إيلينا تشاوتشيسكو: وراء كل ديكتاتور امرأة
لا يُمكن استحضار تجربة الديكتاتور الروماني الأشهر تشاوتشيسكو إلا بصحبة صورة له وهو يقف جوار زوجته يلوّحان لجماهير عريضة محتشدة. فالرجل الذي حكم رومانيا بقبضة من حديد خلال الفترة من 1965م حتى 1989م لم يشأ أن يسيطر على الحكم وحده، وإنما اصطحب معه زوجته التي نالت من الصلاحيات ما استحقّت عليه أن تُوصف بأنها ثاني أقوى امرأة عرفتها أوروبا خلال فترة السبعينيات والثمانينيات بعد مارجريت ثاتشر.
عرفت البلاد الشيوعية أنماطًا مختلفة من زوجات حكّامها الديكتاتوريين مثل مارجوت هونيكر زوجة قائد ألمانيا الشرقية إريك هونيكر، وجيانغ تشينغ، زوجة ماو تسي تونغ، رئيس الحزب الشيوعي الصيني، ونخشميجي خوجة زوجة إنور خوجا، زعيم جمهورية ألبانيا الشعبية الاشتراكية إلا أن إيلينا وحدها مثلت استثناء لكل هؤلاء بسبب حالة التجييش غير المسبوقة التي أُقيمت لتلميع صورتها، بعض آثار تلك الحملة لا تزال باقية في رومانيا حتى الآن.
نشأتهما متشابهة إلى حدٍّ كبير، فلقد وُلدت وسط عائلة من الفلاحين والتجار الفقراء ولم تُكمل دراستها الثانوية، وعاشت فقرًا مدقعًا جعلها تعتنق الشيوعية معتبرة إياها الوسيلة المثلى لإنقاذ البلاد من أزماتها الاقتصادية المزمنة.
متّخذة من الشيوعية الرومانية «آنا بوكر» قدوة لها انخرطت في أنشطة التجمعات الشيوعية. وفي ربيع عام 1939م تعرفت على الناشط السياسي البازر نيكولاي تشاوتشيسكو في أحد الأندية الثقافية العمالية.
وقتها كان نجمًا ساطعًا في صفوف الاشتراكيين؛ فلم تتوقف السُلطات عن الزجِّ به في السجن منذ أن كان في الـ18 من عُمره. تشبّثت به إيلينا وتزوجا عام 1947م، وهو العام الذي شهد انفراجة في أحوال الشيوعيين داخل رومانيا عقب احتلال السوفييت للبلاد، وهو ما أفضى إلى سيطرة الحزب الشيوعي على الحُكم، وهو الحزب الذي تقلّد زوجها أغلب مناصبه البارزة بسُرعة الصاروخ حتى أصبح رئيسًا له عام 1956م.
تقول الباحثة آن ماري سوريسكو في أطروحتها «تلميع شخصية إيلينا تشاوتشيسكو»: مثّلت إيلينا ركنًا أساسيًا في سياسة التحرر الاقتصادي التي انتهجها زوجها، فلم يكن من الممكن حدوث هذا التحول من دون «امرأة أولى» تكون رمزًا لكل محاولات ترقية أوضاع النساء في المجتمع.
أول رفيقة أنثى
على الرغم من فرض تشاوتشيسكو سيطرته التامة على نفَس يخرج من صدر أي مواطن روماني بفضل أجهزته القمعية وحزبه الأوحد في البلاد وشبكة مخبريه المنتشرة في كل الربوع، فإنه أراد إحكام قبضته على الدولة أكثر وأكثر فنصّب امرأته نائبة أولى لرئيس مجلس الوزراء- قضت سنوات رئاسته الأولى في العمل سكرتيرة متواضعة المستوى في وزارة الخارجية- وابنه وزيرًا للشباب، ليُسيطر آل تشاوتشيسكو على كافة مفاصل الدولة.
وبحسب الباحثة السياسية ماري سوريسكو مارينكوفيتش، فإن إيلينا شعرت بالغيرة خلال زيارة قامت بها للصين، خلالها طالعت حجم النفوذ السياسي الكبير الذي تتمتع به زوجة الحاكم جيانغ تشينغ فقررت أن تقلّدها!
