إعجاز أحمد: الهند بين الديمقراطية واليمين المتطرف
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
كتب الناقد الأمريكي-الهندي الراحل إعجاز أحمد هذه الورقة حول تاريخ اليمين المتطرف في الهند وتجاوزاته على مؤسسات الديمقراطية الليبرالية في الهند ضمن كتاب «فكرة الهند: أوراق مرجعية» (يونيو 2016) الذي أعدَّه سودهاكران وآخرون، وكانت قد نشرت الورقة قبل ذلك على موقع المنتدى الثقافي الهندي. هنا مقدمة تلك الورقة. وقد راجع الترجمة الأستاذ علاء بريك هنيدي.
تطرح الليبرالية الهندية حجة مُحكَمة، وهي أن الجمهورية الهندية ترتكز على بنية مؤسسية ديمقراطية ليبرالية مهيمنة أيديولوجيًا ومتطورة هيكليًا، وأن على القوى السياسية بمختلف توجهاتها التسليم بها والمطالبة بحصتها فيها، وتجريب حظوظها في إطارها، والدخول إلى أروقة السلطة والخروج منها عبر بوابة النظام الديمقراطي الانتخابي، وبالتالي تعزيز البنية الليبرالية نفسها.
تزعم الليبرالية الهندية، إضافة إلى ذلك، أنه مذ كان على القوى السياسية بمختلف توجهاتها، من الشيوعية إلى الفاشية، الخضوع لمعايير الاقتراع العام والانتخابات متعددة الأحزاب، فإن عليها في الوقت نفسه الاقتراب من الوسط الليبرالي بمجرد الشروع في ممارسة السلطة السياسية. لأن المركز السياسي لهذه السلطة تقيده مؤسسات لا تقل عنه قوة، تتمثَّل في البيروقراطية المدنية وسلطة قضائية مستقلة وسلطة رابعة حرّة، فضلًا عن مجتمع مدني نشط وفاعل. وبالفعل، يوجد أمام المرء وفرة من الأدلة الأمبريقية ليصوغ منها رواية وجيهة عن الهند في ما بعد الاستقلال على أساس هذه المقدمات. ووجاهة هذه الرواية هي ما تعطي تلك الحجة قوتها الإقناعية.
من ناحية أخرى، ينبِئنا المسار الرئيس للحياة السياسية الهندية على مدى ربع القرن الماضي – لنَقُل من 1990 إلى 2015، وبالأخص بعد زيادة اتضاحه عقب انتخابات 2014 – عن تحولٍ مطرد نحو اليمين، كميًا ونوعيًا، لدرجةٍ كان معها اليمين لا يتحرك نحو الوسط الليبرالي، رغم التنازلات التكتيكية العرضية، إنما كان الوسط الليبرالي هو الذي يتحرك باستمرار نحو اليمين. يبدو أن النظام السياسي الهندي يمر اليوم بمرحلة لا مثيل لها على مر التاريخ: الصعود الجارف لليمين المتطرف وهيمنته على مجالات واسعة من الثقافة والمجتمع والأيديولوجيا والاقتصاد، وإنْ حدث ذلك مع الالتزام بمراعاة جميع المعايير المؤسسية للديمقراطية الليبرالية.
