المسيري ومحاولة فض الاشتباك بين اليهودية والصهيونية
تتداخل الصهيونية كأيديولوجية قومية حديثة في الخطاب العربي باليهودية كديانة وهوية وثقافة تاريخية، وهو الأمر الذي يمثل خطأً إدراكيًا شائعًا للغاية في هذا الإطار.
يفند المفكر المصري الراحل د.عبد الوهاب المسيري عبر أعماله العديدة في حقل الدراسات الصهيونية تلك الفكرة، ويفض ذلك التشابك والالتباس السائد بين اليهودية التقليدية وبين الصهيونية المعاصرة، ويعيد قراءة إسرائيل من خلال هذا المنظور، الذي نكتشف من خلاله أن ذلك الكيان المعاصر جاء مخالفًا لتعاليم المرجعية الدينية اليهودية التقليدية ، ليس المقصود هنا بالمعنى الأخلاقي، وليس حتى بمعنى أن إسرائيل دولة علمانية وليست دينية وحسب، ولكن بمعنى أن ذلك الكيان جاء كمخالفة صريحة بالمعني النصي والحرفي للتعاليم اليهودية التلمودية في هذا السياق.
الصهيونية المسيحية تسبق اليهودية
رغم تحفظات المسيري على اصطلاح «الصهيونية المسيحية» ، إلا أنه في موسوعته الشهيرة «اليهود واليهودية والصهيونية»، يؤرخ للصهيونية ذات الديباجات المسيحية على أنها تسبق الصهيونية التي نشأت لدى اليهود، ويعرف المسيري تلك الصهيونية ذات الديباجة المسيحية بأنها دعوة انتشرت في الأوساط البروتستانتية كجزء من أفكار الإصلاح الديني، تهدف إلى إعادة اليهود إلى فلسطين، في إطار تصور العقيدة الألفية المسيحية الأخروية التي ترى أن تلك العودة شرط للعودة الثانية للمسيح[1].
انتشرت تلك الدعوة بوجه خاص في إنجلترا، التي كانت تخلو من اليهود تقريبًا في ذلك الوقت، بسبب طردهم في زمن الملك إدوارد الأول واستمرار حظر إقامتهم هناك لما يزيد عن ثلاثة قرون بعد ذلك، وكان من أبرز المنادين بتلك الفكرة من المسيحيين البريطانيين: عالم اللاهوت توماس بريتمان، والمحامي والسياسي السير هنري فينش.
كما نشأت جمعيات مسيحية تبشيرية عديدة مهمتها نشر المسيحية بين اليهود وهدايتهم واسترجاعهم إلى فلسطين إعدادًا للخلاص. وكانت أهم الجمعيات صهيونية مسيحية في هذا السياق هي : جمعية لندن لنشر المسيحية بين اليهود الإنجليز ويهود الدولة العثمانية، وجمعية Jews’ Society التي تم تأسيسها في عام 1809، وقد ازدهرت تلك الجمعية بشكل خاص، إذ بلغت ميزانيتها عام 1850، 26 ألف جنيه إسترليني، وكان يتبعها 32 فرعًا في لندن والقدس وغيرهما من المدن، وأصبحت المنبر الأساسي للصهاينة من المسيحيين مثل لورد شافتسبري السابع.
ويعد من أهم الصهاينة الذين استخدموا ديباجات مسيحية في التاريخ الحديث: القس وليام هشلر الذي قام بتقديم هرتزل للنخب الحاكمة في أوروبا، والضابط البريطاني أورد ونجيت، ورجل الدين البروتستانتي ونيبور رينهولد. ولا يقتصر هنا انتشار الأفكار المسيحية الصهيونية على إنجلترا وحدها، بل كانت له أصداؤه الواسعة في مختلف أرجاء أوروبا الغربية، ومن أبرز الأمثلة في هذا الإطار الجنرال الفرنسي المغامر فيليب دي لانجالري الذي كان يحلم بإقامة دولة يهودية[1].
