البرادعي : «ضمير الثورة» الذي أصبح فرس رهانها الخاسر
بعد فراق دام لأكثر من 20 عامًا يعود محمد البرادعي إلى مصر في إحدى ليالي فبراير الباردة من عام 2010، لكن برودة الجو لم تمنع الاستقبال الحار الذي استُقبل به «صاحب نوبل» يومها، بحفاوة بالغة كان العشرات في استقباله في مطار القاهرة، وكان الملايين يترقبون وصوله في مدن مصر، حينها رفع أحدهم لافتة بيضاء تشي بسقف آماله المرتفع: «أهلًا بزعيم الأمة»، وآخر حمل صورته: «نعم.. رئيساً لمصر».
لتبدأ رحلة الدبلوماسي الكبير صاحب الـ 68 ربيعًا من العمر حينها داخل مصر، رحلة دامت لـ 4 سنوات، كان البرادعي فيها رقمًا صعبًا داخل المشهد السياسي في لحظات تاريخية من عمر هذا البلد، 4 سنوات من الأمل واليأس، النصر والهزيمة، العقلانية والعبث، الانسحاب والعودة، ليأتي ذلك اليوم المصيري من ذاكرة هذا البلد – يوم 14 أغسطس 2013 – لينهي رحلة البرادعي إلى الأبد، ويعلن عن نهايته كسياسي، وينسحب من المشهد نهائيًا خاذلًا هؤلاء الذين التفوا حوله وعقدوا عليه آمالهم ومنحوه ثقتهم، ويتوقف نداء «شد القلوع يا برادعي.. مفيش رجوع يا برادعي»، وتنتهي أسطورة «ضمير الثورة وقديسها».
بعد 3 سنوات يخرج الرجل على شاشة «التليفزيون العربي»، ليحكي لنا عن مسيرته ورحلته وأسراره التي يظن أنه لا يعرفها أحد!! بعد محاولات خائبة من قبل لسبر تلك الأسرار والذكريات على خلوته المفضلة «تويتر»، ما لبث أن انتهى معظمها بالمزيد من الإساءة أحيانًا إلى شخصه من قبل خصومه، أو النقد وجلد الذات أحيانًا أخىي من قبل محبيه ومناصريه السابقين، أو مزيد من التبرير والإصرار على الإنكار من بعض الذين يعيشون على هامش ذكريات طويت صفحتها للأبد.
عاد ليكشف لنا أسراره داخل القصر والحزب والميدان بعد سنوات كاملة من الغياب والاختفاء غاب فيها أيضًا عن ذهنه أدنى قواعد العلاقة بين السياسي وجمهوره الذي يرغب في معرفة ما الذي حدث؟ ومن أخطأ؟ ومن يتحمل تبعات ما وصل إليه حالنا؟ يعود البرادعي ليقص علينا رؤاه وفلسفته التي ساوت بين الثورة والثورة المضادة، وما الذي كان وراء خياراته الفوقية والمتعالية على السياسة والحزبية طوال 4 سنوات قضاها في مصر.
عاد السياسي المنتهي ليبرئ ذمته وهو الذي كان واحدًا ممن شاركوا في تأزيم تلك الثورة ووضعها على حافة المخاطرة مرات ومرات، قبل أن ينتهي بها المشهد والبرادعي يتلو بيان وفاتها في انقلاب عسكري هيئت له سذاجته أو غروره أو كلاهما أنه سيطيح بخصومه من الإخوان وبقية تيارات الرجعية الإسلامية فقط، فإذا به تروعه مشاهد الدماء، فيختار الانسحاب نهائيًا من المشهد مفضلًا العودة إلى فيينا حيث أتى قبل 4 سنوات من ذلك اليوم.
خط زمني: «ضمير الثورة» الذي صار مأزقًا للثورة
وصل محمد البرادعي إلى مصر في فبراير 2010، وثمة حراك معارض قد تجذر قبل سنوات من وصول البرادعي إلى مصر، فقبل سنتين من وصوله أسقط المتظاهرون في مدينة «المحلة الكبرى» صورة مبارك وهتفوا بإسقاطه ونظامه من الحكم، لم ينته الأسبوع الأول بعد عودة البرادعي إلا وقد تم الإعلان عن تشكيل «الجمعية الوطنية للتغيير» برئاسته – تضم عضويتها مجموعة من المعارضين والنشطاء في الحراك المناهض لمبارك ونظامه منذ 2004 – للضغط على النظام لتعديل الدستور وإلغاء قانون الطوارئ، وعقد انتخابات رئاسية نزيهة بإشراف قضائي مستقل ورقابة دولية.