إن هذا العزم على قطع «مسيرة طويلة من خلال المؤسسات» والاستيلاء على كامل سلطة الدولة، لا من خلال الاستيلاء المباشر– كعادة ثورات اليسار واليمين– بل من خلال اختراق المؤسسات من داخلها وسيطرة الموظفين عليها بتخطيط متأنٍ وبطريقةٍ شرعية وقانونية مع الحفاظ على سلامة المؤسسات وعدم المساس بها، يطرح نوعًا مختلفًا تمامًا من الأسئلة: أيوجد حقًا تناقض أصيل، فجوة لا يمكن سدها، بين مؤسسات الديمقراطية الليبرالية واستيلاء اليمين المتطرف على الدولة؟ بصيغة أخرى: أيمكن لليمين المتطرف أن يستولي على الحكم ويحقق أجندته من خلال المؤسسات الليبرالية؟
ما اليمين المتطرف في الهند؟
سنتطرق إلى بعض التفاصيل الوقائعية بعد قليل. أما الآن فحسْبنا الإشارة إلى كتلةٍ من القوى باتت تهيمن في الهند تحمل أيديولوجيتها تعريفًا دينيًا ثقافيًا للدولة يؤدي دورًا أشبه بدور نظريات العرق في الأيديولوجيا النازية، وحسْبنا الإشارة أيضًا إلى أن ما تلقاه رئيس الوزراء الحالي ناريندرا مودي من دعمٍ ومساندة، بالأقوال والأفعال، من جميع الشركات الكبرى تقريبًا خلال سعيه إلى السلطة، يذكرنا بتعريف موسوليني الشهير للفاشية بأنّها شكل من أشكال الدولة، تتوحد فيه الحكومة والشركات.
سنتناول مسألة الفاشية في هذا السياق بايجاز في موضع مقبل من هذه المادة. لكن، تجدر الإشارة إلى أنه خلافًا لجميع أيديولوجيات اليمين المتطرف الأوروبي اللاعقلاني في فترة ما بين الحربين العالميتين– سواء كانت أيديولوجيا نازية أو فاشية أو مجرد أيديولوجيا عسكرية– وخلافًا لنظيرتها الإسلامية أيضًا، لم تصغ أيديولوجيا الهندوتفا المتطرفة أي خطاباتِ رفضٍ أو ازدراء لليبرالية الديمقراطية.
لا ينطبق وصف «اليمين المتطرف» هنا على الحزب الحاكم الحالي: بهاراتيا جاناتا (ح.ب.ج) يعمل هذا الحزب بصفته حزبًا سياسيًا، لكنَّه في الحقيقة جبهة يمينية لليمين المتطرف الذي يمثله في المقام الأول حزب راشتريا سوايامسيفاك سانج RSS (منظمة المتطوعين الوطنيين). بالمقابل، فقد دربوا مئات الآلاف من كوادرهم على بناء آلة انتخابية كفوءة ومنيعة بهدف المنافسة في صناديق الاقتراع، واقترحوا عديدًا من التغييرات المهمة في الدستور الهندي.
لكن، ما من خطابٍ ضد الشكل الدستوري الديمقراطي الليبرالي، على العكس من اليسار الشيوعي الهندي الذي يدأب على انتقاد «الديمقراطية البرجوازية»، بينما في الآن ذاته يشارك، بل يبذل في الواقع قصارى جهده ليشارك، في جميع طقوسها وقواعدها الإجرائية. لكنّ هذا الالتزام العلني غير المشروط بمعايير الديمقراطية الليبرالية يتناقض تمامًا مع التنظيم الذاتي عند الجهاز المركزي لحركة هندوتفا نفسها، كما سنرى لاحقًا.
على أرض الواقع، يتجلى هذا الالتزام بالشكل الديمقراطي الليبرالي في ميدان السياسات الانتخابية. أما في الحياة الاجتماعية، فيُستَخدَم العنف الغوغائي المنظم باستمرار، لكنه يصوَّر على الدوام بأنَّه رد فعل على سوء سلوك الأقليات المسلمة أو المسيحية. على أي حال، لا يمكننا في الوقت الحالي الجزم بشأن ما إذا كان غياب المعارضة العلنية للدستورية الليبرالية يُعَدّ التزامًا دائمًا أم قرارًا براجماتيًا يمكن إلغاؤه لاحقًا.