الصهيونية والرومانتيكية الألمانية
يؤكد عبد الوهاب المسيري أكثر من مرة في أكثر من مؤلف من مؤلفاته العديدة على ارتباط نشأة الصهيونية في أوساط المجموعات اليهودية في ِأوروبا، بانتشار الفكر القومي في أوروبا، وتأثرها باتجاهات الرومانتيكية التي انتشرت هناك منذ أواخر القرن الثامن عشر وصولاً لمنتصف القرن التاسع عشر[2]، ولا سيما الرومانتيكية الألمانية، والرومانتيكية هي حركة أدبية وفنية وفكرية انتشرت في أوروبا الغربية كرد فعل على الثورة الصناعية هناك.
يقول المسيري إن الصهيونية شأنها شأن أي عقيدة سياسية، تود أن تكتسب شرعية، وأن تعبئ الجماهير وتحشدهم وراءها، وكان هذا أمرًا حتميًا بالنسبة للصهيونية التي نشأت بين أوساط مثقفين يهود وغير يهود في أوروبا، كان المثقفون اليهود منهم مندمجين تمامًا، تشربوا الثقافة الألمانية، وكانت قطاعات كبيرة من اليهودية اليديشية في شرق أوروبا لا تزال عميقة الإيمان بالدين أو على الأقل تربطهم صلة وثيقة برموزه، ومن ثم كان لا مفر من أن تستغل الصهيونية المعتقدات اليهودية لتضفي على نفسها صبغة دينية، لإحياء الروح المشتركة بين اليهود، وبناء مفهوم القومية العضوية القائم على روابط التراب والدم التي تمجدها الاتجاهات الرومانتيكية بشكل شبه صوفي، على هذا الرابط الهوياتي الديني.
يسلط المسيري الضوء على أصول للزعماء الصهاينة البارزين الذي صاغوا الأطروحات الصهيونية الأساسية مثل تيودور هيرتزل وماكس نوردو وألفريد نوسيج وأوتو ووربورج، الذين كانوا إما ألمان أو نمساويين يكتبون بالألمانية ويتحدثون بها، كما كانت الألمانية أيضًا هي لغة المؤتمرات الصهيونية الأولى، كما توجه الزعماء اليهود الصهاينة أول ما توجهوا إلى قيصر ألمانيا كي يتبنى المشروع الصهيوني. وغني عن الذكر في هذا السياق أن اليديشية لغة يهود شرق ووسط أوروبا، تعد رطانة ألمانية بالأساس[3].
يشبه المسيري صلة الصهيونية بالديانة اليهودية بصلة المسيحية بأفكار العنصرية البيضاء لدى النازية ومستوطني جنوب أفريقيا على سبيل المثال، إذ تتنافى تلك الأفكار مع المعتقدات المسيحية تمامًا رغم نظرة الكثير من المنتسبين لتلك التيارات العنصرية للمسيحية كعنصر ثقافي قومي مشترك لدى الأوروبيين، واستغلال الفكرة الدينية في هذا الإطار في التعبئة الجماهيرية ضد المهاجرين من المسلمين والأفارقة وغيرهم.
يضع هنا المسيري الصهيونية في سياقها الأوسع من المعتقدات السياسية والفكرية الغربية التي تعبر عن النزعة الاستعمارية، ويقارن في هذا الإطار بين عنصرية الأوروبيين تجاه الأجناس الأخرى، وبين عنصرية اليهود الصهاينة تجاه العرب، كما يقارن أيضًا بين ممارسات العنصرية الأوروبية من إبادات جماعية وحشية بحق السكان الأصليين في الأمريكتين وغيرها، وبين ممارسات العصابات الصهيونية ودولة إسرائيل ومجازرها الجماعية بحق العرب في فلسطين ولبنان وغيرها من الأراضي العربية التي احتلتها.
