة السويس.
استضاف الحفل أبرز قادة أوروبا مثل الإمبراطورة أوجيني، وفرنسوا جوزيف إمبراطور فرنسا، والقيصر الألماني فريدريك غليوم وزوجته، وابنة الملكة فيكتوريا ولية عهد هولندا وغيرهم من حكام أوروبا.
وسط هؤلاء المدعوين ذوي الأسماء الرنّانة والملابس الأنيقة، وقف شيخ يرتدي ملابس عربية بيضاء بسيطة ولا يختلف من مظهره كثيرًا عن أي أعرابي في الصحراء.
وبينما تسابق ملوك أوروبا في الرقص بصحبة الخديوي إسماعيل، رفض هذا الشيخ العربي مشاركتهم الرقص، ما زاد من تناقضه مع كل شيء في هذا الحفل الباذخ.
من هو هذا الرجل؟ ولماذا عزمه الخديوي عباس على افتتاح القناة مع كبار الملوك والزعماء؟
هذا الرجل هو الإمام عبدالقادر الجزائري، وهو أحد أشهر قادة المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، ولا يزال الشعب الجزائري يعتبره حتى الآن من أبطاله القوميين البارزين بسبب جهوده في قتال الفرنسيين.
فما هي قصة الجزائر مع فرنسا؟ وكيف ظهر عبدالقادر تحديدًا؟ وماذا فعل؟
الجزائر قبل الغزو
منذ ضم الدولة العثمانية للجزائر إلى صفوفها عام 1518م، شكلت الجزائر موقعًا بحريًّا متقدمًا في الصراع العثماني الإسباني على السيطرة على غرب البحر المتوسط.
بمرور الوقت، ومع حالة الضعف التي عاشتها استنبول، غاب الاستغلال الاستراتيجي للجزائر في الصراع مع أوروبا، وتُركت فريسة للبشاوات (حكام الجزائر) الذين امتكلوا سُلطة مطلقة في إدارة الدولة، ولا يربطهم بالدولة العثمانية إلا إعلان السيادة الاسمية لسلاطين آل عثمان باعتبارهم الرُعاة الشرعيين للمسلمين في كافة أنحاء العالم.
أمّن هذا النظام استقرارًا نسبيًا للجزائر لفترة من الزمن بسبب قوة الحكام الباشاوات وسيطرتهم على البلاد بشكل جيد، وهو ما انتهى مع وفاة محمدعثمان باشا الملقب بالمجاهد سنة 1791م.
من بعده عاشت الجزائر أوضاعًا مضطربة لم تنتهِ إلا بالاحتلال الفرنسي للبلاد.
تزامنت هذه الأوضاع الدينية المضطربة مع نشاط الطرق الدينية الصوفية، التي قامت بالأدوار التي تقاعست عنها الدولة في إرشاد الناس أخلاقيًّا وتوجيههم روحيًّا. وفي وقت ارتبط فيه الفقهاء بالمدن أكثر من الريف حققت الطرق الصوفية نجاحًا كبيرًا في الانتشار، حتى أن مراقبًا عسكريًا فرنسيًا قال «إن صيحة جهاد واحدة تكفي لجمع السكان حول المرابطين، والتوجه بهم لمواجهة العدو».
بمرور الوقت وزيادة شعبيتها، زادت المهام التي تقوم بها تلك الطرق فقامت بأدوار منظمات المجتمع المدني وأيضًا الأحزاب السياسية، ما أكسب قياداتها شعبية هائلة بين الناس.
من أمثلة هذه الطرق هي الطريقة التجانية، والطريقة الرحمانية، والطريقة الدرقاوية، وأخيرًا.. الطريقة القادرية.
انتشرت هذه الطريقة في منطقة التل الوهراني، محل إقامة القبائل العربية التي اشتهرت بشدة بأس فرسانها واعتزازهم الشديد بأصولهم المنحدرة من الجزيرة العربية.