يتولى قيادةَ تلك الشبكات المعقدة والمتعددة المستويات لليمين المتطرف منظمةُ المتطوعين الوطنيين، وبصورة ثانوية، حزب بهاراتيا جاناتا (حزب رئيس الوزراء نارندا مودي) عبر جبهته السياسية، وفي الوقت نفسه تتولى «المنظمة» قيادة آلاف الجبهات في جميع أنحاء البلاد حرفيًا، تغطي جميع الفئات الاجتماعية في المجتمع الهندي، سواء صُنِّفَت حسب الطبقة (الكاست) أو المهنة أو اللغة أو المنطقة أو أيٍّ كان.
إن هذا الشكل التنظيمي شديد المركزية في أسسه، والمتعدد الجوانب والمنظم بمرونة في بعض الأوجه الأخرى، يتعامل بأسلوبٍ استراتيجي مع حقيقة أن الهند من أكثر المجتمعات تنوعًا في العالم، ولا بد أن محاولة دمج جميع طوائفه معًا في مشروع سياسي واحد مهيمن ستتطلب قدرة عظيمة على الرؤية والتنظيم يجب أن تستمر فترة طويلة، لا يمكن التنبؤ بمدتها. لا يقتصر الهدف على الفوز بالانتخابات وتشكيل الحكومات، بل يمتد إلى تغيير المجتمع الهندي في جميع المجالات الثقافية والدينية والحضارية. لذا، يُعَدّ تحصيل السلطة السياسية وسيلةً لتحقيق هذه الغاية.
منظمة المتطوعين الوطنيين
أُسِّسَت المنظمة قبل تسعين عامًا، عام 1925، على مبدأ جرامشيٍّ لافت، مؤداه أن أي سلطةً سياسية دائمة لا يمكن أن تنشأ إلا على أساس تحول وتوافق ثقافي مسبق، ولا يمكن بناء هذا التوافق الثقافي العريض على مبادئ اليمين المتطرف إلا من خلال سيرورةٍ تاريخية طويلة تبدأ من القاع. يترتب على هذا التبلور الأيديولوجي للاستراتيجية طويلة المدى أنه إذا نجحت المنظمة في تكوين شكل خاص من الذاتية الاجتماعية للغالبية العظمى من الهندوس في الهند، وهؤلاء يشكلون بحسبما يُقال حوالى 80% من سكان الهند (سنتطرق لهذا الادعاء لاحقًا)، وإذا كان بالوسع توحيد هؤلاء جميعًا بصورة إيجابية في السعي وراء مهمة حضارية، وبصورة سلبية في معارضة مستمرة لعدو وهمي (الأقليات المسلمة والمسيحية)، على غرار سعي النازية لتوحيد الأمة الألمانية ضد اليهود، فعندئذٍ يمكن تحويل الأغلبية الديمغرافية إلى أغلبية سياسية دائمة.
في هذه الحالة، يمكن لما قد يسميه اليسار باليمين المتطرف أن يتولى الحكم بكل سهولة من خلال مؤسسات الديمقراطية الليبرالية في الهند التي كيفت نفسها بالفعل على التعامل مع الأقليات الدينية بالاستخدام الدقيق للعنف غير المفرط.
لا يوجد نظير لهذه البنية الفكرية في الأنظمة الاستبدادية اللاعقلانية في المناطق الأوروربية والأمريكية خلال سنوات ما بين الحربين العالميتين وما بعدها. لا يسعني التفكير إلا بمثال واحد قريب لهذه البنية نجده عند بعض، وليس كل، أفرقاء الإسلام السياسي من قبيل رشيد رضا والجماعة التي انحدر منها التصور الأصلي عن السلفية، والأفكار التأسيسية عند الإخوان المسلمين عند البنا وغيره، وبعض التيارات المعاصرة التي خرجت من عباءة الإخوان المسلمين كحركة «النهضة» في تونس و«حماس» في فلسطين، والمفكرين الإسلاميين أصحاب التأثير والمعرفة الواسعة من جماعة الإخوان المسلمين المقيمين في الغرب اليوم مثل طارق رمضان.
