قال أحد الفلاسفة منذ فترة أنه يشعر بالملل الشديد، ويحقد على علماء الفيزياء والفلك، والسبب ببساطة هو أن مجال الفلسفة أصبح مُغلقًا نوعًا ما ومقتصرًا على عصر الأفكار الكبرى للقرون السابقة، من ماركسية وحداثة وما بعد حداثة ووجودية وغيرها، ولم يعد بمقدوره ابتكار أفكار كبرى جديدة تقلب عالم الفلسفة رأسًا على عقب كما فعل ماركس ونيتشه وغيرهما يومًا ما، في حين أن دراسة الكون المادي المحيط بنا لا تزال تجود علينا بالمفاجآت من حين لآخر، ولا تزال أبوابها مفتوحة أمام اكتشافات ونظريات كبرى جديدة تكمّل الصورة التي وُضِعَت أجزاءٌ منها في القرن العشرين.

يبدو كلام الرجل صحيحًا بالفعل بالنظر للمفاجآت التي تأتينا بها أحدث الأجهزة في عالم الفيزياء في السنوات الأخيرة، فجائزة نوبل لعام 2006 ذهبت للقائمين على مشروع “كوبي” COBE المسؤول عن التقاط أشعة الميكروويف المنتشرة بطول الكون وعرضه، والمعروفة بأشعة الخلفية الكونية Cosmic Background Radiation، وهي فعليًا “أصداء” الانفجار الكبير الذي يهيمن كفكرة على تصوراتنا عن بداية الكون، ليكون اكتشافهم بذلك دليلًا على حدوث الانفجار عبر “الاستماع لصداه،” ثم أتت جائزة نوبل لعام 2011 لثلاثة علماء أثبتوا عبر رصدهم للمستعرات (وهي انفجارات تقع حين تموت النجوم وتشع كميات هائلة من الطاقة) أن الكون يتمدد، بل وأن تمدده في تسارع.

أخيرًا جاءنا معجّل الجسيمات الشهير البالغ قطره 27 كيلومترًا تحت الأرض في سويسرا، وهو مصادم الهادرونات الكبير LHC، ليكشف لنا منذ بضعة أعوام عن الجُسَيم الذي يُكسِب أي شيء في الكون خاصية الكُتلة من الأساس، ليجيب لنا عن سؤال جذري في الفيزياء وهو لماذا تقترن المادة بالكُتلة، أو ببساطة لماذا لا توجد كل الأشياء طافية هكذا في الكون دون أن يكون لها وزن وتكتفي بوجودها كمادة فقط؟ لم يستتبع وجود الشيء المادي امتلاكه كُتلة تجعله عُرضة بالتبعية لقوة الجاذبية والسقوط وغيرها؟ لم يكن غريبًا بالطبع أن يحصل صاحبا النظرية التي تنبأت بوجود هذا الجُسيَم، والمعروف ببوزون الهيغز Higgs Boson، على جائزة نوبل للفيزياء عام 2014بعد أربعين عامًا من تنبؤاتهما.

المجال يعج بالفعل إذن بالأخبار السعيد والمفاجآت، وآخرها كان بالأمس حين اتجهت الأنظار باتجاه الولايات المتحدة، حيث يقبع كشّاف “لايغو” LIGO، والمنقسم لجزئين أحدهما في ولاية لويزيانا بالجنوب الشرقي والآخر بولاية واشنطن في الشمال الغربي، بعد أن تأكد التقاطه إشارات لأول مرة لـ”موجات جاذبية” (أو جذبوية أو تثاقلية،) كان تنبأ بها الفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين في نظرية النسبية العامة التي أتمت عامها المائة قبل أشهر قليلة.


