«أبو عبيدة» الاسم الأول الذي برز في مايو/آيار الماضي حين أعلنت كتائب القسّام تهديدها بإطلاق الصواريخ إذا لم ينسحب جنود الاحتلال من داخل الأقصى، وتكرّر هذا الاسم مرّات ومرّات خلال عمليّة «سيف القدس» التي تابعت مجرياتها جماهير غفيرة حول العالم. بجانبه تردّد اسم آخر، يحمل معه كل معاني الرّهبة والأسطرة، «محمد الضيف». رافقنا الاسمان طيلة أحد عشر يومًا مدة العدوان.

وبعد ذلك تردّد اسم «يحيى السنوار» بخطابه الشّهير وتحدّيه للجيش الصّهيوني من خلال مشيه ساعة في شوارع غزّة دون أن يجرؤ جيش العدو على استهدافه. كان لافتًا أن لغة الخطاب وطريقتها وما حوته من تفاصيل ليس معهودًا من رجل سياسة، وربّما كانت هذه خصوصية أن يكون الشّخص رئيسًا للمكتب السياسي لحركة مقاومة.

إنشاء المكتب السياسي

لا يوجد تاريخ محدد لليوم الذي أنشئ فيه المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ولكن أغلب الوقائع تشير إلى أن الاعتقالات التي تعرّض لها عدد كبير من قادة حماس في  ١٩٨٩ من قبل الكيان الصهيوني كان شرارة إطلاقه.

في السنوات التي تلت ذلك، خضعت حماس لعملية إعادة تنظيم لتعزيز هيكل قيادتها بعيدًا عن متناول إسرائيل، أعيد  تشكيل الجناح العسكري للجماعة باسم قوات عز الدين القسام، وتم تشكيل مكتب سياسي مسؤول عن العلاقات الدولية للتنظيم وجمع الأموال، انتقل ليكون مقره في عمَّان عام ١٩٩٢.

الاسم الذي يتكرر في هذه المرحلة هو موسى أبو مرزوق، أول رئيس للمكتب السياسي، والبعض يعزو إليه الفضل في إعادة لملمة قوى حماس بعد الضّربة القاسية التي تعرضت لها، والاسم الثاني هو خالد مشعل الذي انتخب رئيسًا للمكتب السياسي عام ١٩٩٦. هذان الاسمان ما فتئا يتكرران في الإعلام في كل سياق يورد نشاطات للمكتب السياسي، ودخلت أسماء جديدة فيما بعد برز منها إسماعيل هنية، وصالح العاروري، ويحيى السّنوار، وغيرهم.

مهام تطورت عبر الزمن

لمن يطالع وسائل الإعلام المحلية أو العالمية، يلفت انتباهه شح المعلومات الصريحة عن أدوار المكتب السياسي داخل الحركة، ربما لطبيعتها كحركة مقاومة تعتمد على السريّة بدرجة كبيرة. ولكن، وكما نفهم من السياق الذي إبانه تأسس المكتب السياسي، فإن المهام الأولى التي تولّاها المكتب السياسي تمثلت في رسم سياسات الحركة، إدارة وتنسيق وتمثيل العلاقات الدولية للحركة، وجمع الأموال لصالحها، فيما يمكن تسميته اصطلاحًا «وزارة الخارجية» و«وزارة المالية» لحركة حماس، وهاتان المهمّتان بقيتا في الصدارة، متصلتان بالعلاقات الخارجية لأن الممول المهم بالضرورة يتحول لحليف إستراتيجي مع ما يتطلبه هذا من حسابات وتحديات، وهذا ما سنلحظه في السطور التالية حين نتحدث عن مقرات المكتب السياسي وعلاقاته بسوريا وإيران وقطر.

إذا تناولنا العلاقات الدولية خارج نطاق التمويل في إطار مد الجسور وتشبيك الصلات، نجد أن المكتب السياسي اهتم بأن يكون له موطئ قدم في دول كثيرة، وقد قال مسؤول العلاقات الدولية للحركة أسامة حمدان في حوار حصري للمونيتور نشر في ديسمبر/ ٢٠١٦ إن «لدى حماس اليوم منظومة اتصالات جيدة مع العديد من البلدان، إلى جانب الدول العربية والإسلامية، مع روسيا الاتحادية، ومع البرازيل في أميركا اللاتينية، ومع نيجيريا وجنوب أفريقيا في القارة الأفريقية، ومع الصين وماليزيا وإندونيسيا في آسيا. وفي القارة الأوروبيّة، تمتلك حماس علاقات قوية مع سويسرا والنرويج وثلاث دول أوروبية أخرى ترفض كشف اسمها كي لا يتم إحراجها مع واشنطن الرافضة لعلاقاتها مع حماس».

مع التطورات التي حدثت على الساحة الفلسطينية والساحة الدّولية وحركة حماس نفسها على مدى ثلاثة عقود، تطورت وتعددت مهمات المكتب السّياسي، ليتحول دوره إلى تقديم غطاء سياسي للمقاومة وبرنامجها مع المحافظة على الثوابت والحقوق والتمسك بها.

