نهاية «التحرير»: هل انتهت طموحات رجال الأعمال السياسية؟
فوجئت الجماعة الصحفية بقرار إدارة جريدة التحرير بوقف الجريدة في خلال شهرين من الآن، لم تكن المفاجأة كبيرة إلى حد كبير فموقع الجريدة محجوب منذ أكثر من شهر لأسباب لا يعلمها حتى رئيس المجلس الأعلى للإعلام، وهي الجهة المسئولة عن حجب المواقع بحسب قانون تنظيم الصحافة والإعلام الجديدة.
بحسب بيان الجريدة الرسمي، فإن الإدارة تواصلت مع المجلس الأعلى للإعلام بصفته الجهة الوحيدة المختصة بتنظيم عمل وسائل الإعلام والمواقع الإخبارية، لكن المجلس رد بأنه لا توجد أي قرارات بخصوص موقع «التحرير» الإلكتروني. لاحقا أيضا وبحسب البيان أيضا تواصلت الإدارة مع نقيب الصحفيين ضياء رشوان، الذي أجرى اتصالات بالعديد من مؤسسات الدولة دون أن يحدد البيان ما هي تلك المؤسسات، ثم أبلغ رشوان بدوره إدارة الجريدة بأنه «لا توجد مشاكل مع الموقع». لاحقا وبعد بيان الإدارة قام مجلس نقابة الصحفيين بإصدار بيان يطالب فيه بتوضيح ملابسات حجب الموقع. وأكد أنه في الفترة من 9 مايو/آيار الماضي وحتى الآن، تواصل أكثر من مرة مع أكثر من جهة للاستفسار عن أسباب حجب موقع «التحرير» لكن لم يتلقَ أي رد منهم.
يفتح هذا التطور الأخير أسئلة قديمة جديدة حول من يحجب المواقع في مصر؟ وكيف وعلى أي أسس تتخذ قرارات حجب الصحف والمواقع، خاصة أن التحرير لمن لا يعرفه هو مجرد موقع إخباري، ليس موقعا معارضا وليس موقعا مستقلا، لكنه يتلزم بالخطوط العامة للسياسة التحريرية التي تضعها الأجهزة السيادية والأمنية أحيانا، لكن ما وراء تلك الأسئلة السؤال الأهم وهو حول حدود دور رجال الأعمال في السياسة في مصر في نظام ما بعد 3 يوليو القائم.
لماذا تم حجب التحرير
في 9 مايو السابق فوجئ العاملون بالموقع الإلكتروني أن الموقع لا يعمل، حينها وبعد تواصل مكثف مع سلطات تنظيم حجب المواقع في مصر ممثلة في المجلس الأعلى للإعلام لم يعلم أي أحد أسباب هذا الحجب. بعد 9 مايو بيومين فوجئ أيضا كثير من العاملين في المواقع الإخبارية التابعة لرجال أعمال أو لشركات خاصة مثل المصري اليوم والشروق وموقع مصراوي بتعطل مواقعهم أو عدم القدرة على زيارتها من داخل مصر.
بحسب تقرير نشر في 17 مايو/آيار الماضي في موقع «درج» اللبناني، فإن سر ذلك التعطل المتكرر كان بسبب عدم التزام تلك المواقع والجرائد الخاصة بتعليمات عدم نشر ملخصات حلقات الموسم الدرامي الرمضاني. يبدو هذا التفسير منطقيا لأن مواقع مثل «اليوم السابع» «صوت الأمة» و«دوت مصر» لم تتعطل، لأنها كانت تنشر ملخصات للحلقات بعد إذاعتها على القنوات المملوكة لمجموعة إعلام المصريين.
شملت المواقع التي تعطلت كلا من مصراوي وفيتو التابعين لمؤسسة «أونا» للصحافة والإعلام، ويمتلكها رجل الأعمال نجيب ساويرس، وموقع جريدة «المصري اليوم» التي ملكها بعض رجال الأعمال أبرزهم صلاح دياب، ومواقع أخرى.
لكن حجب موقع جريدة «التحرير» التي يملكها رجل الأعمال الشهير أكمل قرطام، وأسسها الصحفي إبراهيم عيسى ويرأس تحريرها الآن محمد فوزي كان قبل ذلك بيوم أو يومين، وهو ما يحيلنا للتفسير الثاني، والمتعلق بأن الأمر مجرد تصفية حسابات سياسية مع أكمل قرطام، مالك الموقع.