تمسكت الجمعية الوطنية بموقفها الصلب والمتشبث بعدم دخول المشهد السياسي والتعالي عليه، ودعواتها المتكررة للتغيير، ورفضت خوض الانتخابات البرلمانية 2010، وهو الأمر الذي انعكس إيجابًا على شخص البرادعي.
فبعد أقل من عام من عودة البرادعي وتأسيس الجمعية حدثت الثورة وسقط مبارك ونظامه، فأصبح البرادعي يمثل رقمًا صعبًا في المشهد السياسي الجديد، ولمَ لا والرجل قد ارتبط في أذهان الكثيرين بأنه قائد الثورة ومحركها – ساهم نظام مبارك في ذلك جزئيًا عبر آلته الإعلامية المتخبطة أثناء مشهد الثورة – فالتف حوله مئات الآلاف من الشباب، كان معظمهم من هؤلاء غير المسيسين ممن تحسسوا خطواتهم الأولى داخل المجال العام والمشهد السياسي بعد 11 فبراير 2011، فبات البرادعي زعيمًا وطنيًا و«قديسًا للثورة» و«ضميرًا لها»، وضبط الآلاف من هؤلاء الشباب بوصلتهم ومواقفهم على وجهة البرادعي ومواقفه وآرائه.
وبدلًا من أن يستغل الرجل ذلك الأمر نحو عملية بناء وتأسيس لمشهد سياسي نضالي حقيقي، كان البرادعي أحد رهانات الثورة الخاسرة، وفي نزعة معادية للسياسة والحزبية اختار البرادعي الانحياز إلى خيارات شديدة الفوقية والتعالي والابتعاد عن الحدث، والرغبة المنفردة في رسم خريطة طريق، تبدأ بدستور يكتبه معينون من العسكر، ثم انسحابه من الانتخابات الرئاسية، ثم مشاركته في جبهة الإنقاذ، بدون أي تحفظات على أعضائها، ثم أخيرًا تتويج مشوار كامل من الخيارات السيئة والخاطئة، بالمشاركة «المشهدية» في الانقلاب العسكري دون حتى أن يكون أحد القوى المحركة لقراراته مقابل الحصول على خارطة الطريق الأولى التي تمناها «الدستور أولا».
ثم يصور الغرور والسذاجة معًا للرجل مجموعة من الاستنتاجات والافتراضات السياسية المستحيلة، وقد أقنع أنصاره بها، فهو يستطيع أن يشارك في 30 يونيو، ويكون على رأسها ويفرض تصوراته وأفكاره على المعسكر الفلولي، ويقنع الجيش بالعودة إلى ثكناته، ويتنحى عن المشهد السياسي في نفس اللحظة التي يستطيع فيها أيضًا أن يقنع الإخوان أن يتراجعوا ويقبلوا بعالم ما بعد 30 يونيو، كل ذلك يريد الرجل فعله في ذروة خطاب الجنون والجنون المضاد من قبل الثورة المضادة والإخوان، ثم يسلم الرجل رايته البيضاء بعد ما فشلت بعض الجهود القليلة التي قام بها من أجل إنهاء المشهد المتأزم في الشارع حينها، معلنًا انسحابه من المشهد دون أن يخبر حتى رفاقه في جبهته داخل معسكر النظام الجديد.
وفي عنجهية مشابهة تمامًا لتلك التي يمارسها خصومه من الإخوان، يقرر البرادعي الصمت لمدة 3 سنوات كاملة، لم يحترم فيها أدنى قواعد العلاقة بين السياسي وجمهوره، مفضلًا عدم الحديث عما جرى، وحتى عدم الشعور بمسئولية شرح ما حدث، ماهية التباينات التي كانت موجودة في معسكر 30 يونيو، لماذا لم يستقل بعد مذبحة الحرس الجمهوري، أو بعد تفويض الجيش وأحداث المنصة، ما ماهية المفاوضات التي يفترض أنه كان يعول عليها في عدم فض الاعتصام، علامَ كان رهانه وهو يشترك في الإطاحة بحكم الإخوان؟
تحليل للموقف: البرادعي والغرام بسيناريو «الاستدعاء»
طوال 4 سنوات قضاها البرادعي في مصر بعد الثورة كان له هدف محدد بُني على تصور «نخبوي» من جهة و«سلطوي» من جهة أخرى، بأن مصر غير مستعدة لحياة حزبية أو سياسية في تلك الفترة، وأن الحل الوحيد والمتاح للإصلاح هو أن يتم استدعاؤه – دون انتخاب أو استفتاء – من قبل النظام الحاكم، أي نظام حاكم، لتنفيذ رؤية إصلاحية للحكم والتغيير، يتفاوض عليها معهم، ويبدو أن لطبيعة عمل الرجل كمفاوض ودبلوماسي لا كسياسي تأثير في خلق وتنمية ذلك التصور .