برعاية زوجها امتلكت إيلينا- فجأة- مسارًا سياسيًا متصاعدًا بقوة ألف صاروخ؛ عام 1971م انتُخبت عضوًا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وفي العام التالي أصبحت عضوًا في لجنته المركزية، وفي عام 1979م أصبحت رئيسة المجلس الوطني للعلوم والتكنولوجيا، وفي عام 1980م باتت النائبة الأولى من 3 نوّاب لتشاوتشيسكو.
هرعت أجهزة الدولة الإعلامية إلى تدشين حملة تلميع غير مسبوقة للزوجين. نفاق الزعيم هو أمر طبيعي في نظام قمعي شيوعي لم يكن غريبًا على الرومان أما توسيع رقعة «التطبيل» لتشمل زوجته أيضًا فكان هذا هو الجنون بحقّ.
فبعد أن خُلعت ألقاب «العبقري» و«المنارة» و«القائد المحبوب» و«مهندس المصير القومي» على تشاوتشيسكو، جاء الدور على زوجته التي جرى تقديمها بصفة «الطبيبة الأكاديمية» و«العالمة المشهورة حول العالم» و«أم الأمة»، وبصحبة زوجها انتشرت صورها في كل الميادين وعلى كل شاشات التلفزيون التي تحتكر برامجه الدولة.
لم يتوقف برنامج تلفزيوني أو صحيفة محلية عن الإشادة ليلاً ونهارًا بالعبقرية العلمية الفذة التي تمتلكها إيلينا، ووصفها بأنها «أول رفيقة أنثى في البلاد».
نبتت هذه العبقرية فجأة عقب تقلّد زوجها زمام السُلطة، وعلى الرغم من عدم تلقيها أي تعليم جامعي على الإطلاق ومن أن أقصى علاقة لها بالكيمياء كانت العمل «باحثة»- وصفها رؤساؤها بانعدام المهارة التام- في معهد وطني لتطوير البتروكيماويات واللدائن، هو ما عوّضته لاحقًا عقب حصولها على الدكتوراه «بامتياز» من جامعة رومانية وتعيينها مديرة للمعهد!
كذلك تتالَى نشر أوراق علمية تحمل اسمها في الدوريات المعرفية الكبرى في العالم، تبيّن لاحقًا أن العلماء الرومان كانوا يُجبرون على كتابة هذه الأطروحات ونشرها بِاسم السيدة الأولى، على الرغم من أنها كانت لا تمتلك معلومات طالب ثانوي عامة عن الكيمياء.
ليس هذا وحسب، وإنما مُورست حملة دبلوماسية رومانية واسعة النطاق لانتزاع عشرات الألقاب الفخرية لها من هيئات علمية مثل الجمعية الملكية للكيمياء في لندن، بخلاف طبعًا دكتوراة فخرية مُنحت لها في رومانيا وجوائز أخرى تلقتها من مؤسسات أكاديمية في فرنسا والولايات المتحدة.
وبين ليلةٍ وضحاها امتلكت زوجة الزعيم حشدًا هائلاً من المناصب، هي: رئيسة لجنة الشؤون الاقتصادية، واللجنة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا، واللجنة الوطنية «علماء من أجل السلام»، واللجنة الوطنية لمراقبة الجودة، والمجلس الوطني للعلوم والتعليم، واللجنة المركزية لتصنيع السلع، ونائب رئيس المجلس الوطني للعمال، ونائب رئيس المجلس الأعلى للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، ونائب رئيس الوزراء في الحكومة الرومانية.
كما احتُفل بعيد ميلادها باعتبارها «مناسبة قومية» في رومانيا اهتمت أجهزة الدولة بالاحتفاء بشكل مبالغ به، ولأجل هذا الحدث جرى التلاعب في تاريخ ميلادها من 1916 إلى 1919 حتى لا تكون أكبر سنًّا من زوجها المولود عام 1918م. وفي 7 يناير 1979م قُدِّمت احتفالات عيد ميلاد إيلينا باعتبارها المرأة التي تمتلك «40 عامًا من النضال الثوري»، كما نشرت لها الصحف على صفحتها الأولى صورتها محاطة بالأطفال والزهور مكتوب جوارها قصائد شعر مادحة.
رغم كل هذه الجهود لم تمتلك إيلينا أي شعبية بين الرومانيين، فلم تكن جميلة مثل إيفا براون ولا ذات كفاءة علمية حقيقية مثل إليانور روزفلت، فإن كان زوجها امتلك تاريخًا نضاليًا معقولاً جعل تقلّده منصب الرئاسة معقولاً من ناحية المنطق، فإن إيلينا التي انخرط في التنظيمات الشيوعية منذ الثلاثينات لم تحرز أي إنجازٍ لافت سياسي أو علمي إلا بعد صعود زوجها فاعتُبرت «دخيلة» تمامًا على الدولة الرومانية.
