فيلم «Elvis»: نظرة على حياة ملك الروك
في مقالها (عن الأسلوب – On style) ضمن مجموعتها الشهيرة ضد التأويل، ترفض سوزان سونتاج فصل الأسلوب Style عن المحتوى Content، ترى افتراض أن الأسلوب شيء تزييني أو خارجي هو محض وهم، وأن المحتوى مقترن بالأسلوب بشكل رئيسي بل أنه لا يوجد ما يسمى فنانًا دون أسلوب أو عمل فني دون أسلوب مهما ادعى أنه يصور الطبيعة كما هي، فاختيار تصوير الأشياء أو كتابتها بشكل طبيعي هو اختيار أسلوبي في حد ذاته، تجادل سونتاج أن الأسلوب هو ما يجعل العمل ما هو عليه وأنه ليس من الممكن إزاحة ستار الأسلوب فيظهر المحتوى في شكله النقي، لأن ذلك النقاء لا وجود له في الفن.
دائمًا ما يوصف المخرج الأسترالي باز لورمان أنه صاحب أسلوب مميز، أسلوب تكثيري Maximalist، واضح لا يمكن إخطاؤه، فهو يملك سمات أسلوبية متكررة تميز أفلامه والقصص التي يختار اقتباسها أو تبنيها، يملك حسًا موسيقيًا وحبًا ضخمًا للموسيقى وإيقاعها وكيف من الممكن أن تسير الصورة وفقها أو العكس، كما يملك حسًا بصريًا متميزًا، يفضل الزخرف البصري فيما يتعلق بالملابس والمكياج والمظاهر العامة للشخصيات الرئيسية والفرعية، تضيء أفلامه كلها بلافتات النيون المتوهجة مما يعطيها شعورًا بالحداثة المهيمنة وفي الوقت ذاته بتوقف الزمن، وتقع أحداثها في خضم احتفالات كبيرة باهرة، تطير كاميراه فوقها لتصوير تفاصيلها من أعلى نقطة ممكنة، لا تتوقف الموسيقى أبدًا ولا توجد شخصية ترتدي ملابس مملة.
يمكن التحقق من كل تلك السمات الأسلوبية في فيلم لورمان الأخير «إلفيس» الذي يحكي حياة المطرب الأمريكي الشهير إلفيس بريسلي، إلفيس فيلم ضخم، ذو روح موسيقية جامحة، وبصريات فوضوية غامرة تشبه روح كل من لورمان وإلفيس لكنه وبإرادته الكاملة يفصل محتواه عن أسلوبه لكي يكون أكثر جماهيرية وتقليدية، وبدلاً من تحقيق إمكانياته الكبيرة في أن يكون فيلمًا عظيمًا يصبح فيلمًا متوسطًا ذا إمكانيات عظيمة.
أسلوب الفيس وأسلوب الفيلم
إذا اتبعنا نهج سونتاج في استحالة فصل الأسلوب عن المحتوى فإن إلفيس بريسلي نفسه هو خير دليل على ذلك، هل يمكن أن يظل إلفيس نفسه إذا نزعنا عنه ما يجعله هو، هل سيكون إلفيس نفسه بدون ملابس الماتادور الملونة والشعر الدهني والحركات الراقصة المحمومة؟ أو بدون دمجه الموسيقي بين إيقاعات البلوز الراقصة وموسيقى الريف الأمريكي؟ هل يمكن رفع الستار لإيضاح جوهره وتجاهل الأسلوب الذي يجعله إلفيس الأيقوني؟ على الأغلب لا، كيف يختار أن يبدو ويلفظ كلماته ويصيغ توزيعاته الموسيقية هو ما يجعل محتواه آسرًا، يتبع باز لورمان في فيلمه أسلوب إلفيس المحموم، يصبح مونتاج الفيلم المتوتر المتسارع موازيًا لحركة إلفيس الإيروتيكية التي لا تتوقف، مما يجعل أسلوب الفيلم متوحدًا مع موضوعه.
