مرضانا المسنون: قصص الحياة الذليلة والموت المخيف
إهداء إلى الحاجة فاطمة والحاج أحمد وملايين من أمثالِهما ….
(1)
قصة طويلة حزينة
هبَّ الطبيب الشاب من مقعده «الوثير» في تثاقل وتبرم، إذ لم يكَدْ يغفو ثلاثين دقيقة حتى استدعته ممرضة الاستقبال ليقوم بالكشف على الحالة الجديدة ….. «أي حالة تلك التي ألقت بها الأقدار في السادسة صباحًا في هذه الليلة المطيرة ؟» هكذا حدث نفسه وهو يقطع الطرقة المؤدية للاستقبال في عجلة، ولسانه وعقله يلهجان بالدعاء أن تكون حالة بسيطة يستطيع التخلص منها في لمح البصر كي يستطيع استكمال غفوته الموؤدة في مهدها.
لكنه ما إن دلف من باب غرفة الاستقبال حتى اعتراه شعور بالضيق لم يستطع أن يخفيَه. فالمريض الذي أيقظه من نومتِهِ العزيزة ليس سوى الصديق الدائم لمكتب الكشف عم أحمد. لا يحلو لعم أحمد ذي السبعين خريفًا الحضور للاستقبال إلا مع تباشير الصباح الأولى، ودائما ما يكون وحيدًا فريدًا شريدًا، وليس على لسانه إلا جملة واحدة «تعبان يا دكتور». وأي محاولة لتحليل هذا التعب غير مجدية، فرسم قلبه لا يدل على حدوث كارثة عاجلة ما، وكافة تحاليله – ومعظمها تبرعات من الأطباء – جيدة جدا، هو فقط يعاني من أعراض الشيخوخية وقصور مزمن في شرايين القلب التاجية يحتاج لعلاج دوائي.
وكالعادة يتم عمل رسم قلب جديد، وقياس الضغط والسكر، ويقوم الطبيب بطمأنته أن قلبه «زي الفل» وأن «كله تمام». وبعد ربع ساعة من محاولة إقناعه المعتادة بما سبق، وعتابه على قدومه وحيدا في هذا الوقت والطقس الشديدين، لا يجد عم أحمد له مفرًا، فتدمع عيناه، ويبدأ شكواه المكررة «ولادي سايبيني، وعايش لوحدي يا دكتور بين 4 حيطان، وخايف أموت وماحدش يدرى بيا»، يتخيل الشاب نفسه بعد أربعين عامًا في مكان عم أحمد، فيدعو بحنقٍ شديد لا يستطيع إخفاءه على أولاد عم أحمد المجرمين، ثم يعاتبه على السيجارة التي تبرز من جيب قميصه المهلهل، فيرد عم أحمد رده المعتاد «هو أنا عندي صاحب غيرها يا دكتور». يعطيه الطبيب تكلفة التاكسي ليعود إلى منزله، ويحضرله عينات من العلاج يوصيه بأخذها باستمرار، وينصحه بالتوقف عن التدخين كثيره وقليله.
ينصرف عم أحمد بعد تردد شديد معتاد. ويعود الطبيب إلى غرفته محمَّلًا بأطنانٍ من الأسى والضيق وهو يتمتم بدعاءٍ إلى الله أن يقيه شر العجز والمرض والخذلان والوحدة.
(2)
في بلاد كساها البؤس والجهل وأمراض النفوس، واعترت شبابها كافة أنواع ومراتب الاكتئاب والإحباط. ويُنْفقُ جُلُ أصحائها لبَّ العمر الثمين لمحاولة – قد تنجح وقد لا تنجح – للحفاظ على الحد الأدنى من المعيشة الإنسانية الكريمة، وتعاني من فشل شبه تام في منظومتها – كلمة منظومة من باب السخرية – الصحية المريضة، ومن تشوهِ جذري في الوعي الصحي لدى أغلب أبنائها، ولا تصلح أغلب مشافيها العامة لتكون حظائرَ للبهائم. يكون الحديث عن حال مرضاها كبار السن مزيجًا من تعذيب الذات والآخرين. وخوضًا في مستنقع من معصور خام الاكتئاب المركز.