أسّس هذه الطريقة الحاج مصطفى بن المختار، جد الأمير عبدالقادر، وبعد وفاته تولّى أمرها الشيخ محيي الدين والد الأمير عبدالقادر، وهو ما ألقى عليه تبعات هائلة فور وقوع الاحتلال، بعدما التفَّ الناس حوله باحثين عن النجاة وسائلين: ما العمل؟
لماذا اختارت فرنسا الجزائر تحديدًا؟
منذ قديم الأزل، وضعت فرنسا عينيها على الجزائر. ففي عام 1807م عبّر نابوليون بونابرت خلال اجتماع مع القيصر الروسي ألسكندر الأول أن الجزائر ستخضع للنفوذ الفرنسي قريبًا حتى أنه كلّف أحد ضباطه بالسفر للجزائر لإجراء مسح طبوغرافي يسمح بإعداد مخطط لحملة عسكرية ضدها، لكن تراجع نابوليون في إسبانيا ثم انسحابه من روسيا أوقف مشروعه في الجزائر.
تأجل المشروع حتى عهد الملك شارل العاشر بعدما اعتبرته الحكومة وسيلة لتحسين صورة الملك أمام الرأي العام الناقم عليه، وتحجّجت برغبتها في تسوية مسألة الديون الجزائرية على فرنسا، وتعمّد قنصلها في الجزائر بيار دوفال (Pierre Deval) إثارة هذا الموضوع بشكل مهين أمام الحاكم الداي حسين، الذي لم يتمالك أعصابه فلوّح بالمروحة في وجهه كإجابة غير مبالية بطلبات القنصل.
اعتبرت فرنسا أن هذا التصرف إهانة للشرف الفرنسي، ففرضت حصارًا على السواحل الجزائرية، وطلبت من محمد علي والي مصر، مشاركتها في حملة عسكرية على الجزائر فرفض بسبب قناعته أنه لن يستفيد من هذه الحملة شيئًا، هنا قرّرت فرنسا تحمّل هذا العبء وحدها.
هاجم أسطول فرنسي مؤلّف من 150 قطعة بحرية السواحل الجزائرية بقيادة الأميرال دوبيري، حقّق الفرنسيون انتصارات سريعة على القوات العثمانية/الجزائرية أجبرت الداي حسين باشا على توقيع وثيقة استسلام الجزائر، وأمر بفتح أبواب المدينة أمام الجيش الفرنسي في 4 يوليو 1830م.
المفارقة، أن الملك الفرنسي شارل العاشر لم يسعفه احتلال الجزائر في تعزيز شعبيته بعدما تعرّض لانتفاضة شعبية في 27 يوليو أطاحت به، وتولّى الملك لويس فيليب.
الجزائر تحت الاحتلال
أثار اجتياح الفرنسيين للجزائر الرعب في صفوف الجزائريين بعدما تبيّن أن غرضهم هذه المرة هو الاستيطان والبقاء طويلاً وليس مجرد تنفيذ إغارة عاجلة.
حاول محيي الدين شيخ المرابطين، تنظيم صفوف قومه، فشكّل حامية قوية من أتباعه يتقدمهم أولاده حاولوا إضفاء الحماية على المنطقة المحيطة بهم من عصابات اللصوص وقطاع الطرق الذين استغلوا الفوضى التي حدثت في البلد عقب الغزو للقيام بأعمال سلب ونهب.
في اجتماع عقده جماعة المرابطين، اقترح محيي الدين الاستنجاد بسُلطان المغرب، وهو ما وافقوا عليه فأرسلوا وفدًا إلى فاس طالبًا النجدة المغربية، وبالفعل بعد 6 أشهر أرسل سلطان المغرب 5 آلاف فارس بقيادة ابنه علي عسكر في تلمسان الواقع ضمن حدود إقليم وهران، إلا أن السلطان سرعان ما سحب جيشه بعد ضغوط فرنسية وتهديد بقصف طنجة.
هنا توجّهت أنظار المرابطين مرّة أخرى إلى الشيخ محيي الدين الذي نصبوه قائدًا عليهم ليُنظم شؤون جهادهم ضد الفرنسيين، بعدما أيقنوا أنهم سيخوضون تلك المعركة بمفردهم. بالفعل خاضوا معارك صغيرة مع الفرنسيين أمّر فيها محيي الدين ولده عبدالقادر قائدًا عليها، في هذه المعارك أثبت عبدالقادر الابن مقدرة حربية عالية وشجاعة كبيرة، فقاد عبدالقادر القوات القبائلية البسيطة لإحراز نصرين متتاليين على الفرنسيين في منطقة «خنق النطاح» بوهران في مايو 1832م، وهو النصر الذي احتفى شِعرًا بقوله:
نجاح عبدالقادر الكبير في مواجهة الفرنسيين دفع محيي الدين إلى التنازل عن القيادة لولده، بسبب تقدم سنه وضعف صحته، وهو الاقتراح الذي وافق عليه المرابطون بلا تردد.