لكن في كثير من لحظات الفيلم الذي تمتد مدته لأكثر من ساعتين ونصف، يمكن الشعور بخيانة لورمان لأسلوبه الشخصي وأسلوب إلفيس، يستخدم لورمان أسلوبه وكأنه يضفيه إلى شيء ليس له، الفيلم ينتمي نوعيًا إلى السيرة الذاتية، يملك نبضات مكررة وكشوفًا حوارية رأيناها عشرات المرات، لكن ما يجعله فيلمًا لباز لورمان هو استخدامه لأسلوبيته المعتادة، دمج الموسيقى الحديثة والقديمة، المونتاج المتسارع الفوضوي الذي يشبه الموسيقى، وملء الشاشة بالأضواء ولافتات النيون واستخدام الخط والصور المتداخلة، لكن سرعان ما يتناسى الفيلم أن تلك هي شخصيته، ويصبح ببساطة أكثر تقليدية، يأخذ استراحة من أسلوبه المتكامل ليوصل معلومة أو نبضة شعورية ما، مثل لحظة سقوط شخص من نجوميته أو اتفاق مدير أعمال على نجمه الساذج، يتنازل الفيلم عما يجعله نفسه لصالح أن يدع مجالًا لما يجعل أفلام السير الذاتية ما هي عليه بشكل مقبول جماهيريًا.
يبني لورمان فيلمه من عدة فصول يصعب فصلها لكن يمكن تلخيصها في صعود إلفيس (أوستن باتلر) وسقوطه، وتعرضه بالطبع للخيانة من مدير أعماله الكولونيل باركر (توم هانكس)، يصور الجزء الأول طفولة ومراهقة إلفيس، ما تسبب في حبه للموسيقى، نموه في حي شعبي خاص بالأفارقة الأمريكيين، مما كون شخصيته الموسيقية والفنية، وكون الشخصية التي يظهر بها على المسرح، أي المظهر اللا جنسي الذي يدمج ما هو أنثوي مع ما هو ذكوري بسلاسة وجدت من قبله بالطبع في موسيقيين مثل ليتل ريتشارد الذي يمر عليه الفيلم سريعًا، يمر الفيلم سريعًا على كل شيء، وكأن كل معلومة هي محطة يجب التوقف عندها لحظة ثم التقدم وتناسيها تمامًا، يتحول بناء الفيلم الذي يبدو غير تقليدي إلى بناء تقليدي وربما أقرب للأفلام الوثائقية التجريبة من الأفلام الروائية.
تظهر تلك النزعة الوثائقية في الكشف الحواري المكثف وإبعاد شخصية إلفيس تمامًا عن المشاهد، يصبح عنصرًا جانبيًا في فيلم سمي باسمه، ما يتبقى منه بشكل أكبر هو موسيقاه وكيف يتلاعب بها لورمان وفريق الموسيقيين الخاص به، يعتبر ذلك هو الجانب الأكثر تجديدًا وتأثيرًا وقربًا من روح إلفيس في الفيلم، يتسم الفيلم بتصميم صوت غامر ومؤثر، يدمج بين موسيقى إلفيس وموسيقى حي هارلم القديمة مع توزيعات جديدة وموسيقى سمراء معاصرة، يفصل صوت إلفيس الأصلي ويضيف عليه توزيعات موسيقية أكثر طزاجة، لا تتوقف الموسيقى إلا نادرًا طيلة مدة الفيلم وهو ما يجعل عنصر الصوت أكثر إخلاصًا لإلفيس من الخيارات السردية التي اختارها لورمان لقص قصته.
من يروي القصة؟
تتكرر في عوالم باز لورمان لزمات سردية مثل اختيار راوٍ غير معتمد عليه (Unreliable Narrator)، لا يملك معرفة كلية بالبطل أو بالأحداث من حوله، لكنه يملك حبًا وشغفًا كبيرين لذلك البطل، يراه كإله أو صديق مقرب أو امرأة سحرية، وعادة ما تحيط البطل هالة أسطورية، يبدو بعيد المنال لكنه يعيش حياة باذخة، تراجيدية، وعلى الرغم من كل قوته المزعومة فإنه يملك قلب طفل نقي مهما بدا واثقًا وساحرًا.
تنطبق سمات البطل تلك على كثير من شخصيات باز لورمان منها الفتاة الجميلة المغوية ساتين (نيكول كيدمان) في الطاحونة الحمراء Moulin Rouge! والتي يحكي عنها الكاتب كسير القلب الواقع في حبها كريستيان (إيوان مكريجور)، وفي الشخصية الأدبية الشهيرة جاتسبي العظيم (ليوناردو ديكابريو) The Great Gatsby الذي نراه من عيني من يحكي عنه وهو صديقه نيك كاراوي (توبي مجواير)، في تلك الأمثلة امتلك البطل راويًا يراه أكثر الأشخاص جمالاً وبراءة، يهتم الراوي ببطله حتى وإن لم يعرفه جيدًا، يحرص على سلامته وربما يضحي بنفسه من أجله أو من أجلها، تنطبق صفات البطل التراجيدي جميل المظهر باذخ الحياة على آخر الشخصيات التي اختارها لورمان أي إلفيس النجم الموسيقي والسينمائي الأمريكي الشهير الذي يحظى بنهاية تراجيدية، لكن لم تنطبق السمات نفسها على الراوي الذي يصاحبه.