بالطبع لا يسري هذا على الأقلية السعيدة التي نجحت – في هذه البيئة المريضة – في الإحسان في تربية أبناء وأحفاد يمتلكون الحد الأدنى من الإنسانية ليرعوا والدًا شيخًا هدَّهُ المرض. أو من نجح في حياته المادية في شبابه ووفَّر لنفسه مخزونًا جيدًا من المال يمكن إنفاقُهُ في المستشفيات الاستثمارية فلكية التكلفة. أو من عملوا – أو أبناؤهم – في جهات سيادية توفر لهم تأمينًا صحيًا سخيًا يغنيهم عن تسول الرعاية الصحية الحكومية البائسة، أو الاستدانة لدخول المشافي الخاصة.
الأمر جد خطير. ومجتمعاتنا المتناقضة المنافقة لا تفعل شيئًا سوى ذر الرماد في العيون، والتظاهر بأنه لا مشكلة على الإطلاق، أو أن المشاكل هي الاستثناء، وأن الخير هو الأصل والقاعدة.
أن تكون طبيبًا في هذه الأجواء، فأنت شاهدُ عيانٍ يومي على الكثير من النماذج المأساوية التي تخص أهالينا كبار السن. خاصة لو ابتلتك الأقدار بالعمل في مشفًى حكومي كثيف الحالات. البؤس هنا يمشي على قدمين، والذل يقبع في كل الأركان، وإبليس يكتفي أحيانا بدور المتفرج، فبعض تلامذته من شياطين الإنس قد تفوقوا على أستاذهم!
(3)
قصة قصيرة حزينة أخرى
تعجب طبيب الطوارئ الشاب، الجديد بإحدى المشافي التابعة لجهة سيادية سخية الإنفاق، من كم الحالات التي توافدت للكشف بالاستقبال في اليومين الأخيرين من شهر رمضان، فالمعتاد في رمضان هو النقص النسبي في التردد على المستشفى إلا في الضرورة القصوى، لحرص معظم الناس على قضاء الشهر الكريم في منازلهم وسط أهاليهم. وما أثار استغرابه هو كم الحالات المزمنة من كبار السن كمرضى جلطات المخ والتليف الكبدي المزمن …إلخ، والتي يحاول أهلهم في الاستقبال إقناع الطبيب بأية طريقة بأن والدهم/والدتهم مريض للغاية ويحتاج إلى الحجز بالمستشفى لعدة أيام لحين استقرار الحالة. وبالكشف على معظم الحالات تبين له ألا جديد تحت الشمس، ولا يوجد مضاعفات حادة تستدعي الحجز، فقط الاهتمام المعتاد والعلاجات العادية في المنزل هو المطلوب. ولاحظ أنه يُجَنُّ جنون الكثيرين من أهالي الحالات عندما ينقل لهم ما يعتقد أنه بشارة بأن مريضهم ليس في خطر ولا يحتاج للمستشفى! حتى وصل ببعضهم أن توجهوا إلى مكتب مدير المستشفى ليشكوا له طبيب الاستقبال «المجرم» والكسول الذي يريد لهم أن يعودوا بوالدهم المريض للغاية إلى المنزل دون تلقي العلاج اللازم بالمستشفى! وكان لإدارة المستشفى سياسة غريبة لا تمت للطب بصلة في غالب الأحيان، تقتضي عدم الاحتكاك مطلقًا بأقارب الحالات، وتنفيذ ما يريدون مهما كان، وأن الأصل في كل الحالات التي ترِد إلى الاستقبال هو الحجز خاصة إذا كان أقاربها من مثيري المشاكل!
نقل تعجبه وشكواه لزميله الأقدم منه، فضحك ضحكة الفاهم لما يدور وقال له: «إنت بجد مش واخد بالك إن العيد بكرة؟!» فتعجب من رده وسأله عن الرابط بين الأمرين، فرد عليه بمزيج فريد من التهكم والجدية والانفعال واللامبالاة «الناس عايزين يعيِّدوا يا عم، فكل واحد عايز يرمي المصيبة اللي عنده عشان يعرف يسافر ويعيش حياته. وهيلاقي فين مكان أحسن من مستشفى نظيف وبالمجان؟!» …… لأول مرة منذ فترة كبيرة يعتريه هذا الشعور بالغثيان.