ماذا التقط لايغو؟

كنا نعتقد حتى مطلع القرن العشرين أن الأرض تدور حول الشمس ببساطة نظرًا لقوة الجاذبية بين كتلتي الشمس والأرض، أو هكذا تصور الفيزيائي البريطاني إسحاق نيوتن، أن أي جسمين يمتلكان كُتلة يشدان بعضهما البعض بشكل يتناسب مع حجم تلك الكتلة والمسافة بينهما، فهناك نجوم أثقل كثيرًا من الشمس ولكنها بعيدة جدًا عنا بشكل لا يتيح لها اجتذاب الأرض لمدارها، كما أن القمر مثلًا الواقع في مجموعتنا الشمسية يدور حول الأرض الأخف بحوالي ألف مرة من الشمس نتيجة قربه الشديد من الأرض ومجال جاذبيتها، ولا يدور مباشرة حول الشمس كبقية الكواكب.

ما الذي تغير بعد القرن العشرين؟ أوليست تلك المعلومات تقريبًا هي التي ندرسها في المدرسة؟ في الحقيقة تُعَد نظرة نيوتن الكلاسيكية “تقريبًا” جيدًا للصورة الأكثر تفصيلًا التي حصلنا عليها بعد نظريات أينشتاين، لكن نظريات أينشتاين ليست فقط أكثر تفصيلًا وبالتالي أكثر قدرة على التنبؤ بظواهر غير كلاسيكية كالثقوب السوداء، بل وشديدة الإثارة أيضًا بالنظر للمفاهيم “الغريبة” فيها، فالنظرية النسبية العامة التي وضعها أينشتاين عام 1915 تقول أن الأجسام ذات الكتلة لا تجذب بعضها في الحقيقة، ولكنها بوجودها في المكان تُحدث “تعرّجات” فيه، وأن المكان ليس مجرد فراغ ولكنه كيان أشبه بالقماش الرفيع جدًا، والذي سيتأثر بالطبع إن وضعنا في وسطه مثلًا كرة بولينغ ثقيلة، ليُحدِث انعطافًا في المكان، وهو انعطاف سيُجبر أي جسم موجود بالقرب من الكرة على الدوران في فلكها، كما قد يحدث لبلية صغيرة إن اقتربت من كرة البولينغ، وكما يحدث بالفعل بين الأرض والشمس، فالشمس إذن لا تشد الأرض مباشرة كما تصور نيوتن، ولكن الأرض قريبة بما يكفي لتظل محبوسة في انعطاف حاصل بالفعل في نسيج المكان المحيط بالشمس.

انحناء الزمكان نتيجة ثقل الأجسام (كالشمس في الصورة)

إلى جانب تلك الفرضية الأساسية للنظرية النسبية العامة، تنبأ أينشتاين بوجود ظواهر شديدة الطاقة قد تؤدي لتموّج نسيج المكان، وهو تغيّر سرعة كتلة كبيرة، على غرار تحريك كرة البولينغ مثلًا من أعلى إلى أسفل بشكل عامودي على القماش الرفيع مما يؤدي فعليًا لموجات بطول سطح القماش مماثل للموجات الناتجة عن إلقاء كرة في الماء، وتلك الظواهر شديدة الطاقة قد تكون نجمين صغيرين وثقيلين شديدي السرعة يدوران حول بعضهما، أو انفجار كبير مصاحب لوفاة نجم، أو دوران نجم ذي طاقة هائلة حول نفسه، وغيرها الكثير.

منذ العام 1919 بدأت تأتينا الدلائل على صحة تلك النظرية من تجربة قام بها العالم البريطاني أرثر إدينغتون أثناء كسوف الشمس أثبت بها أن نسيج المكان منعطف بالفعل حول الشمس، وأنه يؤدي، كما تنبأ أينشتاين، لحدوث ميل في مسار الضوء القادم من إحدى النجوم، أي أن الضوء نفسه يتأثر بالانعطاف الحاصل في المكان، ومنذ ذلك الحين لم تتوقف على ما يبدو مسيرة رصد الدلائل من أجل إثبات صحة العبقري الألماني، والتي كان آخرها بالأمس.