موقف اليهودية الحاخامية من الصهيونية
يقول المسيري إن تاريخ رفض اليهودية الحاخامية التقليدية للصهيونية يبدأ مع تاريخ نشأة الصهيونية نفسها، إذ اتخذت «كافة» المنظمات اليهودية الرئيسية موقفًا مناوئًا أو غير مكترث للصهيونية منذ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في عام 1897، إذ أعلنت اللجنة التنفيذية لمجلس الحاخامات في ألمانيا، عشية انعقاد المؤتمر، اعتراضها على الصهيونية على أساس أن فكرة الدولة تخالف عقيدة الخلاص اليهودية في الأدبيات الحاخامية وأفكار التلمود البابلي، التي ترى عدم جواز العودة إلى فلسطين لليهود بأعداد كبيرة قبل قدوم الماشيح، حيث قضى الإله عليهم بالشتات حتى ذلك الحين عقابًا على خطاياهم وذنوبهم.
كما اتخذ مجلس مندوبي اليهود البريطانيين، والهيئة اليهودية الإنجليزية، المنظمتان اليهوديتان الرئيسيتان في إنجلترا مواقف مماثلة. وأعرب مؤتمر الحاخامات الأمريكيين المركزي عن معارضته التفسير الصهيوني لليهودية باعتبار أن الصهيونية تؤكد الانتماء القومي، وعارض حاخام فيينا (مسقط رأس هرتزل) فكرة إنشاء دولة يهودية لأنها فكرة معادية لليهود بحسبه.
تبنت اللجنة اليهودية الأمريكية كذلك موقفًا مناهضًا للصهيونية عام 1906، ثم انتهجت نهجًا غير صهيوني استمر حتى أواخر عام 1940. وعندما صدر وعد بلفور أعلن العديد من اليهود الأمريكيين رفضهم في الحال، في عريضة وقعوا عليها ورفعوها إلى الحكومة الأمريكية، على أساس أن ذلك يروج لمفهوم الولاء المزدوج.
وفي 4 مارس/آذار 1919 ، بعث عضو الكونجرس الأمريكي عن كاليفورنيا جوليوس كان، ومعه 30 يهوديًا أمريكيًا بارزًا، رسالة إلى الرئيس وودرو ويلسون يحتجون فيها على فكرة الدولة اليهودية. وأعرب معظم الموقعين على هذا الاحتجاج عن أنهم يعبرون عن رأي أغلبية اليهود الأمريكيين، وكتبوا يقولون: إن إعلان فلسطين وطنًا قوميًا لليهود سيكون جريمة في حق الرؤى العالمية لأنبياء اليهود وقادتهم الدينيين العظام. واستطرد البيان يقول: إن دولة يهودية لابد أن تضع قيودًا أساسية (على غير اليهود) فيما يتعلق بالجنس، وهو ما يعد بمثابة عودة ألفي عام إلى الوراء[4].
لذلك فإن الصهيونية، وفقًا للمسيري والكثير من الباحثين والدارسين، تعد أيديولوجية قومية علمانية حديثة، تمثل أفكارها مخالفة صريحة للديانة اليهودية بمفهومها التقليدي، وما كان لها أن تحقق أي نجاح في فكرة صناعة وطن قومي لليهود على أرض الواقع، إلا بعد حدث تاريخي هائل بوزن المحرقة في الحرب العالمية الثانية، التي دفعت الكثير من يهود شرق أوروبا إلى الهجرة إلى فلسطين.
يسحب هذا الفصل بين اليهودية والصهيونية الكثير من الشرعية المدعاة التي تتمتع بها الصهيونية في الوقت الحاضر، وبعيدًا عن مجرد تفنيد الادعاءات الدينية والتاريخية للصهيونية في هذا الإطار، يجعل هذا الفصل تهم معاداة السامية والعداء ضد اليهود الجاهزة لكل منتقد للصهيونية أو إسرائيل تهمة غير ذات معنى.
- عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المجلد السادس.
- عبد الوهاب المسيري، الصهيونية والحضارة الغربية، كتاب الهلال ، العدد 632، 2003.
- عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، المجلد الثاني.
- عبد الوهاب المسيري،موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المجلد السادس.