«Elle»: السينما النفسية في ثوب حداثي
(تنويه: هذه المراجعة تجنبت حرق أحداث الفيلم وحرصت على الاكتفاء بالحد الأدنى من الأحداث التي ظهرت في الإعلان التشويقي للفيلم)
في المشهد الختامي لفيلم «Psycho» للمخرج الكبير «ألفريد هيتشكوك»، وبعد القبض على القاتل المتقمص لشخصية والدته. يقوم الطبيب النفسي بتفسير حالة المريض ودوافعه للقتل، بالتفصيل للمحققين. على الرغم من ثورية الفيلم آنذاك، سواء في السرد أو في الصورة، ولكن جاء هذا المشهد معبرا عن (عقل) صناع الأفلام في تلك الحقبة، حتى لو كان الصانع هو أبو المدرسة النفسية ذاته. فما زالت الرغبة في تقديم إجابة شافية للمشاهد لإنهاء الفيلم، وتفسير كل ما حدث ومسبباته. وهذا يظهر حتى في تنفيذ المشهد على المستوى التقني، فبرغم أن الطبيب النفسي يشرح الحالة للمحققين وأهالي الضحايا، لكنه يأخذ الكادر وحيداً. ليرتبط المُشاهد مع الطبيب النفسي فقط. وبالتالي يكون غرض المشهد الحقيقي هو توجيه تفسير للمشاهدين، وليس للمحققين. التفسير غير مهم في تطور الأحداث أو في نهايتها، ولكنه مهم للمشاهد ليفهم كل التفاصيل.
على العكس من ذلك في فيلم «Gone Girl» للمخرج «ديفيد فنشر»، سواء اعتبرت فنشر مخرجا فنيا عميقا أو تجاريا بحتا، لكنه في هذا الفيلم ترك للمشاهد الحق في تفسير الإجابة بنفسه. الفيلم الحداثي يتكون عادة من جزئأن. هما المُدرك والمتَخيَل. الُمدرك هو ما تظهره الشاشة (الأحداث ومسارها) والمتَخيَل هو ما لا يمكن توضيحه في الصورة ولكن يستطيع المشاهد معرفته. عبر هيشتكوك عن المتَخيَل في جملة نصية على لسان المحقق. ولكن فنشر لم يعبر عنها بشيء. فظل السؤال حائرا عن طبيعة العلاقة بين الزوجين. وهل ما زالت الزوجة الغاضبة تحبه؟ هل الانتقام يعني أنها لا تريد العودة له؟
يرتبط تطور السينما النفسية إلى حد كبير بكيفية التعامل مع المتخيَل. فالُمدرك هو مسار الأحداث في الواقع، أما المتخيل فهو ما وراء الواقع. وهو الإجابة على التساؤلات الأهم، وهو الذي يؤدي لمعرفة الشخصيات بشكل أوسع ودوافعهم، المدرك يعرض الفعل فقط، وأحيانا جزء من الفعل. فيلم «Elle» هو من أهم أفلام 2016، وربما من أهم أفلام القرن الحالي في التعامل مع المتخيل.
يبدأ الفيلم بشاشة سوداء وصوت صريخ وضرب. ثم يفتح الكادر على قطة تنظر لشيء ما. ويحدث قطع مونتاجي على ما تنظر إليه القطة. فنرى امرأة تُضرب وتُغتصب من رجل مقنع يرتدي الأسود. يفرغ الرجل شهوته ويخرج من المنزل. تقوم المرأة وتذهب لعملها لنعرف أنها مديرة ومطورة أستوديو لإنتاج ألعاب الفيديو. وليست مديرة عادية بل هي مديرة قوية الشخصية وغير محبوبة، وتهتم بالجانب الأدبي والنفسي دائما في الألعاب، وهذا على غير رغبة العاملين، وهي أم لابن متزوج من فتاة متسلطة وسليطة اللسان. لا تخبر ميشيل أي شخص بحادث الاغتصاب لفترة طويلة وتحاول التغلب منفردة على شعورها بعدم الأمان في منزلها.
المُدرك الأول هو أن «ميشيل لبلانس» تعرضت لاغتصاب وترفض إخبار الشرطة ولا تخبر أحدا لفترة بالحادث. وهنا يأتي دور تفسير المتَخيَل من قبل المشاهد. لأنه سيتعاطف مع ميشيل الضحية. ولكنه لن يجد الأجوبة الكافية في المُدرك عن سبب إخفائها للأمر، وسيميل تفسير المتخيَل للتعاطف مع ميشيل بحكم أنها مُغتصبة.
تنقلب أحداث الفيلم ويسلط الضوء فجأة على ميشيل المرأة التي ترغب في التحكم بكل شيء وكل شخص حولها. في طليقها الذي ما زال يحبها. وابنها الذي ترغب في التحكم في حياته ونزع سطوة زوجته. وزوج صديقتها الأقرب الذي يمارس الجنس معها. بالإضافة للعاملين في الشركة الكارهين لها.
الشيء الفريد في «Elle» أنه لا يكتفي بطرح أسئلة رئيسية في المُدرك ويترك للمشاهد حرية الإجابة طبقا لرؤيته للمتخيَل. ولكنه يشتت المشاهد في تفسير المتخيَل بطرح أسئلة متفرعة من كل سؤال رئيسي. عندها لن يجد المشاهد سوى إجابات متناقضة.