وبهذا يكون عبدالقادر أول زعيم جزائري يُبايعه الجزائريون على حُكم أنفسهم منذ الاحتلال العثماني للبلاد، والذي استمر 314 عامًا.
من هو عبدالقادر؟
وُلد الإمام عبدالقادر، في أول أيام شهر مايو/أيار سنة 1807م، في بلدة قيطنة التي تقع في منطقة «أغريس»، بالقرب من مدينة «معكسر»، التي تقع جنوب شرقي مدينة وهران، ليكون المولود الرابع لوالده محيي الدين كبير المُرابطين.
امتلكت عائلة عبدالقادر نسبًا أصيلًا ينحدر من الأدارسة الذين يمتدّ نسبهم إلى الحسن بن الحسين بن فاطمة بنت الرسول، والذين أقاموا في الأندلس لفترة من الوقت وذاع صيتهم حتى أن فرعًا منهم، هو بنو حمود انفرد بحُكم أجزاء من الأندلس، عقب سقوط الخلافة الأموية.
لكن بعدها، جرى عليهم ما جرى على مسلمي الأندلس الذين أُجبروا على الرحيل عنها فسكنوا بلاد المغرب العربي، لذا عُرفوا بِاسم «المرابطين» نسبة لدولة المرابطين الأندلسية، وعُرفوا أيضًا بـ«الأشراف»، لاتصال نسبهم بالهاشميين.
وهو ما عبّر عنه عبدالقادر شِعرًا:
عادة التعبير عن آرائه ومواقف حياته الرئيسية بالشعر ارتبطت بعبدالقادر طيلة فترة جهاده، فقبل أن يُتم عبدالقادر العشرين من عمره بدأ في قرض الشعر، وهي العادة التي صاحبته طوال حياته، وكثيرًا ما أرّخ وقائعه المهمة -وما أكثرها- عبر أبيات شعرية بليغة، وهو ما سنعبّر عنه تباعًا خلال المراحل المهمة من حياة عبدالقادر.
وبحسب عبدالقادر، فإن أحد أجداده هو إدريس الأكبر كان سُلطان المغرب، الذي بنَى مدينة فاس، وبعدما كثرت ذريته، شاع أبناؤه في البقاع المختلفة، منهم مصطفى بن المختار جد عبدالقادر الذي نزح إلى منطقة «أغريس»، وأسّس فيها بلدة قيطنة.
بمرور الوقت تمدد نفوذ آل عبدالقادر في منطقة الغرب الجزائري المتاخم لحدود المغرب، وأصبحوا البيت الأبرز فيه.
اشتهر جد عبدالقادر بنزوعه إلى الصوفية حتى أنه نشر الطريقة القادرية في الجزائر، وهي تُنسب إلى القطب الصوفي عبدالقادر الجيلاني، الذي يتمتع بشعبية كبيرة في البلاد المغاربية.
أبدى عبدالقادر نبوغًا مبكرًا في تلقّي العلوم، فحفظ القرآن وهو في الـ14 من عمره، وأتقن علوم الشريعة والحديث، ثم عهد والده إلى القاضي أحمد بن الطاهر لتعليم ابنه علوم الفلك والحساب والجغرافيا وشؤون السياسة الأوروبية.
وبخلاف ذلك، شغف عبدالقادر بحضور جلسات العلماء من أصدقاء والده، الذين كانوا يجلسون بانتظام لتبادل الآراء الفقهية في القضايا المختلفة.
كما تعهدّ والده برعايته عسكريًّا، فدرّبه منذ سنٍّ مبكرة على ركوب الخيل واستعمال السيف والأسلحة النارية.
عبدالقادر أميرًا
في يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1832م تولّى عبدالقادر قيادة قبائل المرابطين ودخل المدينة الأهم في المنطقة؛ معسكر، والتي اتّخذ منها عاصمة له طوال حُكمه للبلاد، كما اتّخذ لنفسه علمًا خاصًّا مقسّمًا لثلاثة مستطيلات؛ المنتصف أبيض اللون والمستطيل الأعلى والأسفل أخضر، تتوسط المستطيل الأبيض يد مفتوحة كُتب عليها بشكل دائري «نصر من الله وفتح قريب.. ناصر الدين عبدالقادر بن محيي الدين».