فالفكرة في جوهرها واحدة: تأمين الهيمنة الأيديولوجية الدينية الثقافية أولًا، والاستفادة من حقيقة أن المؤسسات الليبرالية لا تعرقل سلطة اليمين المتطرف بالضرورة، ومن ثم بناء سلطة سياسية يكتب لها الدوام عبر الزمن من خلال الجمع بين المحافظة الدينية والثقافية وعنف الأغلبية والرأسمالية النيوليبرالية ضمن الإمبريالية ومؤسسات الحكم الديمقراطية الليبرالية في الداخل.
على أرض الواقع، سعت منظمة المتطوعين الوطنيين إلى معالجة معضلة تاريخية تتعلق بامكانية الثورة في العصر الليبرالي، سواء من اليمين أو اليسار. بطبيعة الحال، تناول المفكر الكبير أنطونيو جرامشي هذه المعضلة باستفاضة وعظمة فكرية كبيرة. لكنَّ تناوله اقتصر على الناحية النظرية، ولم يتناولها على المستوى التنظيمي؛ كيف له أن يتناولها تنظيميًا من داخل السجن؟
عالجت منظمة التطوع الوطنية هذه المعضلة من الناحية التنظيمية، على مدى عقود، عن طريق التجربة والخطأ، وحققت نجاحًا لافتًا حتى الآن، ولو أن مسألة ما إذا كانت ستحقق النجاح التام في نهاية الأمر أم لا ما تزال غير واضحة. طُرِحَت هذه المعضلة أمام التقليد اللينيني على النحو التالي: تأخذ كوادر الأحزاب على عاتقها صنع الثورات، وتتمتع هذه الكوادر بالقدرة على خلق ما يشبه دولة موازية ضد دولة لا يعترف الشعب بشرعيتها (سواء لأنها دولة قيصرية كروسيا القيصرية أو لأنها دولة السيد الاستعماري)، وتستطيع هذه الكوادر مواجهة عنف الدولة بالعنف الثوري، وفي لحظات الأزمة الثورية القصوى، تستطيع الاستيلاء على السلطة من خلال الهجوم المباشر، وتفكيك تلك الدولة، وإقامة دولة من نوع جديد.
لكن بمجرد شروع الحكومة التمثيلية بتأسيس نظام ديمقراطي ليبرالي بجميع تفاصيله، وإشاعة الذاتية السياسية البرجوازية المؤمنة بمعايير الشرعية الليبرالية وأولوية الديمقراطية التمثيلية، يجد الثوار أنفسهم أمام موقف صعب: إما رفض المشاركة في هذه «الديمقراطية البرجوازية»، وبالتالي التهميش السياسي، أو المشاركة في الانتخابات الديمقراطية الليبرالية، والتخلي عن طموح إنشاء حزب ثوري طليعي، وبالتالي الالتزام بالتحول نحو الاشتراكية من بوابة الانتخابات.
إنها معضلة حقيقية لا مفر منها. في الهند، اختار الحزب الشيوعي الهندي (الماوي) طريق العنف الثوري، ليحكم على نفسه بالتهميش السياسي والتشرذم الداخلي. من جهته، اختار اليسار البرلماني ممثلًا في الحزبين الشيوعيين: الحزب الشيوعي الهندي (CPI) والحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) )(CPI(M) خوض الانتخابات، ليعترف فعليًا بشرعية الدولة الليبرالية والشكل المحدد من الدستور الهندي، وبالتالي إقفال الباب أمام الخيار الثوري، بغض النظر عن مواقفه الخطابية. كان الطريق مسدودًا من الجانبين.
عالجت منظمة التطوع الوطنية هذه المعضلة من اليمين المتطرف، تنظيميًا وليس نظريًا. كانت وثائقها مملة ومن الصعب فهمها في أحسن الأحوال بسبب غباء محتواها، لكن ممارساتها التنظيمية كانت بالغة الروعة.
كيف ذلك؟ سنناقش هذا السؤال بالأدلة في الأجزاء التالية.