أكمل قرطام هو رجل أعمال مصري ورئيس حزب المحافظين، وهو نائب برلماني حالي في البرلمان المصري. عارض قرطام التعديلات الدستورية الأخيرة، وقبلها كان له موقف رافض لبيع جزيرتي تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية. كما تقدم أكمل بمشروع قانون سابق لتعديل قانون التظاهر. يلعب أكمل قرطام دور المعارضة العاقلة للنظام السياسي الحالي في مصر، يتضح ذلك في مواقفه الشخصية وفي مواقف حزبه الذي يميل في أحيان كثيرة ناحية جبهة المعارضة المدنية الحالية في مصر ممثلة في «الحركة المدنية الديمقراطية» وغيرها من الأحزاب التي انفضت تدريجيا من حول نظام 3 يوليو.
لا نعرف تحديدا هل يتم عقاب أكمل على مجمل أعماله هنا أم أن الأمر لا يتخطى محاولات الأجهزة السيادية ممثلة في جهاز المخابرات العامة والحربية في السيطرة على الاعلام.
لا صوت فوق صوت «الأجهزة»
ساويرس وأكمل قرطام كانا مثالين بارزين للطموحات السياسية بعد يناير، فكلاهما أسس حزبا أو أنفق بسخاء على نشاطات سياسية وإعلامية هدفها هو إيجاد موطئ قدم جديد لرجال الأعمال الجدد هؤلاء في تركيبة النظام السياسي. علي الجانب الآخر من المعادلة السياسية كانت الدولة تسعى عبر أجهزتها السيادية الكبرى (المخابرات العامة والحربية) للاستحواذ على صناعة الصحافة والإعلام.
كان هذا من اللحظة الأولى لنظام 3 يوليو والتي أدرك فيها النظام السياسي المصري خطورة انفتاح المجال الإعلامي وعمد منذ اللحظة الأولى على إزاحة كل خصومه الإعلاميين، بدأ النظام مثلا بغلق قنوات الإسلاميين والقنوات المؤيدة لهم. فيما تلا ظهرت استراتيجية جديدة تتمثل في استحواذ رجال الأعمال القريبين من الأجهزة الأمنية على القنوات الخاصة. كانت أولى تلك الصفقات هو استحواذ أحمد أبو هشيمة على مجموعة أون تي في المملوكة لرجل الأعمال نجيب ساويرس، والتي كانت سياستها التحريرية حتى شراء أبو هشيمة أكثر توازنا وموضوعية في نقل الأحداث السياسية. في مايو/آيار 2016، اشترى أبو هشيمة أون تي في (OnTV)، تبع ذلك استحواذ مجموعة إعلام المصريين على عدد من المواقع الصحفية بشكل كامل أو كلى مثل اليوم السابع وصوت الأمة.
في ديسمبر/كانون الأول 2017، أعلن عن استحواذ شركة إيجل كابيتال التابعة للمخابرات العامة المصرية. داليا خورشيد، وزيرة الاستثمار السابقة، هي التي أدارت صفقة الاستحواذ وتعبر إيجل كابيتال عن صندوق استثمار مباشر جرى تأسيسه قبل صفقة الاستحواذ بقليل ليدير كل الاستثمارات المدنية لجهاز المخابرات العامة.
بعد استحواذ إيجل كابيتال على إعلام المصريين بدأت المجموعة في توسيع ملكيتها لوسائل الإعلام فاشترت قناه «الحياة»، ووسعت من ملكيتها مع الشركة المتحدة للطباعة والنشر وتكنولوجيا المعلومات وهي إحدى الشركات المملوكة للمخابرات العامة في حصتها من شبكتي النهار وسي بي سي. استمرت الأجهزة الأمنية خاصة جهاز المخابرات العامة في الاستحواذ على القنوات الخاصة فاشترت شركة فالكون في 2016 مجموعة قنوات العاصمة المملوكة للنائب البرلماني سعيد حساسين.
أيضًا في بداية 2017، أعلن عن تأسيس مجموعة قنوات دي إم سي الإعلامية (DMC) التي كانت مملوكة ورقيًا على الأقل لطارق إسماعيل، رئيس شركة (D media). يعتبر كثيرون طارق إسماعيل واجهة لجهاز المخابرات الحربية، وهو ما ظهر جليًا بعد ذلك في تفاصيل المفاوضات مع رجل الأعمال الخليجي تركي آل شيخ لإنقاذ القناة.