التحدي الأول أمام الأمير عبدالقادر كان بسط سيطرته على كامل التراب الجزائري، بعدما رفضت بعض القبائل مبايعته، وأحجمت عن الحضور إلى مدينة معسكر وتقديم الولاء له.
قرّر عبدالقادر مهاجمتها وإخضاعها لسُلطته، لكنه في البداية أراد تقديم أوراق اعتماده كحاكم عبر شنِّ هجوم على قوة فرنسية حاولت مهاجمة حلفائه قبيلة «بني هاشم»، فكبّد الفرنسيين خسائر فادحة دفعتهم للانسحاب. لم يكتفِ عبدالقادر بذلك وإنما قاد قوة محدودة من 100 فارس ونصب كمينًا لقوة فرنسية وقتل منهم الكثيرين وحصل على 30 أسيرًا.
اكتفى عبدالقادر بهذين النصرين وعاد إلى عاصمته «معسكر» حيث ازداد حماس القبائل المؤيدة له، أما زعماء القبائل المُعارضة له، مثل: سيدي العريبي زعيم قبيلة «فليتة»، وزعماء قبائل «عكرمة» و«بني مديان»، فلقد استصدر من الفقهاء فتوى منهم تُجيز قتالهم.
أغار عبدالقادر سريعًا على مواقع كافة تلك القبائل وحقق عليهم جميعًا انتصارات كبرى، فأخذ منهم الغنائم والأسرى، ثم أجبر قادتهم على توقيع عهود السمع والطاعة له.
حاول الفرنسيون تجنيب أنفسهم شرّ عبدالقادر، ولو إلى حين من الوقت، فطلبوا منه عقد معاهدة 1934م التي اعترفت به زعيمًا على المناطق التي يحكمها، وكانت هذه المعاهدة بداية لتعزيز سُلطة الأمير ومنحه قدرًا من الهدوء استغله سريعًا في بناء دولته وكسب المزيد من الأراضي والأتباع إلى مُلكه.
جيوش عبدالقادر
وفقًا لكتاب «جهاد شعب الجزائر»، قال الأمير عبدالقادر: إن تجنيد جيش نظامي من شعب لم يعرف التجنيد الإجباري حتى أيام الحكم التركي، هو تجربة خطيرة تحتاج إلى حنكة وحذر كبير، لاسيما مع ما عُرف عن هذا الشعب من الاستعداد للثورة بمجرد طرح فكرة التجنيد الإجباري، ولهذا كان من المحال الإعلان عن خطة من هذا النوع بشكل صريح، وإنما أعلنتها على المدن بشكل صريح: «على كل من يرغب في أن يلبس لباسًا أنيقًا وأن يُصبح ابنًا للسلطان عليه أن يأتي ويلتزم بذلك، وسيحصل على راتب محترم».
من هذا النداء، استجاب شباب الجزائر إلى الأمير وفي وقت قياسي تشكّل الجيش النظامي. امتلك مجموع المقاطعات الجزائرية الثمانية قرابة 16 ألف مقاتل جاهزين للقتال رهن إشارة عبدالقادر.
اهتمّ عبدالقادر بتنظيم جيشه بشكل فعال، فقسّمه إلى 3 فرق، هي: المشاة والخيالة والمدفعية، وجعل له زيًا عسكريًا، كما أصدر مجموعة من القوانين العسكرية التي تحكم علاقة الجنود داخل الجيش لفرض الانضباط على الوحدات العسكرية.
ومن أجل تدريب هؤلاء الجنود، استعان عبدالقادر بالجنود النظاميين المتسللين من تونس وطرابلس، إضافة إلى جنود فارين من الجيش الفرنسي.
وبذلك، اعتُبر عبدالقادر صاحب أول جيش نظامي عرفته الجزائر، يقوم على مبدأ الدفاع عن الوطن وليس بدافع حماية القبيلة أو شيخها.
أما عن التسليح فكانت له مصادر ثلاثة: غنائم المعارك التي ينتصر فيها، التهريب عبر الجنود الفرنسيين، الشراء من المغرب الأقصى وتحديدًا من مراكش.