امتلك إلفيس الجمال والموهبة والسذاجة، لكن الراوي والسارد الذي اختاره له لورمان لم يمتلك سمات الرواة السابقين الذين كونوا أسلوبه الفريد، يروي الفيلم كله من وجهة نظر مدير أعمال إلفيس الكولونيل باركر الذي يؤدي دوره توم هانكس بمزيج من الشر واللؤم الطفولي، وهو رجل غامض مستغل، يستغل موهبة إلفيس وشهرته لتحقيق المكاسب المادية وكسره بالكامل، يرى الكولونيل إلفيس لما هو عليه، فتى ساحر وموهوب وبعيد المنال لكنه لا يملك له ولا لسذاجته نفس التعاطف الذي امتلكه نيك كاراوي لجاتسبي مثلاً، بل أكن له كل النوايا السيئة التي يمكن تصورها، لذلك أصبح الخيار الأسلوبي السردي الذي لم يكسره لورمان عائقًا ومقيدًا لصناعة فيلم مؤثر ومتوغل في حياة إلفيس الشخصية.
نرى إلفيس طوال مدة الفيلم من عيني الكولونيل، يتلاعب بنا ويلوي الحقائق، يمكن بشكل ما اعتبار ذلك أداة سردية تضعنا في محل المشاهد والمراقب وتجعل من إلفيس ذلك البطل الأسطوري الذي تلف حياته الغموض، لكن سرعان ما يتركنا الفيلم لحظات مع إلفيس من دون الكولونيل ويضعنا في حالة مواجهة مع شخصية لم نقترب منها طيلة فترة الفيلم، تصبح تلك اللحظات أشبه باجتماع ثلاثة أفراد معًا يغادر أحدهم فجأة، فيصبح الآخرون أي نحن وإلفيس كغرباء لا يملكون أدوات التواصل الملائمة، فتصبح اللحظات الحميمة صعبة التصديق لأنها غير متسقة مع سردية الفيلم الرئيسية التي تجعل إلفيس بعيدًا ولامعًا وتحرمنا من أي لحظات حميمة معه، فنحن لا نراه إلا في أبهى صوره، شعره الدهني مصفف كل خصلة في مكانها الصحيح، وملابسه الملونة في أفضل حالتها، ربما تجنب تلك الاختيارات التغريبية إمكانية استغلال إلفيس بشكل مبتز عاطفيًا أو الانغماس في مآسيه الشخصية، لكنها في الوقت ذاته تعمل على تشييء الشخصية وجعلها عنصرًا (Object) يمكن النظر إليه لكن يستحيل الاقتراب منه.
يؤدي أوستن باتلر دور إلفيس بريسلي بدقة نادرة، لا ينجرف في التقليد الذي يجعله كاريكاتيريًا لكنه في الوقت ذاته يتقن حركاته الدقيقة، صوته، لغة جسده، هشاشته وغضبه، لكن كلما اقترب باتلر من الكمال التمثيلي للشخصية يقاطعه المونتاج، لا يعطيه الفرصة للتنفس، فهو موجود لكي يرى من أعين الكولونيل الذي يمثل أعيننا، يصل باتلر لذروة الكمال التمثيلي للشخصية قرب النهاية بمساعدة فريق المكياج الذي يصعب حصر أسمائهم من كثرتهم، لكن ما يجعل الأداء مؤثرًا ليس تشابه إلفيس مع باتلر ولكن تشابه الشعور الذي يرسمه باتلر في عينيه مع ذلك الذي نراه في أعين إلفيس في نهاية حياته، لكن الفيلم لا يتمهل لإعطاء ذلك الأداء المميز فرصة في الظهور بل يسارع لعرض مشاهد أرشيفية لإلفيس ليثبت التشابه ويسهل المقارنة.
سياسيات العرق والموسيقى
يعتبر إلفيس بريسلي شخصية إشكالية مثل الكثير من مشاهير الموسيقى في الستينيات والسبعينيات، فقد كانت فترة من التحولات السياسية والاجتماعية الجذرية والمفاجئة، لكنها لم تخلُ من الامتيازات البيضاء والامتيازات الذكورية، امتلك نجوم الروك أعذارًا مجانية للتصرف كما يحلو لهم مع النساء والمراهقات من الجماهير، كما امتلك نجوم الروك البيض بشكل خاص نفوذًا يمكنهم من الاقتباس من أي ثقافة تحلو لهم، لكن ما جعل ذلك إشكاليًا في نهاية الخمسينيات مرورًا بالستينيات والسبعينيات في أمريكا هو الفصل العنصري الصارم ونبذ مطربي البلوز والسول والجاز وغيرها من الأنواع الموسيقية المنتمية للأفارقة الأمريكيين من الظهور والنجاح المادي، لكن نجوم الروك البيض ساهموا في اكتشافهم بشكل متأخر، بعدما تأثروا أو «استولوا» على موسيقاهم وجنوا من ورائها المال والشهرة.
كان إلفيس بريسلي أحد أنصار المجتمعات السوداء الأمريكية، لم يكن عنصريًا بالمعنى التقليدي، لكن لم يمنعه ذلك من استغلال موسيقى أقرانه ممن لا يملكون امتيازاته، لم يكن مكروهًا من قبل المجتمعات الفنية تحت الأرضية وقتها بل كان صديقًا وحليفًا، بل أن بعض أهم نجوم الموسيقى وقتها يدينون له بالفضل في نشر موسيقاهم، لكن بشكل موضوعي لم يستفيدوا هم شيئًا ولم يسلموا من مطاردات الشرطة، أو النبذ الشعبي العام.
لا يعلق الفيلم نقديًا على تأثر إلفيس بالموسيقى العرقية السمراء أو استغلال الفنانين الموهوبين في حيه لتسلق سلم النجومية، بل يجعل من تلك التأثيرات لقطات ملهمة ومؤثرة في مسيرة حياته ويعتمد على هوس البيض الأمريكيين بما هو غرائبي ومتوهج وإكزوتيكي (Exotic) طالما كان أبيض مثلهم، يصبح السواد (Blackness) كمفهوم هنا نقطة قفز لتمرد إلفيس فيصبح الغموض العرقي مساويًا للخروج عن القواعد، كلما اقترب إلفيس أكثر من ما هو أسود أصبح أكثر تحررًا، ربما ينتقد الفيلم ذلك في ردود الأفعال البيضاء حوله، لكنه ينأى بإلفيس نفسه عن النقد أو الموضوعية، فهو يراه من بعيد ويظهره لنا من مسافة ضخمة تمنعنا من رؤية ما بداخله أو ما يفكر فيه.
يظهر ذلك بشكل خاص في مونتاج يؤطر ذروة نجاح إلفيس، تنقسم الشاشة لثلاثة أقسام، أحدها يظهر أرثر كردرب (جاري كلارك) الكاتب والمغني الأصلي لأغنية It’s alright my mama، وبجانبها تسجيل لإلفيس يؤدي الأغنية كمراهق في الأستوديو ويصور القسم الثالث نضج إلفيس وتطويره للأغنية لتصبح واحدة من أشهر أغانيه، بتأطير مثل ذلك يتجاهل الفيلم القضايا العرقية والثقافية والتعقيدات التي يولدها ذلك التساوي حتى في أحجام الإطارات التي تظهر بها كل لقطة، فالفيلم يقدم نفسه باعتباره إعادة صياغة لقصة قديمة في صورة معاصرة لكنه لا يلتزم بذلك إلا عندما يكون ملائمًا له.
يعامل فيلم «إلفيس» بطله كأداة لصناعة عرض موسيقى بصري باهر مثل الذي قدمهم إلفيس على مدار عمره وينجح في ذلك، فهو تجربة سينمائية حافلة بكل ما هو فني ومثير وممتع، لكنه يضيع فرصة إعطاء ذلك النجم الأسطوري لمحة من الإنسانية أو القرب، يتركنا مع قيود النوع التي فرضت مؤخرًا على الأفلام التي تتناول حياة الموسيقيين، فلا يصبح فيلمًا أسلوبيًا متميزًا أو يرضى بكونه فيلمًا نوعيًا آخر مثل غيره.