هذا هو الهدف الذي جعله دومًا يرفض الانخراط في الحياة السياسة التنظيمية، فرفض البرادعي المسار السياسي بعد يناير كاملًا، وظل متمسكًا طوال عامين بمطلبه «الدستور أولا»، ورفض الانخراط في أي جبهة تنظيمية معارضة باستثناء بضعة شهور قضاها داخل جبهة الإنقاذ، ولولا تعنت الإخوان وعنجهيتهم من جانب، والمزايدة الثورية بعد أحداث الاتحادية، لما انضم للجبهة وشارك فيها، ولا نهتم هنا بصحة مواقفه وآرائه – والأكيد أن بعضها صحيح – بقدر ما نحاول تفسير سلوكه ومواقفه العنيدة والمتعالية في معظم الأحيان، مواقف لم تكن لتنبع من عقيدة أيديولوجية أو خيار أخلاقي متماسك بقدر ما كانت مواقف تزيد المشهد السياسي تأزيمًا وتأجيجًا مما يجبر الجميع على العودة إليه للخروج من المأزق.
وهو ما يفسر رفض «ضمير الثورة» كل الاستدعاءات المتكررة له طوال سنوات طويلة للقبول بمنصب تنفيذي ما، إلا استدعاءً وحيدًا صريحًا لا يقبل التأويل، وهو أن يكون الوجه السياسي للتحرك العسكري في 3 يوليو، فهو الاستدعاء الوحيد الذي تخيل أنه سينفذ من خلاله رؤيته وهدفه دون منازعة من أحد!!
كان ذلك الهدف يتطلب ألا يكون البرادعي محسوبًا على أحد، وألا يكون زعيمًا أو قائدًا لحركة جماهيرية أو ثورية، دللت الأحداث وبعض الروايات الشخصية المنشورة على تردد البرادعي المتكرر منذ 2010 وحتى 2013 أن يكون على رأس أى حراك في الشارع وكان يفضل الانتظار لما ستسفر عنه الإرهاصات الأولي لذلك الحراك، فالأمر يتطلب منه أن يحافظ على خطوط الاتصال بالمعارضة والنظام معًا، وألا يكون محسوبًا على أي معسكر منهما، لقاءاته المتكررة بالمجلس العسكري بقيادة المشير طنطاوي والفريق السيسي بعد ذلك في نفس الوقت الذي حافظ فيه على خطوط اتصاله بالمعارضة المدنية والثورية، وحتى الإخوان ظل على اتصاله الدائم بهم حتى لحظة الإعلان الدستوري.
كان ذلك الذي يجعله يصر دومًا على رفض حلول الضغط الجماهيري، فعلى الرغم من مقاطعته لكل الانتخابات والاستفتاءات من بعد استفتاء 19 مارس، لم يدع أحدًا من أنصاره للمقاطعة والضغط من أجل هذا الخيار، وترك لهم الحرية في خياراتهم، فالأمر هنا لا يتعلق باحترام البرادعي لجمهوره واحترام عقولهم وحريتهم كما صور أنصاره ومحبوه.
لماذا أصبح زعيمًا وهو فوق سن الـ 70 ؟
إذن يبقى السؤال: لماذا التف مئات الآلاف من الشباب حول دبلوماسي قضى معظم حياته داخل الأمم المتحدة بعيدًا عن أروقة المجتمع والدولة والسلطة في مصر وتعقيداتها وأزماتها البنيوية المعقدة؟
لماذا جعلوه زعيمًا ومناضلًا وهو نأى بنفسه عن تلك الهالة والزعامة؟ بينما لم يحظَ أي معارض راديكالي – خالد علي مثلًا- بذلك الدعم والالتفاف والهالة التي أحيطت بالبرادعي؟
وما الذى يجعل مجموعة من الناس لا تكاد تمل ليل نهار من السخرية من النظام / دولة يوليو واستدعائها المتكرر لأشباحها القديمة من عزلتهم وبياتهم للعودة للمشهد السياسي – الجنزوري وفايزة أبو النجا مثالًا – أن يجعلوا من رجل جاوز الـ 70 ربيعًا من العمر زعيمًا وطنيًا وقدوة لهم ومعبرًا عن آمالهم وطموحاتهم!! في تناقض فج وغريب؟
تبدو إجابة تلك الأسئلة أسهل نسبيًا إذا قمنا باستدعاء ملحوظتين:
الأولى: أن مصر بلد يمتلك تاريخًا سياسيًا فقيرًا وضحلًا، احتكرت فيه النخب العسكرية/البيروقراطية معدومة الكفاءة والموهبة كل فضاءات المجال العام منذ أكثر من 60 عامًا، سلبت فيها تلك النخبة المجتمع من أدنى حقوقه في الممارسة السياسية التقليدية، الأمر الذي نتج عنه موت السياسة وتجريف المجال السياسي من أي تنظيمات سياسية حزبية أو جماهيرية، وبالطبع يشمل هذا الإفلاس والفقر النخب السياسية المناضلة والمعارضة.