وأيضًا، خلال ظهورها الدائم في المناسبات الرسمية وغير الرسمية بصحبة زوجها لم تتوقف إيلينا عن استفزاز الرومانيين عبر ارتداء الملابس الفاخرة والمعاطف والجواهر الثمينة في الوقت الذي لا يكفّ فيه زوجها من الرومانيين التضحية وربط الأحزمة على البطون لتسديد ديون البلاد.
شدّوا كل الأحزمة
فور توليه السُلطة تمكن تشاوتشيسكو من إقامة علاقات ودية استثنائية مع الولايات المتحدة وغرب أوروبا، مثّلت تمردًا نادرًا على طوق العُزلة الذي فرضه السوفييت على دول شرق أوروبا.
أمّنت هذه العلاقات الودّية تدفق القروض على الاقتصاد الروماني. استخدم النظام الديكتاتوري هذه الأموال أسوأ استغلال وفشل في إحداث أي نهضة اقتصادية حقيقة بها ما أوقع البلاد في أزمة مخيفة بداية من الثمانينيات بسبب تراكم القروض عليها حتى جاوزت الـ20 مليار دولار، وهو رقم هائل بمقاييس ذلك الزمن.
وهو ما أجبر تشاوتشيسكو على اتخاذ تدابير تقشفية مرعبة خصصت كميات محددة من الكهرباء والمياه والغاز والبضائع للمواطنين، وبات مشهد اصطفاف الطوابير أمام المخابز والمتاجر من علامات الحياة في العاصمة الرومانية.
تزامن كل هذا التقشف مع رغبة جنونية في هدم بوخارست وإعادة بنائها من جديد وفقًا لقناعات تشاوتشيسكو الاشتراكية! وذلك عبر إزالة أي مبنى يحمل صفة معمارية مميزة مثل الكنائس والمباني التاريخية وبناء عمارات ضخمة متشابهة الوجهات بدلاً منها، وفي المنتصف من كل هذا يقبع رمز الدولة؛ ما سماه «قصر الشعب».
بينما كان الرومان يتضوّرون جوعًا ويموتون من البرد بسبب خططه التقشفية استثمر ديكتاتور رومانيا 4 مليارات دولار لبناء مبنى هائل المساحة من 20 طابقًا شغلت 84 فدانًا احتوت على 1100 غرفة، وُصف وقتها بأنه ثاني أكبر مبنى إداري عرفه العالم بعد البنتاجون.
فليسقط هو وزوجته
في منتصف ديسمبر اندلعت احتجاجات صغيرة في بلدة تيميشوارا منددة بسياسات الديكتاتور الروماني، تعامل معها الأمن الروماني بوحشة وأسقطوا عشرات القتلى من المحتجين.
في خلال أيامٍ وجيزة، اتسع نطاق الاحتجاج ليشمل رومانيا بأسرها، سريعًا تصاعدت الاحتجاجات، ونمت كرة اللهب بأكبر من المتوقع خلال أيامٍ معدودة حتى اجتاحت بوخارست نفسها التي لم يبقَ فيها موضع لا يلعن تشاوتشيسكو وزوجته.
وبالطبع أخذت إيلينا نصيبها من «الحُب=الكره» جانبًا، فجلدها الرومان بهتافاتهم المشينة بحقّها والتي تسخر منها ومن شهاداتها العلمية الوهمية، وصُنعت على شرفها عشرات النكت التي جلدتْ كل سنتيمتر في ادعاءاتها التي لم تتوقف حتى لحظة وفاتها، كما مُنحت شعبيًا لقب «لينا» تقليلاً منها.
رغم كل هذا الصخب، فإن تشاوتشيسكو لم يكن ليقلق وهو آمن وراء أسواره الحصينة في قصر الشعب إلا بعدما علم أن الجيش قرّر الانحياز لمطالب المتظاهرين، هنا بادر بالهرب فورًا، فامتطى طائرة هليكوبتر مع زوجته وسعى للهرب بها إلى خارج البلاد لكن الجيش أوقفها وقبض على الزوجين الأكثر شهرة في أوروبا وحبسهما في زنزانة مظلمة بعد وعدٍ كاذب بالإفراج عنهما بعدما تهدأ الأمور.