(4)
يكاد لا يوجد داء مما ابتلى الله به البشر في هذه الحياة الدنيا إلا وتزيد احتمالات الإصابة به مع زيادة سن المريض، وكذلك تتضاعف احتمالات حدوث مضاعفاته، ويزداد علاجه واحتواؤه صعوبة. وأغلبها من الأمراض المهلكة أو المُعَجّزَه مثل معظم أنواع الأورام الخبيثة، وأمراض القلب وجلطات المخ .. إلخ. وتكمن المشكلة أن شريحة كبار السن لا تقل هشاشة عن الأطفال، ولو لم يكن من ابتلاء لهم إلا الشيخوخة المعتادة بهزالها وإنهاكها للبدن والنفس والروح والمعنى لكفاهم هذا.
ولذا فمن حسنات الطب الحديث – في الجانب الآخر من الكوكب – اعتبارهم شريحة خاصة، وتخصيص فرع مستقل من الطب للتعامل معهم، هو طب كبار السن أو Geriatric medicine. وللأسف ما زال هذا الفرع عندنا في طور التكوين أو في أحسن الأحوال يحبو وسط نفور شديد من معظم الأطباء والتمريض الشباب أن يتوجهوا إليه، وذلك لضعف مردوده المادي والنفسي.
وإهمال كبار السن وسوء معاملتهم elderly abuse هو أزمة أخلاقية كونية في عصر الجحود الذي نعيش فيه. لكن العالم المتقدم «البارد» «القاسي» يحاول دائما مواجهتها بمنتهى الصراحة والوضوح، وتتوافر لديهم مؤسسات حكومية وغير حكومية تتبنى هذه القضية، ولديهم أرقام للتبليغ عن هذا وإحصائيات دقيقة عن حجم المشكلة، وكذلك تشريعات وقرارات صارمة للتعامل معها.
أما عندنا في الجانب المظلم من العالم، فما زلنا ندفن الرؤوس في الرمال، ونتظاهر بأننا أهل المعروف والمشاعر والروابط الإنسانية التي لا تنفصم. وملايين الوقائع تصرخ بالكارثة وتمزق ما تبقى في القلوب من رحمة وتقضي على ما تبقى في العقول من قدرة على التحمل.
(5)
الوقت يمر
أخذ طبيب الأمراض العصبية يعنِّف أهل الحالة بانفعال شديد وفقدانٍ للأعصاب صارخًا «مش أنا لما جاتلها الجلطة من 3 شهور قلتلكم لازم اهتمام مكثف بيها، وتتقلب في سريرها كويس، وحد يأكلها ويشربها بصبر وبعناية، حرام عليكم والله، حرام عليكم»
ردت ابنة المريضة في هدوء أو برود «نعمل ايه يا دكتور، الممرضة بتاعتها بنتها تعبت وواخدة أجازة بقالها أسبوع، واحنا ورانا شغل وبيوت واجوازنا ما بيرحموش ولا بيتفاهموا … نعمل ايه يعني!»
حاول الطبيب أن يكظم غيظه قدر استطاعته وهو ينظر إلى حطام الإنسان الملقاة على سرير الكشف في بؤس شديد. أم ستينية تعاني من ضعف واضح في الجانب الأيسر من جسمها، ولا تستطيع الكلام إلا إيماءً. تعاني من جفاف شديد، والتهاب رئوي شديد، يبدو أنها أصيبت به نتيجة عسر البلع الذي تعاني منه نتيجة جلطة المخ، مما جعل بعض الطعام يتسرب إلى جهازها التنفسي والرئة فسبب التهابًا شديدًا aspiration pneumonia. كما امتلأ جسمها الهزيل بعشراتٍ من قرح الفراش bed sores القميئة. يبدو أن هذه المسكينة لم تأكل أو تشرب جيدًا لعدة أيام، وأنها ملقاة على سريرها دون أن يحركها أحد قيد أنملة خلال هذه الفترة.
ضرب الطبيب كفا بكفٍ، ونظر تجاه أهل المريضة – الكثيرين كغثاء السيل – نظرة نارية تمثل لوحة تعبيرية تامة من الحنق والمقت. ثم التفت إلى طبيب الاستقبال «لا جديد من ناحية العصبية، لكنها تحتاج إلى الحجز بالعناية المركزة لتحسين الحالة العامة المتدهورة، ولعلاج الجفاف والالتهاب الرئوي. وأسرعوا فليس لديها من الوقت الكثير».