الثانية: أنه وعبر سنوات طويلة مارست فيها تلك النخب الحاكمة وصاية أبوية وسلطوية، كان لها أثر بالغ في التكوين الاجتماعي والثقافي للطبقة الوسطى المصرية التي ولدت من رحم تلك الدولة، ونخص تلك الطبقة هنا تحديدًا باعتبار أن قطاعات تلك الطبقة المتعلمة غير المنضوية إلى التنظيمات الإسلامية، هي من شكلت الجزء الأكبر من القاعدة البشرية التي انطلق منها المشهد السياسي الاحتجاجي في مصر – البرادعي وتياره هم أحد أهم أجزاء هذا المشهد – مطلع هذا القرن عقب إدراك تلك القطاعات أن المقايضة السلطوية التي عقدتها مع الدولة لعقود طويلة لم تعد كافية من أجل أمانها الاجتماعي والاقتصادي.
لقد لعبت تلك العوامل مع عوامل أخرى أكثر تعقيدًا – لا تتسع المساحة لتناولها الآن – دورًا مهمًا في هيمنة خطاب شعبوي علي المشهد السياسي المعارض في مصر، وهو الخطاب الذي ينطلق من مفاهيم شكلية تتحدث عن الحرية والإصلاح والتغيير والعدالة، خطاب مُبهم وعاطفي، لا يعتمد أي أفكار أو رؤى محددة ومتماسكة عن كيفية وماهية هذا النضال من أجل الإصلاح والتغيير، بل يميل إلى إثارة الحماس وإلهاب المشاعر، ليتماشى تمامًا أو يتطابق مع المزاج السائد لدى هذه الفئات الساخطة.
وكأي خطاب شعبوي يميل دومًا إلى صنع زعامات حزبية وسياسية ينسب إليها صفات البطولة والتضحية والشرف والإخلاص وطهارة اليد، يجب أن تسند إليها إدارة البلاد دون أي انتخابات أو استفتاءات.
لا يستطيع أحد منا أن ينكر دور هذا الخطاب الذي ألقى حجرًا في المياه الراكدة في عصر مبارك، وساعد في تأجيج الثورة المصرية وحشد الكثيرين للانضمام للثورة، ودخول مئات الآلاف من الشباب للمشهد السياسي في مصر بعد الثورة، لكن نفس الخطاب الذي ظل ساكنًا ومتجمدًا دون أن يتم تجاوزه أو استثماره في مشهد ما بعد يناير كان مأزقًا للثورة وواحدًا من عوامل تأزيمها وتوريطها، وما زلنا نعاني الكثير من تباعته حتى لحظتنا هذه.
تنويه
لم يُكتب هذا المقال من أجل نقد محمد البرادعي لشخصه، فقد كنت واحدًا من محبيه وما زلت مدينًا له بالفضل في بعض الأشياء، وإنما كان محاولة ربما أخلها الاختصار والإيجاز لفهم ومراجعة بعض ما حدث خلال السنوات الست الماضية، والتي كان البرادعي وتياره جزءًا مهمًا من أحداثها ومشاهدها، محاولة كتبتها وسط مشاعر ممتزجة بالخوف والقلق الداخلي قبل لقاءات البرادعي المنتظرة على قناة التلفزيون العربي ليحكي لنا عن أسراره ورحلته في مصر .
فمصر ذلك البلد التعيس لا تكاد تمل نخبته الحاكمة والمعارضة من أن تعيد إنتاج نفس الوجوه القديمة التي كانت جزءًا من أزماتها، قد لا تستشعر حرجًا أو مللًا من أن يعود البرادعي مرة أخرى بطلًا للثورة وضميرًا لها وأحد حلول مشهدها السياسي البائس حاليًا، وهو الأمر الذي – ويا للمفارقة الساخرة – قد يشجع جمال مبارك وخيرت الشاطر وكمال الجنزوري وعمرو وموسى على كتابة مذكراتهم!!