كما دشن مصانع أسلحة أدارها عدد من العسكريين الأوروبيين الهاربين من بلادهم. في تلمسان أقام مصنع مدافع، وفي مدينة مليانة أقام مصنع بنادق وآخر لإنتاج البارود جوار مناجم الحديد في المدينة. كما أنشأ معامل تصنيع بارود في تلمسان ومعسكر ومليانة والمدية.
كما اهتمّ بإنشاء حصون يلجأ إليها حال الحاجة أو الرغبة في الفرار من الفرنسيين، فأنشأ حصن «سعيدة» جنوبي تلمسان، و«تاقدامت» جنوبي مدينة معسكر، و«بسكرة» في جنوبي قسنطية، كأماكن يلجأ إليها حال وقوع الحرب مع الفرنسيين ورغبته في الفرار منهم.
أيضًا، بنى مستشفيات في كل مقاطعة تابعة له، زوّدها بالأطباء المهرة، كما أنشأ مستشفيات خاصة للجرحى من العساكر، لتشهد بلاد المغرب بأسرها أول ظهور لما نعرفه حاليًا بـ«المستشفيات العسكرية».
ومن أجل تمويل كافة هذه النفقات فرض على رعيته ضريبة لدعم الجيش عُرفت المعونة.
المبادئ العسكرية لعبدالقادر
يُمكن تلخيص العقلية التكتيكية لعبدالقادر في مقولة «إن العرب لا يُنكرون قوة فرنسا وقُدرتها، غير إننا لا نحارب محاربة نظام وترتيب، ولكن محاربة هجوم وإقدام. وإن خرجت كتائبكم وقواكم نتقهقر أمامها متوغلين في الصحاري بأهلنا وأثقالنا، ولا نترك مجالًا للقتال حتى ترجعوا، ثم نبقى على هذه الحال حتى تضعف شوكتكم وتلين قوتكم»، وهي مقولة منسوبة لـ المولود بن عراش وزير خارجية الأمير عبدالقادر، قالها إلى الجنرال الفرنسي دي ميشيل.
تمثلت عبقرية الأمير عبدالقادر في تنفيذ هذا التكتيك عبر اختراع أسلوب ما عُرف بِاسم «الزمالة»، وهي أشبه بمدينة كبيرة يقيم فيها بصحبة رجاله ومؤيديه، لكنها تتمتع بمرونة التنقل في عرض الصحراء، اتّخذها عاصمة له.
هذه الزمالة كانت المعسكر القتالي الخاص بالأمير، وما يصحبه من حاشية ومدنيين ورجال الجيش، يعيشون داخل خيام متينة في الأماكن التي يُحدّدها الأمير عبدالقادر، وحول خيمته تُقام الخيم التي تأوي الناس من حوله وكان يبلغ عددهم في بعض الأحيان قرابة 100 ألف فردٍ.
من خلال هذه المدينة المتنقلة كان الأمير يُدير عملياته الحربية ويُرسل الجواسيس على الأعداء، وحال الشعور بأي خطر يأمر فورًا بحلِّ الخيام والرحيل.
أثبتت هذه السياسة نجاحًا كبيرًا حتى قال أحد ضباط الجيش الفرنسي «إن عبدالقادر لا يحارب ضد الفرنسيين، ولكنه لا يتركهم يأكلون أو ينامون أو يطبخون ولا حتى يشربون»، فيما يقول المارشال دوكاستلان «هل من المُشرِّف أن يُرى جيش مؤلّف من 90 ألف رجل (الجيش الفرنسي) يكون في حالة فشل أمام أحد المقاومين على رأس 500 فارس»؟
الهدنة والنهاية
تعددت المناوشات العسكرية التي وقعت بين عبدالقادر والجنرال بوهران دي ميشال الحاكم العام للجزائر.
وفي 1834م، وقّع عبدالقادر مع الجنرال دي ميشال معاهدة اتفقا فيها على الهدنة بين الطرفين، واعترف فيها كل طرف بأحقية الواحد فيهما للسيطرة على ما يمتلكه من أراضٍ.
لكن سرعان ما ألغيت هذه الاتفاقية إثر استبدال دي ميشيل بحاكم آخر هو ديرلون، الذي استهجن نصوص هذه الاتفاقية، وأبلغ عبدالقادر بعدم التزامه بها.
سريعًا تفجرت الاشتباكات بين الطرفين، إلى أن تلاقى الفريقان قُرب نهر المقطع عام 1835م وحقق عبدالقادر نصرًا كبيرًا لا تزال تحتفل الجزائر بذكراه حتى اليوم.