(6)
للمأساة وجوه عدة
كبير السن المريض – في غالب الأحوال – هو شخص شديد الضعف، قليل الصبر، غالبًا ما يكون فريسة للاكتئاب الناجم عن الإحساس بالعجز والوحدة وفتور الهمة وتكالب الأمراض. ولذلك فيحتاج إلى بيت من البشر الأسوياء الأذكياء الرحماء، يهتمون به دون أن يعززوا إحساسه بالحاجة، أو أن يمنوا عليه بأداء جزء من واجباتهم تجاهه. ويحتاج إلى طبيب ذكي يتعامل معه نفسيًا قبل طبيًا، ولا يصف له من الدواء إلا ما قلَّ ودلَّ.
تحدث كثيرٌ من الفواجع التي نراها يوميًا نتيجة الإيذاء غير المباشر والذي يتمثل في ترك المريض كبير السن وحيدًا يهتم بشئون حياته ومرضه، ويتعاطى أدويته بمعرفته، وكثير منهم قد ينسى جرعاتٍ من دواءٍ هام، أو ينسى أنه قد أخذ جرعة الدواء فيكرره عدة مرات حتى يدخل في مرحلة التسمم!
وما يزيد طيننا بلَّة، أن الملايين عندنا من كبار السن يتعيَّشون على معاشاتٍ هزيلة لا تسد الرمق أو تستر العورة إلا بالكاد. فيعتمدون في علاجهم على أدوية التأمين الصحي والذي غالبًا ما يوفر بدائل أرخص قد لا تكون بنفس الجودة. أما الملايينُ الأُخَرْ الأكثر بؤسًا والذين لا تشملهم مظلة تأميننا الصحي المثقوبة والتي اتسع خرقُها على الراتق، فلا ملجأ لهم سوى قرارات العلاج على نفقة الدولة، والتي لا تكفي في معظم الأحوال لتغطية كامل تكلفة العلاج أو حتى نصفه أو ثلثه. أو التسول على أبواب الجمعيات الخيرية طلبًا للعلاج والمعونة.
وما أشد كرب المرء وهو يرى عجوزا بلغ من الكبر والمرض عتيًا ويعجز عن شراء دواء تكلفته الشهرية لا تزيد عن ثمن وجبة سريعة أو كوب من القهوة في مقهى فاخر.
(7)
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيًا
وقف أطباء عناية القلب في حسرةٍ ذاهلة يتأملون الجسدَ الذابل الساكن على السرير، والذي تغزوه الأسلاك ووصلات التنفس الصناعي. الحاجة فاطمة أكثر من مجرد مريض مزمن كثير التردد على القسم، فقد تحولت إلى نصف صديقة ونصف أم ونصف ممرضة بل ونصف طبيبة حتى! كانت تعاني من حمى روماتيزمية بالقلب أتلفت صمام القلب المترالي، مما استدعى استبداله بصمام معدني منذ أكثر من عشر سنين، ولا بد من المواظبة على دواء لسيولة الدم بشكل دائم يحافظ عليها ثلاثة أمثال المعدل الطبيعي، وإلا تعرضَ الصمام للتجلط والتلف والتوقف عن العمل stuck valve، وهي من الحالات الطارئة المميتة.
كانت الحاجة فاطمة بين شقي رحى. فكلما وصلت السيولة إلى المعدل المناسب للحفاظ على الصمام، أصيبت بنزيف شديد من الجهاز الهضمي. وكانت تحتاج لعمل مناظير مكلفة وجراحة لمنع تكرار هذا الأمر، إذ لا غنًى عن دواء السيولة. مرت شهور، وقرار نفقة الدولة لا يراوح مكانه، مما دفع بعض أهل الخير أن يحاولوا جمع المبلغ اللازم، لكن حركة الأقدار كانت أسرع. وفسد الصمام وتوقف عن العمل نتيجة خوفها من الانتظام على دواء السيولة. فحدث هبوط حاد في الدورة الدموية وتوقف في عضلة القلب احتاج لعمل إنعاش قلبي رئوي، ووضعها على جهاز التنفس الصناعي ريثما يتم البحث عن مكان ما يمكن أن يجري لها جراحة عاجلة لاستبدال الصمام التالف بينما هي في هذه الحالة العامة المتردية. وهذا هو المستحيل متجسدًا في فوضانا الصحية البائسة.
سحابة من الكآبة تلف الجميع، ولا يصدقون أن روح الحاجة فاطمة تنسحب شيئًا فشيئًا أمام ناظريهم وهم بين دمعٍ وعجز.
لم يخرجهم من الصمت الحزين إلا صراخ إحدى الممرضات أن قلب الحاجة فاطمة بدأ في التوقف من جديد.
وكانت هذه المرة هي القاصمة.. أو الراحمة..