الفيلم لا يترك فرصة للمشاهد لطرح سياق من خياله للمتخيَل كما في فيلم Gone girl. فعلى الرغم من تعقيد سياق فيلم فنشر ،ولكن رؤية المشاهد للفيلم ستجعله يصل لسياق وأجوبة متناسقة لكل الأسئلة التي تركها المُدرك بلا إجابة. ولكن في «Elle» لم تترك الفرصة لوضع نسق وحيد. إنه يجعلك في دوامة من الأسئلة التي يصعب الوصول لنسق وحيد من خلالها. وسيظل السؤال الأكثر حيرة هو عن علاقتها ورؤيتها النفسية للمغتصب. صعوبة تفسير المَتخيَل أحد مظاهر سينما ما بعد الحداثة التي يتم استغلالها بالكثير من التجارية، ولكن لحسن الحظ لم يحدث هذا في «Elle».
يعتبر «Elle» أحد أهم النصوص السينمائية لهذا العام. بل لا نبالغ إذا قلنا إنه من أفضل النصوص النفسية في القرن الحالي. ختام الفيلم ينهي الُمدرك بتمكن شديد. فالخطوط الدرامية تم قفلها بانسيابية وعدم تسرع. على الرغم من أن مسار الأحداث مربك بكل تأكيد. وهناك الكثير من كتاب مثل هذه النوعية من الأفلام الذين وقعوا في فخ الارتباك في اختيار نهاية مناسبة وغير متسرعة، وذكرنا مثال في مراجعة «Nocturnal Animals» والذي ينتمي بطريقة أو بأخرى لنفس المدرسة. فقد تسرع «توم فورد» في النهاية، فبدا وكأن الفيلم انتهى في منتصف أحداثه.
ولكن على جانب المتخيَل ترك الفيلم الكثير من الأسئلة غير المجاب عنها. بل كنوع من التحدي ظل كتاب العمل، مع غلق كل خط درامي، يطرحون مزيدا من الأسئلة الصعبة لزيادة تشكيك المشاهد في نسق قناعته التي ما لبث الوصول إليها.
مخرج العمل «بول فيروهفن»، المقل في أعماله، وفق في أغلب تفاصيل الفيلم. بداية من اختياراته للمشاهد المصورة بكاميرا محمولة أو ثابتة حسب حالة ميشيل أو متطلبات الحدث. وباختياره للطاقم التمثيلي المتناغم. والسيطرة على نقل الخطوط الدرامية للمشاهد بدون تشتت. وصنع حالة من الأجواء المربكة والنفسية، سواء في الصورة أو الصوت. ونقل حالة الارتباك في عيون قطة ميشيل لتصبح القطة أحد أهم عناصر الفيلم.
بالتأكيد كان أكثر اختياراته الفنية توفيقا هو اختيار الممثلة «إيزابيل أوبير» لتأدية دور ميشيل. أوبير التي برعت في تجسيد المشاعر النفسية المتضاربة خصوصا في فيلمها الأشهر «the piano teacher» للمخرج «مايكيل هانكا» واستطاعت اقتناص أغلب جوائز التمثيل في المهرجانات السينمائية الأوربية، من بينها مهرجان «كان السينمائي». أوبير، التي بدونها كان سيفقد الفيلم الكثير من قوته، قدمت كل المشاعر بإتقان شديد وبسهولة شديدة. السهل الممتنع هو ما يوصف به أداؤها. قدرتها على خطف نظر المشاهد من الممثلين الآخرين الذين أدوا أدوارهم ببراعة أيضا.
يبدو أن أوبير مرشحة بقوة لنيل جائزة الأوسكار هذا العام. ربما لن يعيقها سوى منافسة «إيما ستون». حيث تميل الأكادمية عادة لإعطاء الجائزة للممثلات الشابات على حساب ممثلة كبيرة في فيلم غير أمريكي. كما حدث مع فيلم «Amour»، ففقدت فيه الممثلة «إيمانويلا ريفا» الجائزة لصالح «جينفير لورانس». على الرغم من أحقية الأولى بالجائزة بشهادة أغلب النقاد والجوائز السابقة للأوسكار.
موسم الجوائز السينمائية
فيلم «Elle»، الذي استطاع اقتناص جائزة جولدن جلوب كأفضل فيلم ناطق بغير الإنجليزية، علي الرغم من عدم وصول الفيلم للقائمة الطويلة لجائزة أوسكار كأفضل فيلم ناطق بغير الإنجليزية، والتي من المرجح أن تذهب للفيلم الألماني «Toni Erdmann»، ولكن هذا لن يقلل من مكانة الفيلم وتفرده، وأداء بطلته المميز.
سلسلة «موسم الجوائز السينمائية» نتتبع فيها أهم الأعمال السينمائية التي تتسابق على الجوائز الفنية المختلفة في موسم يمتد منذ ديسمبر/كانون الأول 2016، بإعلان ترشيحات جائزة «جولدن جلوب»، مرورًا بجائزة «البافتا»، وانتهاءً بإعلان الفائزين بجوائز أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة «الأوسكار» في نهاية فبراير/شباط 2017.
(يمكنكم متابعة جميع حلقات السلسلة من هنا)