هذه المرة أتت الإشادة الشعرية بالنصر من الشيخ علي بن أبي طالب صهر الأمير، الذي أنشده قصيدة بحقه قال فيها:
بعد هذه المعركة كتب الجنرال تريزيل الذي هزمه عبدالقادر في المعركة خطابًا إلى الحاكم العام قال فيه: «لقد أضعتُ هذه المعركة المهلكة، وأضعتُ آمالًا كانت تبدو لي معقولة. وليس من شك في أني بالغتُ في تقدير قوتي، كما بالغت في عدم تقدير قوة العرب، ومهما يكن من شيء فإني أرزح تحت ثقل المسؤولية».
عقب هذه الموقعة، واستمرار عبدالقادر في تنفيذ هجمات خاطفة ناجحة على معسكرات الفرنسيين، اضطر الجنرال بيجو قائد القوات العسكرية الفرنسية في وهران إلى عقد معاهدة مع الأمير، وهي معاهدة تافنة سنة 1838م.
خلال التوقيع جرى لقاء بين الجنرال بيجو والأمير عبدالقادر، قال عنه بيجو: قبل أن أدخل معه في الحديث، أخذت أتأمّل وجهه وكسوته لحظة، إنه شاحب اللون وصورته قوية الشبه بالصورة التقليدية المعروفة للمسيح، مظهره العام يدل على التقى والخشوع».
كانت هذه المعاهدة مجرد حيلة دبّرها الفرنسيون من أجل التقاط الأنفاس، أما في السر فكان الغضب ضد عبدالقادر قد بلغ أوجه، وصدر القرار من باريس بضرورة القضاء عليه والثأر مما فعله بالقوات الفرنسية، وفي العالم التالي مباشرة تجدّدت الاشتباكات بين الطرفين.
يقول بسّام العسيلي في كتابه «جهاد شعب الجزائر.. الأمير عبدالقادر الجزائري»: اهتزّت فرنسا كلها عندما وصلتها أخبار معركة المقطع، وارتفعت صيحات التحقيق والعقوبة والانتقام، وهكذا استُدعي الحاكم ديرلون إلى باريس وتم تعيين قائد جديد للقوات الفرنسية هو الجنرال دارلانج.
صدرت الأوامر الفرنسية، بأن الرد على تلك الهزيمة المُذلة لن يكون إلا باحتلال عاصمة الأمير، مدينة معسكر، وهو ما حشدت له باريس 12 ألف جندي.
وتطبيقًا لاستراتيجية عبدالقادر في تجنب خوض أي معركة نظامية مع القوات الفرنسية، أمر سكان معسكر بالخروج منها، على أمل أن يُباغت الجيش الفرنسي بأي شكل خلال مسيرته للمدينة.
وقع اشتباك بين الطرفين قُرب معسكر، وهذه المرة هُزمت قوة عبدالقادر وفرّت من أرض المعركة عقب الهزيمة، وعلى رأسهم عبدالقادر نفسه الذي لجأ إلى قرية كاشن التي تقع قرب مكان المعركة وتبعد فرسخين عن معسكر.
وعندما دخل الفرنسيون المدينة لم يجدوا فيها أحدًا فأقاموا فيها 3 أيام ثم انسحبوا.
إلا أن عبدالقادر تمكن من لملمة قواته سريعًا، والعودة لمناوشة الفرنسيين في معارك صغيرة خاطفة كعادته.
لكن الفرنسيين كانوا قد أعدوا العدة على إنهاء وجود عبدالقادر بشكلٍ تام في البلاد. لم ترغب فرنسا في التفاوض مع عبدالقادر، أو السماح له بأي نفوذ مُجددًا، بعد إعلانها أنها ستجعل «الجزائر بالكامل مقاطعة فرنسية».
وتزايدت القوات العسكرية الفرنسية في الجزائر حتى بلغت 108 ألف جندي، وهو ما كان يُقدّر حينها بإجمالي ثلث حجم الجيش الفرنسي بأسره، فضلاً عن تجنيد 10 آلاف رجل من القبائل المعارضة لحُكم عبدالقادر، وتُعرف بِاسم «قبائل المخزن»، كافة هذه القوات كان هدفها الأول والأبرز هو عبدالقادر.
