الصدمات الكهربية: علاج طبي أم تعذيب كما في الدراما؟
هكذا كان يصرخ المريض في هيستيريا ورعب حقيقيّيْن، بينما يُمسك بتلابيبه بقسوة شديدة عملاقان يرتديان أردية بيضاء. يحاول المريض المقاومة عبثًا، بينما يستمر العملاقان في جره جرًّا نحو إحدى الغرف في آخر ممر طويل.
كان المريض يرتدي زيًا غريبا بالمقلوب، وليس له أكمام، ويبدو هذا مقصودًا ليثبت ذراعيْه فلا يستطيع المقاومة بفعالية. ما إن دخل الرجلان بالمريض من باب الغرفة المكتوب على لوحتها (غرفة التحكم الرئيسية) حتى حملاه حملًا، ووضعاه على طاولة تحيط بها الأسلاك الكهربائية من كل جانب، وثبّتاه فوقها بأربطة محكمة، بينما صرخات المريض المسكين لا تزال تدوي في الأرجاء.
بعد دقائق يدخل الغرفة رجل غريب الأطوار، ثائر الشعر، يرتدي بالطو أبيض رثًّا، ويحمل عدسة نظارة فردية يضعها بين ثانية وأخرى على عينه في عصبية واضحة. اتجه الرجل – يبدو أنه هو الطبيب النفسي المسئول – نحو جهاز تخرج منه غابة الأسلاك المتصلة برأس المريض. وأخذ يعطي تعليمات للفني المسئول، والذي أخذ يعبث ببعض الأزرار، ثم فجأة يقوم بالضغط على زر أحمر كبير في منتصف لوحة التحكم، فيبدأ المريض في الصراخ في ألم شديد، بينما تنهمك كل عضلات جسمه في تشنجات شديدة لنصف دقيقة مرت كأنها دهر. ثم يضغط الرجل على الزر الأحمر مرة أخرى، فيسكن المريض في غيبوبة، فاقدًا للوعي.
من الداء دواء
للأسف فإن المشهد المؤلم السابق هو أول ما يتبادر في ذهن الكثيرين منا عندما يُذكر أمامهم العلاج بالصدمات الكهربية للمرضى النفسيين، بل لعل جزءًا ليس بالصغير من الصورة الذهنية السلبية عن الطب النفسي وأطبائه ومرضاه، عائد إلى رواج مثل هذه الخزعبلات المأساوية.
قد يكون المشهد السابق المفعم بالمبالغات الدرامية، ناقلًا للحقيقة جزئيًا منذ عشرات السنين مع بدء تطبيق العلاج بالكهرباء، حيث لم تكن الدراسات ولا الإمكانيات ولا الخبرات المتراكمة بالوضع الحالي، فكان أحيانًا ما يستخدم جرعات زائدة من الكهرباء تسبب تلفًا بالمخ أو حروقًا، أو لم يكن التخدير والمسكنات المستخدمة بالكفاءة اللازمة لتجنيب المريض الألم … إلخ. لكن الآن اختلف الوضع تمامًا. وكذلك فليس الأطباء في مجملهم – وفي القلب منهم الأطباء النفسيون – أشخاصًا غريبي الأطوار، ساديين يتلذذون بتعذيب المرضى، أو يعاقبونهم بالكهرباء لأنهم مزعجون أو معارضون … إلخ.
ليست الكهرباء أول – ولن تكون آخر – الطاقات الخطيرة التي يمكن توظيفها كعلاج. وليس استخدامُها كعلاج مباشر حصريًا للطب النفسي، فهناك الصدمات الكهربية الشهيرة التي تعيد انتظام ضربات القلب من الرجفانات الخطيرة، وهناك استخدامات متعددة للكهرباء في طب العلاج الطبيعي لتنشيط العضلات والأعصاب … إلخ. وكذلك لن تكون آخر ضحية للضرورات الدرامية، والمعلومات السطحية، والإشاعات، والمبالغات، والخوف من المجهول.
ماذا؟ ولماذا؟
العلاج بالصدمات الكهربية هو تعريض المخ لجرعات صغيرة من الكهرباء، لكنها كافية لإحداث تشنجات بالجسم (فمراكز التحكم الرئيسة في الحركة تقع في المخ)، وذلك لعلاج بعض الحالات النفسية المستعصية.
على عكس ما قد يتصور كثيرون، فهو من أكثر العلاجات فعاليةً وأمنًا في الطب النفسي. لكن لا يفهم أحدٌ خطأ أنه قد يُغنِي في كل الحالات عن المسارات العلاجية الدوائية والسلوكية الطويلة جدًا، والتي قد تفشل لدى بعض المرضى. إذ له استخدامات محددة في بعض الحالات النفسية الخطيرة غير المستجيبة للعلاجات التقليدية، أو التي لا يمكن فيها استخدام العلاجات التقليدية:
1. الاكتئاب الخَطِرْ على الحياة: كالمصحوب بأفكار انتحارية، أو محاولات فعلية للانتحار، أو الذي يسبب الامتناع التام عن الطعام والشراب لأيام، أو المصحوب بالذهان النفسي والانفصال التام عن الواقع.
2. الاكتئاب الشديد المستعصي المقاوم لكل العلاجات الدوائية والسلوكية.
3. الاكتئاب الشديد أثناء الحمل: لخطورة الكثير من الأدوية على سلامة الجنين وتكوينه.
4. الهياج العصبي الشديد المستعصي على العلاجات الدوائية.
5. الهوس الشديد mania المستعصي. والهوس غالبًا ما يكوِّن مع الاكتئاب ما يسمى بالاضطراب ثنائي القطبية، والذي تتبدل فيه حالات المريض بين الاكتئاب، وبين نوبات الهوس التي تمتاز بفرط الحركة والنشاط والهياج والجنسانية، وتسارع الأفكار والكلام.
6. التخشب الشديد catatonia أو الجامود: الذي يحدث أحيانًا مع حالات السكيزوفرينيا، حيث يثبت المريض على وضع معين لساعات، لا يبدو فيها تأثره حركيًا بأية مؤثرات خارجية، رغم كونه متيقظًا.
7. المرضى الذين لا يتحملون الآثار الجانبية الشديدة لبعض العلاجات الدوائية النفسية.
كيف؟
يتم إجراء هذا العلاج تحت تخدير كلي للمريض، ومتابعة جيدة لعلاماته الحيوية كالضغط والنبض ومعدلات التنفس … إلخ. يتم كذلك إعطاؤه دواءً باسطًا للعضلات، وذلك لتقليل حدة التشنجات. توصَّل الأقطاب الكهربائية بفروة الرأس، ويتم من خلالها تمرير تيار كهربي مستمر محدود. يصحب مرور الكهرباء ارتجافات بسيطة في الأطراف والرأس (وليس تشنجات كلية كما يُتصَوَّر خطأً، نتيجة الأدوية الباسطة للعضلات). يفيق المريض بعد دقائق، لكنه لا يتذكر شيئًا مما حدث. وقد يحدث تشوُّش ذهني بعد الإفاقة، لكنه يزول سريعًا. وغالبًا ما تتكرر الجلسات 3 مرات أسبوعيًا، لمدة تتراوح بين أسبوعين إلى 4 أسابيع، حسب كل حالة.
شاهد هذا الفيديو لجلسة علاج بالصدمات الكهربية لمريض طلب تصويره أثناء الجلسة، في حضور بعض أقاربه، وذلك لطمأنتهم!
و الفريق المسئول عن إعطاء هذا العلاج للمريض لابد أن يضم طاقمًا من التمريض المؤهل، وطبيب أمراض نفسية، وطبيب تخدير، وطاقمًا للتدخل الفوري من أجل الإنعاش القلبي الرئوي في حالة حدوث توقف في عضلة القلب.
أثبتت جلسات العلاج بالصدمات الكهربية كفاءة في الأغراض التي تستخدم من أجلها. فقد أظهرت دراسة بريطانية عام 2012-2013 أجريت في 78 مركزًا طبيًا نفسيًا في إنجلترا وويلز، وشملت حوالي 1800 مريض، أنه قد حدث تحسن ملحوظ أو جزئي في 1700 منهم، بينما ساءت حالة 28 فقط. ورغم هذه الفعالية، فما زالت الكثير من جوانب عمل هذا العلاج مجهولة، جُل ما نعرفه أن التيار الكهربائي يعيد تعديل بنية المخ الكيميائية، وموصلاته العصبية، فيساعد في السيطرة على الأعراض النفسية المتفاقمة.
المضاعفات المتوقعة
أشهرها، وأكثرها تأريقًا للمرضى هو فقدان الذاكرة المؤقت، والذي إن كان يزول خلال دقائق أو ساعات قليلة في معظم المرضى، فقد يستمر لمدد أطول في قلة منهم. قد يفقد المريض مؤقتًا ذاكرة أحداث الأيام أو الأسابيع السابقة للجلسات، وقد يفقد البعض أحداث شهور أو أعوام سابقة. والأدهى من ذلك أن بعض المرضى قد يفقد لمدة ليست بالبسيطة قدرته على تخزين الذكريات الجديدة، أو قد يفقد البعض مهارات وقدرات هامة سبق لهم تعلمها، مما قد يؤثر كثيرًا على عودة هؤلاء لممارسة حياتهم، وأعمالهم المعتادة.
ومن الآثار الجانبية المؤرقة كذلك، حالة التشوش الذهني وعدم التركيز، وعجز المريض عن الإحساس بالزمان أو المكان أو حتى نفسه. قد يستمر هذا لدقائق أو لساعات بعد الجلسة، خاصة لدى كبار السن، وقد يصل في حالات نادرة لأيام.
كذلك قد يعاني بعض المرضى من أعراض جسمانية بعد الإفاقة، كالإجهاد الشديد، وألم العضلات، والميل للقيء، والشعور بالغثيان، وفقدان الشهية. وهناك بالطبع المضاعفات العامة التي قد تحدث مع التخدير الكلي، والتي تختلف حسب المادة المستخدمة في التخدير، وكميتها، واستجابة الجسم لها.
ونتيجة المضاعفات السابقة، يُنصح المريض بالآتي:
1. ألا يقضي الـ 24 ساعة الأولى بعد الجلسة وحيدًا، وبالأخص أن يصحبه أحدٌ ما أثناء المشي خارج المنزل.
2. عدم قيادة السيارة طوال فترة كورس العلاج.
3. عدم التوقيع على وثائق هامة، أو اتخاذ قرارات جوهرية في الـ 24 ساعة الأولى بعد الجلسة.
4. عدم تناول الكحوليات، خاصة في اليوم الأول بعد الجلسة.
إذن، فبعيدًا عن الدراما ومبالغاتها، يمثل العلاج بالصدمات الكهربية بالمعطيات الحديثة ركنًا هامًا من الطب النفسي. ورغم مضاعفاتٍ ليست بالقليلة، فإن كفة فوائده ترجح كثيرًا في الحالات الأكثر استعصاءً في هذا الفرع الحيوي من الطب، وقد يساهم في إخراج الآلاف إلى حياتهم من زوايا سجن النفس.