حلم أينشتاين غير المكتمل: زواج النسبية بعالَم الكم
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
يصادف نوفمبر 2015 الذكرى المئوية لنظرية ألبرت أينشتاين في النسبية العامة، وكانت هذه النظرية تتويجًا لإنجازات الحياة العلمية الاستثنائية لأينشتاين، فقد علمتنا أن الفضاء نفسه مرن، ينحني و يتمدد تحت تأثير المادة والطاقة. أحدثت أفكاره ثورة في رؤية الإنسانية للكون وأضافت مفاهيم هائلة كالثقوب السوداء والثقوب الدودية لمخيلاتنا.
تصف نظرية آينشتاين في النسبية العامة مجموعة واسعة من الظواهر، من لحظة بدء الخلق إلى نهاية الوقت، وحتى رحلة من أعماق الفضاء وصولًا إلى الثقب الأسود المفترس، مارًا عبر نقطة اللاعودة لأفق الحدث، إلى أسفل، إلى أسفل، إلى أسفل، إلى المركز تقريبًا، حيث تتربص الوِحدة.
في عمق العالم الكمي
إن كنت قد قرأت الفقرة الأخيرة بعناية، فسوف تلاحظ أنني عبرت عن كلمة «تقريبًا» مرتين، ولم يكن ذلك من قبيل الصدفة. وقد تجلت نظرية أينشتاين ببراعة على مستويات واسعة النطاق، حيث تفسر بشكل حاذق سلوك دوران النجوم النابضة الثنائية ومدار كوكب عطارد، وتمثل أيضًا عنصرًا حيويًا في النظام العالمي لتحديد المواقع (GPS) الذي يساعد الكثيرين منا في التنقل بسياراتنا كل يوم.
ولكن بداية الكون والمنطقة القريبة من مركز الثقب الأسود تعدان عالميْن مختلفيْن للغاية، إنها عوالم الكم. مقاييس الحجم في تلك البيئات مقاييس دون الذرية، و هنا تبدأ المشكلات.
تزامنت ذروة أينشتاين مع ولادة ميكانيكا الكم، وقصص مناظراته مع عالم الفيزياء نيلز بوهر حول التنبؤات الحدسية والاحتمالية للنظرية أسطورية. و قد اشتهر بقوله «لا يلعب الله بالنرد مع الكون».
ومع ذلك، بغض النظر عن ازدرائه لنظرية ميكانيكا الكم، كان أينشتاين مدركًا جيدًا للحاجة إلى فهم عالم الكم. وفي سعيه لفهم وتفسير النظرية النسبية العامة، سعى لفهم كيفية عمل الجاذبية في نظريته الملحمية عندما يتم تطبيقها على العالم متناهي الصِغر. ويمكن تلخيص النتيجة في ثلاث كلمات: فشل فشلًا ذريعًا.
بناء جسر من العالم الكمّي إلى النسبية
قضى أينشتاين بقية حياته، دون جدوى، في السعي إلى طريقة لدمج نظريته النسبية العامة مع ميكانيكا الكم. في حين أنه من المغري أن أحكي تاريخ هذه المحاولة، فإن هذا الاجتهاد من مصلحة المؤرخين في المقام الأول. ففي نهاية المطاف، لم ينجح، أي شخص في العقود التي تلت. [Einstein’s Biggest Triumph: A Century of General Relativity (Op-Ed)]
بدلًا من ذلك، يعد من المثير للاهتمام بشكل أكبر أن نعرف المشاكل الأساسية المرتبطة بتزاوج هاتين النظريتين المحوريتين في أوائل القرن الـ20. وتعد القضية الأولية قضية نظامية؛ النسبية العامة تستخدم مجموعة من المعادلات التفاضلية التي تصف ما يسميه علماء الرياضيات بالفضاء السلس القابل للتفاضل. بلغة أبسط، يعني ذلك أن رياضيات النسبية العامة سلسة، بدون أي حواف حادة.
في المقابل، تقدم ميكانيكا الكم وصفًا لعالم الكم، على سبيل المثال، العالم الذي تأتي فيه المادة على صورة قطع منفصلة. وهذا يعني أن هناك جُسيمًا هنا، وليس هناك، وتكثر به الحواف الحادة.
التشبيه بالمياه
من أجل توضيح هذه الصياغات الرياضية المختلفة، يحتاج المرء أن يفكر قليلًا، على نحو أعمق من المعتاد، بشأن مادة مألوفة جدًا نعرفها جيدًا: الماء السائل. ودون حتى أن تعرفه، تجد أنك تحمل بالفعل اثنتين من الأفكار المختلفة بشأن المياه التي توضح التوتر بين المعادلات التفاضلية والرياضيات المنفصلة.