في 16 مايو عام 1843م، نجح الفرنسيون في اقتناص عاصمة الأمير المتنقلة (الزمالة)، استولوا على خزينته الرئيسية وأسروا خيرة مستشاريه من قبيلة بني هاشم، وبالرغم من أن عبدالقادر قلّل من شأن هذه الخطوة في رسالة إلى الجنرال بيجو قائد الوحدات الفرنسية في مقاطعة وهران، قال فيها «إن الضرر الذي ألحقته بنا لم يكن سوى بمثابة أخذ كأس ماءٍ من بحر»، إلا أن هذه الخطوة بكل تأكيد كانت خطوة قاصمة في جهود عبدالقادر الحربية لقتال الفرنسيين.
عاش الأمير 4 سنوات صعبة بسبب الضغط الفرنسي الهائل عليه، استمرّ خلالها في التنقل من مكانٍ لآخر، آخرها مدينة تلمسان التي لجأ إليها، ولما علم الفرنسيون بوجوده فيها جرّدوا حملة عسكرية ناحيته، فانسحب الأمير إلى مدينة وجدة على الحدود المغربية.
رغم كل هذا فإن الأوضاع ازدادت صعوبة على عبدالقادر، بعدما خُصِّصت 18 فرقة عسكرية فرنسية لمحاربته طوال عامي 1845م و1846م، وهو ما أجبره إلى التقهقر ناحية المغرب، طامعًا في نيل حماية السلطان المغربي عبدالرحمن وهو مالم يحدث.
حاول سلطان المغرب دعم عبدالقادر بقوة عسكرية، فوقعت اشتباكات بين الجيش المغربي والفرنسي واحتل الفرنسيون مدينة وجدة، كما قصفت قطع بحرية من الأسطول الفرنسي طنجة بالقنابل، وفرضت على السلطان توقيع اتفاقية، أعلن البند الرابع منها أن «عبد القادر خارج على القانون في جميع أنحاء الدولة المغربية وفي الجزائر. ونتيجة لذلك ستُطارده القوات الفرنسية في الجزائر والقوات المغربية في المغرب إلى أن يُطرد من هناك».
هنا تحوّل موقف القوات المغربية وبدأت في قتال عبدالقادر، وفي ديسمبر 1847م، وقعت اشتباكات بين عبدالقادر والمغاربة سقط فيها مئات الضحايا من الطرفين، هنا عرف عبدالقادر أن هذا الوضع لن يستمر طويلًا، وأنه لن يقدر على محاربة الفرنسيين من الغرب والمغاربة من الشرق، فعقد مجلسًا مع مستشاريه أخبرهم فيه بأنه سيُلقي السلاح ويُسلّم نفسه للفرنسيين.
يقول عبدالقادر في مذكراته: لم نجد مستندًا نستند إليه إلا الله، وصرنا نتأمل ونتيقن بعد المشورة أن المصير إلى جند الفرنسيين أولى إلى التولّي للمغاربة لأنهم لاعقد عندهم ولا قانون يضبطون به أحوالهم مع أصدقائهم أو أعدائهم، فالجيش الفرنسي يعرفون قدْر الرجال الأبطال، فيعطونهم قدرهم من التعظيم والحُرمة ولو كانوا أعداءً، ويوفون بكلامهم، فالميل إليهم أولى وأفضل من هؤلاء المتبدين (البدو) الذين لا يعرفون قدْرًا ولا يُفرِّقون بين سليم وسقيم».
إزاء هذه الضغوط الهائلة، ارتأى عبدالقادر أن يرفع الراية البيضاء بعد أعوامٍ طويلة من الجهاد، وبعدما تخلّى عنه الكثيرون بما فيهم عدد من أبرز قادته. وفي ليل 21 كانون/ديسمبر 1847 استقبل الجنرال الفرنسي لامورسيير أول رسالة من الأمير يُخطره برغبته في الاستسلام.
وبعدها بـ4 أيام، حملت السفينة «إسمودس» الأمير وعائلته ومرافقيه بلغ عددهم 880 شخصًا في طريقها إلى طولون (مدينة ساحلية، تُطلُّ على البحر المتوسط، تقع جنوب فرنسا).
وهو خارج من وطنه لم ينسَ عبدالقادر الشعر أبدًا، فأنشد بحقِّ الجزائر، مستحضرًا أشعار المعتمد بن عباد آخر ملوك بني عبّاد على إشبيلية: