تصعيدٌ خطير في القرن الأفريقي خلال الأسبوعين الماضيين، عنوانه العريض «سواكن» و «ساوا». فمع زيارة الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» للسودان يوم رأس السنة الميلادية، وزيارته للآثار العثمانية في جزيرة «سواكن»، وحديثه عن إعطاء السودان لتركيا حق إدارة الجزيرة التاريخية، انقلبت التحالفات في القرن الأفريقي رأسًا على عقب.

مصر التي اعتبرت الوجود التركي في سواكن موجهًا ضدها أعلنت الحرب الإعلامية لتخصص ساعات متواصلة من «الردح» الإعلامي تجاه السودان ورئيسه. وفي خطوة غير مفهمومة حدث اتصال بين ولي العهد الإماراتي ووزير الخارجية المصري قيل إنه يتعلق بسد النهضة! ثم اتصال آخر بين ولي العهد السعودي والرئيس المصري، وأعقب ذلك زيارة مساعد وزير الدفاع السعودي إلى الخرطوم لبحث هذه المسألة، لتنتهي المعضلة سعوديًا على الأقل بعد التوضيحات السودانية التي نفت تمامًا أي نية لإعطاء تركيا قاعدة عسكرية على الساحل السوداني.

لكن الإمارات لم تركن للنفي السوداني ولم تقتنع به، وهي قائدة الحرب المقدسة على الإسلام السياسي -وفي القلب منه الوجود التركي- في البلاد العربية، فقامت باستدعاء الرئيس الإرتري «آسياس أفورقي» وسط أنباء تتحدث عن أن الإمارات قررت تمويل قاعدة عسكرية للجيش المصري في إرتريا ردًا على ما يُزعم أنه تمويل قطري لقاعدة عسكرية تركية في سواكن السودانية.

وقد استفز هذا الأمر السودان الذي أرسل رئيس الوزراء السوداني «بكري حسن صالح» إلى أفورقي طالبًا منه عدم الاستجابة للطلب الإماراتي-المصري باعتبار أن هذه القاعدة تمثل تهديدًا مباشرًا للأمن السوداني، لكن أفورقي المتلهف للدعم الإماراتي أعاد «بكري حسن صالح» إلى بلاده بخُفي حُنين، بل إن الصحف الإرترية تجاهلت أخبار زيارة رئيس الوزراء السوداني وكأنها أصلًا لم تكن، وأعقب ذلك إعلان الحكومة السودانية لحالة الطوارئ في ولاية «كسلا» الحدودية القريبة من إرتريا، بحجة جمع السلاح غير الشرعي من المواطنين. وتبعه غلق تام للحدود بين السودان وإرتريا.

مصادر من المعارضة الإرترية تتحدث عن أن مصر نشرت بالفعل 3000 جندي في مركز تدريب «ساوا» في إقليم «القاش بركة» الإرتري المحاذي للسودان، وأن إرتريا أعادت فتح معسكرات المعارضة السودانية المسلحة وحركات التمرد لأجل إحداث هزة أمنية في السودان، في إقليمه الشرقي الذي ينعم منذ سنوات بالأمن والاستقرار.

وجود قاعدة عسكرية للجيش المصري على حدود السودان الشرقية يُعتبر -من قبل الجانب السودني- تهديدًا حقيقيًا للأمن السوداني، فالسودان يعتبر الوجود المصري موجهًا ضده قبل أن يكون موجهًا ضد سد النهضة كما يقول محللون مصريون. فمنطقة «ساوا» بعيدة جدًا عن الحدود الإرترية مع إثيوبيا وقريبة جدًا من الحدود مع السودان، بالإضافة إلى أن ضرب سد النهضة الآن كما تريده مصر ليس في صالح السودان بأي حال، لأنه سوف يتسبب في تدفق المياه المحتجزة خلف السد إلى السودان لتغرق مدنه الواحدة تلو الأخرى.

اقرأ أيضًا:سناريوهات التدخل العسكري لحل أزمة سد النهضة

ولذلك صدر تصريح من الجيش السوداني لأول مرة يعلن صراحةً عن حمايته لسد النهضة، حيث قال قائد القوات البرية السودانية الفريق «السر حسين» إن الجيش السوداني قادرٌ على حماية السدود والحدود وأن سد النهضة مهم للسودان مثلما هو حال السد العالي لمصر، فهو يوفر للسودان أراضٍ زراعية ويحقق له مصالح اقتصادية.

يعاني الرئيس المصري من أزمة سياسية حادة، تتمثل في كونه عجز عن خلق حزب سياسي يكون طوع أمره مثلما كان الحزب الوطني لسلفه مبارك، وبالتالي فهو يشعر بالتهديد في الانتخابات الرئاسية القادمة من أي مرشح، خصوصًا المرشحين من ذوي الخلفيات العسكرية كأحمد شفيق وسامي عنان. فالسيسي ليس له إنجاز اقتصادي كما أنه لم يحقق أي انتصار عسكري يُذكر، حتى في حربه المستمرة على الإرهاب في سيناء فإنه لم يستطع سوى احتواء الخطر الإرهابي دون القضاء عليه، ولذلك فإن وجود مرشح عسكري ضده يشكل خطرًا عليه، لاسيما لو كان هذا المرشح أحد المشاركين في حرب العاشر من رمضان-أكتوبر 1973م.