أما فيما يتعلق بالصحف، فإن شركة إعلام المصريين تمتلك موقع «اليوم السابع»، «صوت الأمة»، مجلة «عين»، مجلة Egypt Today، موقع «انفراد»، موقع «دوت مصر»، وجميعها من أهم المواقع الإخبارية.
هذا بالطبع بجانب تملك الدولة عبر مؤسساتها الصحفية الحكومية الكبرى، وهي الأهرام والأخبار والجمهورية، أكبر الصحف توزيعا في مصر. تجدر الإشارة هنا إلى صمود الشروق والمصري اليوم وهما أحد أكبر الجرائد الخاصة توزيعا أمام طوفان الاستحواذ الأمني، فالأولى المملوكة لرجل الأعمال إبراهيم المعلم، والثانية لصلاح دياب وهما مشهوران بعلاقات مميزة مع نظام مبارك. لكن هذا لم يمنع أن تتدخل الدولة في سياستهما التحريرية بما يمكن أن نسميه الرقابة الذاتية من خلال شراء الولاءات لملاك هؤلاء الجرائد.
تغيير تركيبة النظام الحاكم
لا يمكن بالطبع أن يقود كل ما سبق لاستنتاج حدي وهو أن النظام يقصي رجال الأعمال من تركيبة النظام السياسي في مصر، لكن مؤشرات أخرى منها تدخل الجيش في الاقتصاد وإخضاع رجال أعمال كثر في قطاع التشييد والعقارات لمنطق «مقاول الباطن» الذي يعمل به الجيش والهيئة الهندسية للقوات المسلحة. أيضا منطق الجباية الانتخابية وغير الانتخابية التي يقوم بها النظام لصندوق تحيا مصر من رجال الأعمال تفتح المجال للقول بأن النظام السياسي يريد قتل طموح رجال الأعمال السياسي.
منذ بداية التحول النيبوليبرالي في مصر في الثمانينيات ورجال الأعمال يشكلون ضلعا مهما في مثلث السلطة، تجلى هذا في إزاحة رجال الأعمال هؤلاء لبيروقراطية الدولة القديمة داخل الحزب الوطني في الفترة ما بين 2005 إلى 2011. في تلك الفترة تزايدت نشاطات رجال الأعمال داخل الإعلام، أسس صلاح دياب وآخرون المصري اليوم التي كانت معروفة أنها صحيفة معارضة، أسس إبراهيم المعلم الشروق، وبعد الثورة زادت حصة رجال الأعمال في سوق الصحافة والإعلام، لعل المثال الأبرز كان قناة أون تي في (OnTv)، إحدى القنوات القليلة التي تبنت وجهة نظر الثوار في الفترة من 2011 إلى 2013، التي كانت مملوكة لرجل الأعمال نجيب ساويرس.
يكره النظام الحالي السياسة في المطلق، لكن المؤشر الجديد فيما يتعلق بالتعامل مع طموحات رجال الأعمال في المطلق هو أن النظام لا يريد حتى لرجال الأعمال أن يكون لهم صوت مستقل عنه أو خارج عن سياقه في أي من الأمور، يتعامل النظام مع هؤلاء بوصفهم «حقائب من المال» فقط لا غير.
لا يتعامل النظام الجديد مع رجال الأعمال كما كان مبارك يفعل، فالنظام عازم منذ اللحظة الأولى على تحييد رجال الأعمال، خاصة فيما يتعلق بالطموحات السياسية، يمكن أن يفسر هذ جزئيا على نظرة المكون العسكري الحاكم في النظام المصري الحالي لرجال الأعمال هؤلاء على أنهم منافس محتمل على السلطة. أعاد النظام منذ 2013 تشكيل مجال علاقات المحسوبية في الاقتصاد، فقرب رجال أعمال مثل أبو هشيمة ومحمد أبو العنين وأبعد آخرين. يُستبعد أن يكون لأصحاب الشركات الكبرى مجددا دور مهيمن وواضح في صنع القرارات الاقتصادية كما كان الوضع خلال العقد الماضي في عهد مبارك. فأقطاب الأعمال المسيسون على غرار نجيب ساويرس وقرطام وغيرهم، غير مرحب بهم طالما يمتلكون صوتا به شبهة الاستقلال عن الخطاب السياسي للنظام الحالي.
يبقى السؤال كيف يمكن حسم صراع بهذا الحجم وبهذا التعقيد؟ كيف يمكن للنظام الحالي أن يخضع رجال الأعمال جميعهم لخطابه في السياسة في ظل تأثر مصالحهم في الاقتصاد بتدخل الجيش؟