نجد مصادر تورد عام اغتيال الشيخ أحمد ياسين ٢٠٠٤ كنقطة فاصلة منحت مزيدًا من القوة ونقلت ثقل قيادة حماس للمكتب السياسي في الخارج، إلا أنه بعد انتخابات المكتب السياسي في عام ٢٠١٧، وانتخاب قيادة جديدة لحركة حماس، عاد مركز القوة إلى غزة. المقالات والتّقارير التي تناولت الانتخابات وقتها تحدثت عن مآلات اختيارات مسؤولي المكتب السياسي بصورة بدت حاسمة في مصير الحركة وقراراتها الإستراتيجية ما يقدم لنا فكرة عن الأدوار الحساسة التي يقوم بها المكتب السياسي، حيث وصفه أحد التقارير بأعلى قيادة للحركة، حيث يمثّل كل تشكيلاتها السياسية والعسكرية والإعلامية.

انتخابات المكتب السياسي الأخيرة التي جرت في مارس/آذار العام الحالي، شهدت كثيرًا من تسليط الضوء عليها، خصوصًا بسبب انضمام العنصر النسائي ليكون ممثّلا في المكتب بامرأتين، ونجد في توزيع أعضاء المكتب السياسي المنتخَبين على دوائر المكتب السياسي لحركة حماس في قطاع غزة، أسماء الدوائر التالية: رئاسة دائرة القانونية واللاجئين والقدس، رئاسة الدائرة المالية، رئاسة الدائرة الأمنية، رئاسة الدائرة العسكرية، مسؤولية ملف الجامعات ودار القرآن الكريم، رئاسة الحركة النسائية، رئاسة دائرة التخطيط، رئاسة دائرة المؤسسات، رئاسة دائرة النقابات، رئاسة دائرة العلاقات الوطنية، رئاسة الدائرة الاقتصادية، رئاسة الدائرة الإعلامية والثقافية. وهذا يعطينا فكرة عن توسع صلاحيات المكتب السياسي داخل حركة حماس.

آليّة اختيار أعضاء المكتب السّياسي

تركز حماس في خطاباتها وفي مقابلات قياداتها على إبراز صورة المؤسسة التي تمارَس فيها الديمقراطية وفق نظام الشورى، فالقرارات تتم بالتشاور، واختيار المسؤولين كذلك، ومن ضمنهم أعضاء ورئاسة المكتب السياسي. هناك أربع جهات تشارك في الاختيار، الضفة وغزة والخارج وأسرى سجون الاحتلال. يحدد النظام الداخلي لحركة حماس الآلية التي يتم فيها اختيار رئاستها من خلال الهيئات المنتخبة التي تفرزها مجالس الشورى في الأقاليم الثلاثة (غزة والضفة والخارج) إضافة للأسرى، فكل إقليم لديه مجلس شورى منتخب يسمى مجلس شورى الإقليم. ويقوم المجلس بانتخاب من يمثله في مجلس شورى حماس في الأقاليم كافة. وبعد انتخاب الممثلين، يقوم «مجلس الشورى العام» الذي يمثل أعلى هيئة تشريعية داخل حركة حماس بانتخاب المكتب السياسي، كما ينتخب رئيس المكتب السياسي.

و هذه الانتخابات تجرى بصورة دورية لاختيار قيادات الحركة في جميع القطاعات. وكانت الانتخابات الداخلية تجري بصورة دورية كل ثلاث سنوات، وذلك قبل أن يتقرر أن تجرى كل أربع سنوات، في ظروف محاطة بالسرية، نظرًا لاعتبارات تتعلق بالملاحقة الأمنية من قبل إسرائيل.

يورد الصحافي عدنان أبو عامر ملاحظة تتعلّق بآلية اختيار مرشحي المكتب السياسي، وهي أن قادة حماس لا يبادرون إلى ترشيح أنفسهم إلى المواقع القيادية، بل إن أعضاء مجلس الشورى المنتخب، ولا يعرف عددهم بدقة، يرشحون من يرونه مناسبًا لرئاسة المكتب السياسي في يوم الانتخاب نفسه، ومن يحوز على غالبية أصواتهم يصبح زعيم الحركة. ولذلك يعود قرار انتخاب قائدها إلى المؤسسة الشورية، ولا يصنعه طرف بعينه داخل الحركة، ولا يخضع إلى إرادة أي جهّة فيها.

 ويلاحظ أيضًا أن أعضاء انتخبوا في المكتب السّياسي كانوا معروفين بأدوارهم المهمة في الجناح العسكري، مثل إبراهيم المقادمة، والبعض صنّفتهم الولايات المتحدة في قائمة الإرهابيين المطلوبين للعدالة مثل صالح العاروري الذي ورد في وصفه في قائمة الإرهابيين أنه من مؤسسي كتائب القسام. وبالعكس هناك أعضاء انتخبوا في المكتب السّياسي ثم تولّوا مناصب رفيعة في كتائب القسام، مثل أحمد الجعبري الذي أصبح القائد الفعلي لها باعتباره نائبًا لمحمد الضيف «بعد إصابة الضيف بجروح بالغة نتيجة استهدافه»، وإليه ينسب الفضل في تطوير كتائب القسام لتتحول إلى جيش فعلي.

وهناك من أعضاء المكتب السّياسي من استهدفهم العدو الصهيوني بالاغتيالات لخطورتهم، مثل خالد مشعل وخليل الحية وإسماعيل أبو شنب. هذا كله يشير لضيق مساحة الفصل بين من هو «سياسي» ومن هو «عسكري» داخل حركة حماس، وتداخل المهام والصّلاحيات في بعض الأحيان بين المكتب السّياسي والجناح العسكري.