على سبيل المثال، عندما تفكر في تجربة مألوفة مثل تحريك يدك في الماء، فأنت تفكر في الماء باعتباره مادة مستمرة. الماء بالقرب من يدك يشبه الماء من مسافة قَدم. قد تكون المياه البعيدة أسخن أو أبرد أو تتحرك بسرعة مختلفة، ولكن جوهر الماء هو نفسه. كلما فكرت في أحجام مختلفة من المياه بالقرب من يدك، وبالبعد عنها، فسوف تحصل على نفس التجربة. حتى إذا كنت تفكر في جسمين من المياه مفصولين فقط بمليمتر أو نصف مليمتر، فالمسافة التي تفصل بينهما تتكون أيضًا من المياه. في الواقع، الرياضيات المختصة بتدفق السوائل والاضطرابات تفترض أنه لا يوجد جزء لا يتجزأ من الماء. بين أي نقطتين عشوائيتين متقاربتين في المسافة، دائمًا وأبدًا سوف يكون هناك ماء. الرياضيات التي تصف هذا الوضع هي المعادلات التفاضلية. عندما نصل إلى جوهرها، نجد أن المعادلات التفاضلية تفترض أنه لا يوجد أصغر مسافة على الإطلاق.
لكنك تعلم أيضًا أن هذا ليس صحيحًا، فأنت تعرف بعض المعلومات بشأن جزيئات الماء. إذا وضعت في الاعتبار مسافات أصغر من نحو ثلاثة أنجستروم (حجم جزيء الماء)، فكل شيء يتغير. لا يمكنك أن تصل إلى أصغر من ذلك؛ لأنك عندما تقترب إلى مسافات أصغر، فإن الماء نفسه لم يعد مبدأً مفهومًا. في هذه المرحلة، تكون قد بدأت في التحقق من المساحة الفارغة داخل الذرات، حيث تحوم الإلكترونات حول نواة صغيرة وكثيفة. في الواقع، تستند ميكانيكا الكم على فكرة أنه هناك أصغر الأشياء والمسافات والطاقات المنفصلة. هذا هو السبب في أن الغاز الساخن ينبعث منه الضوء عند أطوال موجية محددة: الإلكترونات تدور عند مستويات طاقة محددة، مع عدم وجود مدارات بين القلة المحددة.
وهكذا فإنه يتعين على نظرية الكم المناسبة للمياه أن تأخذ في الاعتبار حقيقة أن هناك جزيئات فردية. هناك مسافة صغرى، و عندها تكون فكرة “المياه” مهملة.
وهكذا، نجد عند صلب الموضوع أن الرياضيات في كلا النظريتين (مثلًا: المعادلات التفاضلية في النسبية العامة والرياضيات المنفصلة لميكانيكا الكم) هي في الأساس غير متفقة.
هل يمكن دمج النظريات؟
لا يعد ذلك في حد ذاته عقبة لا يمكن التغلب عليها. ففي نهاية المطاف، يتم وصف أجزاء من ميكانيكا الكم بشكل جيد من قبل المعادلات التفاضلية. ولكن المشكلة هي أنه عندما نحاول أن ندمج النظريتين، نحصل على الكثير من اللانهائيات. وعندما تنشأ لانهاية في عملية حسابية، فهي راية حمراء تدل على حدوث خطأ ما.
على سبيل المثال، افترض أنك تتعامل مع الإلكترون كجُسيّم كلاسيكي ليس له أي حجم، وقم بحساب مقدار الطاقة اللازمة لجلب اثنين من الإلكترونات معًا. إذا قمت بفعل ذلك، ستجد أن الطاقة المطلوبة لا نهائية. واللانهاية بالنسبة لعالِم الرياضيات تعد مسألة كبيرة. هذه طاقة أكبر من كل الطاقة التي تنبعث من كل النجوم في الكون المرئي. في حين أن هذه الطاقة حجمها مذهل، إلا أنها ليست بلا حدود. أن نتخيل طاقة الكون كله مرتكزة في نقطة واحدة فقط هو شيء ببساطة لا يُصدق، والطاقة اللانهائية أكبر من ذلك بكثير.
لذلك، تمثل اللانهاية في الحسابات الحقيقية إشارة واضحة أنك دفعت النموذج الخاص بك خارج نطاق التطبيق الواقعي، وتحتاج للبدء في العثور على بعض المبادئ الفيزيائية الجديدة التي كنت قد أغفلتها في نموذجك المبسط.
في العصر الحديث، حاول العلماء حل نفس المعضلة التي حيّرت أينشتاين. والسبب بسيط: إن الهدف من العلم هو شرح كل ما يكوّن الواقع المادي، من أصغر الأشياء الممكنة إلى الكون العظيم.
يكمن الأمل في إظهار أن جميع المواد تتكون من عدد قليل من لبنات البناء (ربما واحدة فقط) وقوة كامنة واحدة نشأت منها جميع القوى التي نعرفها اليوم. من الأربع قوى الأساسية المعروفة من الطبيعة، استطعنا أن نستنبط نظريات الكم من ثلاثة: الكهرومغناطيسية، القوة النووية الهائلة، والقوة النووية الضعيفة. ومع ذلك، فإن نظرية كمّ للجاذبية استعصت علينا.