المفارقة الكبرى في تلك اللحظة، أنه لم يتيسر لتشاوتشيسكو الخطابة من خلال «قصر الشعب» وممارسة هوايته المفضلة في حشر مصطلحاته السياسية المعقدة في عقول شعبه عبر الشرفات المُطلة على الميادين، فعندما اندلعت الاحتجاجات ضده لم يكن قد اكتمل إلا 70% من القصر.
اقتلوني معه
قُضي الأمر قبل أن يبتُّ فيه أي قاضٍ. اتّخذ الجيش وأعضاء النظام الشيوعي قرارهم بالتخلّص من «الثنائي المكروه» لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه وإبقاء الشيوعيين على السلطة عبر التضحية برأس الزوجين.
بعد يومين من الاعتقال الذي بدأ في 22 ديسمبر، أُجريت محاكمة عبثية لم تستمر أكثر من ساعة خاضها الزوجان وهما في أسوأ حالة ممكنة، بحسبما روى أحد الجنود الذين حضروا المحاكمة أن تشاوتشيسكو كان «شاحبًا كالورقة، شعره مهدّل، وذقنه غير حليقة».
كان لافتًا أن يتطرّق القاضي إلى شهادات إيلينا «المضروبة» بعدما سألها مباشرة «من كتب لكِ هذه الأوراق العلمية؟»، لكنها أجابت بتبجّح «أنا رئيس أكاديمية العلوم، لا يُمكنك أن تتحدّث إليّ بهذه الطريقة».
ومن واقع مضبطة جلسة المحكمة، أنهت إيلينا فعاليتها بقولها «لقد عملنا بجد من أجل الناس طوال حياتنا»!
وبعد ساعة كاملة من الجدال المتواصل، حكم عليهما جيكا بوبا كبير القضاة العسكريين بالإعدام عليهما، في 25 ديسمبر ذكرى عيد الميلاد.
استُدعيت فرقة مظلات لتنفيذ هذا الأمر الذي سيُغيّر تاريخ رومانيا وربما أوروبا الشرقية بأسرها. ما إن رأت إيلينا الجنود حتى صاحت بهم «لا تسيئوا إلينا». لم يستمع لها أحد فأيقنت أخيرًا أنها «راحت عليها» وأن أيام انحناء رومانيا لها قد ولّت، فتضرّعت إلى الجنود أن تُقتل مع زوجها ولا تراه يُعدم أمام عينيها، وهذه المرة كان لها ما أرادت.
أمام جدارٍ كالح الألوان وقف تشاوتشيسكو يغنّي نشيدًا شيوعيًا قديمًا وزوجته تنظر له في خوف تتأمل ملامحه للمرة الأخيرة. ثوانٍ عسيرة انتهت بدفقة من الرصاص انطلقت من الرشاشات التي اشتراها ديكتاتور رومانيا بنفسه لحمايته من شعبه.
سقط جسدا الزوجان تشاوتشيسكو مضرجين بدمائهما، وانتهى كل شيء في تمام الساعة 2:50 ظهرًا!
علماء رومان: أزيلوا اسمها من أبحاثنا
بعد 20 عامًا من سقوط الشيوعية، لا تزال إيلينا واحدة من أكثر الشخصيات المكروهة في تاريخ رومانيا، وبحسب استطلاع رأي أُقيم، مؤخرًا، أكد أن 87% من الرومان ينظرون لها بشكلٍ سلبي، في الوقت الذي كانت نسبة زوجها 45% فقط!
في ديسمبر من العام الماضي، دعا علماء رومانيون إلى إزالة اسم إيلينا من على 20 بحثًا وكتابًا علميًّا نشرتهما احتيالاً بِاسمها، هي الأخيرة المتبقية من إرثها الدموي في رومانيا.
ترأّس تلك الحملة الدكتور البروفيسور ميرسيا تيودوريسكو أستاذ علوم البوليمرات في بوخارست، والذي أُجبر على تأليف الأوراق البحثية لإيلينا بين عامي 1984م و1989م.
اعترف تيودوريسكو بأنه تعرّض لضغوطٍ هائلة من الحزب الشيوعي لوضع اسمها على أبحاثه. يقول: «أنا متأكد أنها لم تكن تقرأ هذه الأبحاث، لأنها لو قرأتها لم تكن لتفهمها».