يُضاف إلى ذلك أن السيسي ورط مصر في التوقيع على اتفاقية 2015م الشهيرة باسم «اتفاقية المبادئ»، والتي قننت وضع سد النهضة وها هو السد على مشارف الاكتمال، ولذلك فإن ضربةً عسكريةً ضد السد يمكنها أن تعطي السيسي زخمًا وشعبية هو في أمس الحاجة إليها.

ويعاني الرئيس البشير من أزمة مشابهة، فالرجل الذي يتجاوز السبعين شهد السودان في عهده انهيارًا كبيرًا في كل شيء؛ انفصال جنوب السودان، وأزمة اقتصادية طاحنة، وشح في العملة الصعبة ليرتفع الدولار في مقابل العملة المحلية لأرقام قياسية تتجاوز الثلاثين جنيهًا، رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية رفعت عنه العقوبات الاقتصادية وقد كانت الأزمة مع مصر وتحرك مصر والإمارات نحو إرتريا سببًا كافيًا له لامتصاص الغضب الجماهيري باتجاه الاحتشاد على الحدود والتهديد الأمني.

السؤال الذي يطرحه مراقبون: هل سيتحول هذا التصعيد الإعلامي والدبلوماسي المتبادل بين الدولتين إلى تصعيد عسكري؟ وما هي سيناريوهات التهدئة والحرب بين الدولتين؟

السيناريو الأول: التهدئة

وهذا السناريو هو أضعف السناريوهات، لكنه ليس مستحيلًا. فالقاهرة والخرطوم سيقرران التعاون مع بعضهما بوساطة خليجية يرجح أنها سعودية، وهناك شواهد على هذا السيناريو حيث يشير بعض الصحفيين إليه، متحدثين عن زيارة سرية لمسؤولين في الاستخبارات السعودية مكوكية بين القاهرة والخرطوم.

السعودية لا تريد خسارة الجيش السوداني في اليمن لأن التصعيد العسكري سيجبر البشير على سحب قواته من اليمن لمواجهة الخطر الداخلي. وقد بدى ذلك واضحًا بعدم مسايرة السعودية للإمارات ومصر في موضوع سواكن، فرغم أن الإعلام السعودي شعر بالصدمة في البداية لكنه اختار حسابات مصالح المملكة في اليمن وقرر الهدوء والتروي.

اقرأ أيضًا:لماذا تحتاج مصر إلى علاقات جيدة مع السودان؟

السيناريو الثاني: حرب الوكالة

وهذا السيناريو مرجح في ظل احتضان القاهرة لحركات التمرد السودانية، مع التذكير بالمدرعات المصرية التي ضُبطت في دارفور مع المتمردين وحديث الإعلام المصري عن تهريب السودان لأسلحة للمجموعات المعارضة في مصر ووجود قضية عند النائب العام المصري تحوي أوراقها وجود معسكرات تدريب في السودان لحركة حسم، وهو ما نفته الحكومة السودانية عبر سفارتها في القاهرة واعتبرته الصحافة السودانية وقتها خطة مصرية لاستمرار الربط بين السودان والإرهاب.

السيناريو الثالث: الحرب المباشرة

وهذا السيناريو ليس مرجحًا لكنه ليس مستحيلًا، فقد خرج اللواء «سمير فرج» مدير الحملة الانتخابية للسيسي سابقًا على قناة تلفزيونية قبل فترة متحدثًا عن استهداف سواكن لو ثبت تهديدها للأمن القومي المصري.

وظهر نفس اللواء على قناة أخرى ليردد نفس الكلام ما يعني أن ما يقوله ليس اجتهادًا شخصيًا منه، وإنما تكليف من جهة ما ليمهد للرأي العام المصري اتخاذ أي قرار عسكري قادم.

لكن أخطر تصريح على الإطلاق ما قاله قائد قوات الصاعقة المصرية السابق «مصطفى كامل» الذي تحدث لتلفزيون الغد العربي «الإماراتي» أنه يجب طرد الكتيبة السودانية من حلايب وهذا يعني مواجهات عسكرية و قتالاً مباشرًا. وقد زار رئيس الأركان السوداني إثيوبيا قبل أيام ليتحاور مع رئيس الوزراء الإثيوبي عن كيفية مواجهة الأخطار الإقليمية.

السيناريو الرابع: القطيعة

وهذا السيناريو مستحيل نظريًا، لكنه ليس كذلك عمليًا خصوصًا لو قبلت إثيوبيا بعرض مصر استبعاد السودان من مفاوضات سد النهضة وموافقة أو رفض إثيوبيا على العرض المصري ليست محسومة تمامًا حتى الآن. فالإمارات ربما تؤثر على إثيوبيا لتوافق على المقترح المصري وبالتالي ستكون مصر قد استغنت جزئيًا عن العلاقات مع السودان ولم تعد في حاجة لاستخدام قواتها العسكرية في إرتريا. لكن هل توافق إثيوبيا على خروج السودان المؤيد لسد النهضة من المفاوضات؟