تعد النسبية العامة بلا شك تقدمًا هامًا. ولكن حتى نتمكن من وضع نظرية كم للجاذبية، لا يوجد أمل في وضع نظرية موحدة لكل شيء. وفي حين أنه لا يوجد إجماع في الوسط العلمي على اتجاه صحيح للُمُضيّ قُدمًا، هناك بعض الأفكار التي حققت نجاحًا محدودًا.
نظرية الأوتار الفائقة
تعتبر نظرية الأوتار الفائقة أفضل نظرية نعرفها يمكنها أن تصف الجاذبية في العالم الكبير. في هذه النظرية، لا ينبغي أن يُعتقد أن أصغر الجزيئات المعروفة هي على شكل كرات، ولكن أوتار صغيرة نوعًا ما، وكأنها بشكل ما: قطعة صغيرة جدًا من السباغيتي غير المطبوخ أو حلقات متناهية الصغر. وتكمن الفكرة الأساسية في أن هذه الأوتار الصغيرة (التي هي أصغر بالمقارنة مع بروتون من البروتون عند مقارنته بالكم) تهتز، ويقدم كل اهتزاز جسيمًا أساسيًّا مختلفًا.
وعند استخدام استعارة موسيقية، قد يكون الإلكترون ممثلًا بنغمة «لاه»، في حين أن الفوتون يمكن أن يكون ممثلًا بنغمة «ريه»، وذلك بنفس الطريق التي يمكن بها أن يكون لوتر واحد من الكمان العديد من النغمات، فيمكن لذبذبات الوتر الفائق الواحد أن تكوّن جزيئات مختلفة. جمال نظرية الأوتار الفائقة هي أنها تسمح لأحد الاهتزازات أن تكون جرافيتون، وهي جسيمات لم يتم اكتشافها ولكن يُعتقد أنها الجسيمات التي تسبب الجاذبية.
جدير بالذكر أن نظرية الأوتار الفائقة لم يتم قبولها بصفة عامة، والواقع أن البعض في الوسط العلمي لا يعتبرها حتى نظرية علمية على الإطلاق. والسبب هو أنه، من أجل أن تكون النظرية علمية، يجب أن تكون قابلة للاختبار، ولها القابلية أن يثبت خطؤها. ومع ذلك، فإن الحجم الصغير جدًا لهذه الأوتار النظرية يجعل من الصعب لنا أن نتصور أي اختبارات يمكن القيام بها في المستقبل المنظور. وكما يقول البعض، إذا كنت غير قادر على اختبار الأمر بشكل واقعي، فإنه ليس علمًا.
شخصيًّا، أعتقد أن هذا الرأي متطرف، فبإمكان المرء أن يتصور إجراء الاختبارت عندما تتقدم التكنولوجيا. ولكن هذا الوقت سيكون في المستقبل البعيد.
وهناك فكرة أخرى لتفسير الثقالة الكمومية تسمى «حلقة الثقالة الكمومية». تكمم هذه النظرية الزمكان نفسه. وبعبارة أخرى، يفترض هذا النموذج وجود أصغر جزء من الفضاء وأقصر جزء من الوقت. وتشير هذه الفكرة الاستفزازية، من بين أمور أخرى، إلى أن سرعة الضوء قد تكون مختلفة عند أطوال موجية مختلفة. ومع ذلك، يعد هذا التأثير، إن كان موجودًا، صغيرًا ويتطلب أن يسافر الضوء لمسافات كبيرة قبل أن يمكن ملاحظة هذه الاختلافات. ولتحقيق هذه الغاية، يراقب العلماء انفجارات أشعة جاما، وهي انفجارات ساطعة جدًا بحيث يمكن رؤيتها عبر مليارات السنين الضوئية، و هو مثال للكون و هو يقوم بمساعدة العلماء على دراسة ما هو مجهري.
الحقيقة المبسطة هي أنه ليس لدينا حتى الآن نظرية جيدة ومقبولة بشكل عام للجاذبية الكمومية. ويعد السؤال ببساطة صعبًا جدًا في الوقت الراهن. فلطالما قاوم العالم الكمٌي الصغير وعالم الجاذبية الكبير فكرة الحياة الزوجية السعيدة، على الأقل في الوقت الراهن، حيث يستمران في المقاومة. ومع ذلك، لا يزال العلماء يعثرون على ما يربط بين العالمين. وفي هذه الأثناء، لا تزال نظرية الثقالة الكمومية واحدة من الأهداف التي يطمح إليها العلم الحديث، على أمل أن يتمكن في يوم من الأيام من تحقيق حلم لم يكتمل لأينشتاين.