في الحالة التي أُعلِن اكتشافها بالأمس فإن ثقبين أسودين كانا يندمجان مع بعضهما البعض، أحدهما ناتج عن نجم يزن 36 ضعف وزن الشمس، والآخر عن نجم يزن 29 ضعف وزن الشمس، أي أن المجموع يجب أن يبلغ 65 ضعف وزن الشمس، لكن الكتلة الجديدة التي نتجت عن الاندماج بلغت فقط 62 ضعفًا، مما يعني اختفاء كُتلة تبلغ ثلاثة أضعاف شمسنا، وهي لم تختف بالمعنى الحرفي للكلمة بالطبع، ولكن تحوّلت إلى طاقة بموجب النظرية النسبية الخاصة، وهي نظرية أخرى لأينشتاين أيضًا سبقت النسبية العامة بحوالي عشرة أعوام، والتي تقول بأن الكُتلة قد تتحول لطاقة والعكس، وأن كيلوجرامًا واحدًا فقط يساوي تسعين مليون مليار “جول” من الطاقة (وهي وحدة قياس الطاقة وتساوي تقريبًا الطاقة التي تستهلكها لرفع تفاحة إلى ارتفاع مِتر واحد،) والمعادلة الشهيرة لتلك الظاهرة، والأشهر ربما في عالم الفيزياء، هي E=mc2 .

كمية كبيرة من الطاقة بالطبع أنتجها الثقبان، تفوق كل الطاقة الضوئية التي أنتجتها نجوم الكون كافة في أثناء الفترة الزمنية نفسها لانبعاث الموجات الجذبوية (!)، وهو ربما ما جعلها شديدة بشكل أيقظ أجهزة ليزر لايغو من سباتها، وأتاح لها التقاط أول موجة جذبوية على الأرض ليتثبت البشر من وجودها بالفعل، بعد أن اقتصرت معارفهم سابقًا على الموجات الميكانيكية، كالصوت وموج البحر وموجات الزلازل، والموجات الكهرومغنطيسية الممثلة في الضوء المرئي وغير المرئي، وهو حدث جلل يعني أننا فتحنا نافذة جديدة على الكون لم نمتلكها من قبل، وأن العلماء سيبدأون من الآن وصاعدًا سباقًا محمومًا نحو تصميم تليسكوبات جذبوية لالتقاط الموجات القادمة من ظواهر أقل طاقة وبالتالي أصعب في التقاطها، بل لقد بدأوا في الحقيقة كما تشي لنا الأخبار القادمة من الولايات المتحدة وأوروبا في الفترة الماضية حتى قبل أخبار لايغو المثيرة بالأمس.


الجانب المظلم من الكون

الموجات التثاقلية
الموجات التثاقلية

لا تقتصر الإثارة فيما يجري على كون الاكتشاف هو الأول من نوعه، ولا على فتحه الباب لنافذة جديدة للنظر إلى الكون، وهي نافذة لن يكون سهلًا فتحها على مصراعيها على أي حال بالنظر لقصور التكنولوجيا الموجودة حاليًا على التقاط أحداث كونية شديدة الطاقة مثل اندماج ثقبين أسودين، واحتياجنا للانتظار لعقود قبل أن يصل العلم لأجهزة أكثر دقة من لايغو بمئات المرات لنتمكن من القول بثقة من أننا سننظر للكون بالكامل “بنظارات جاذبية” إن جاز القول، أو تليسكوبات جاذبية.

ما هو المثير في المرحلة المقبلة إذن؟ المثير هو قدرتنا على المقارنة بين الموجات الجذبوية لظاهرة شديدة الطاقة كتلك، وبين الموجات الكهرومغنطيسية العادية الملتقطة لنفس تلك الظاهرة، فبالنظر لكون “الفوتون” هو الجُسيم الحامل لظاهرة الضوء بكافة أنواعه، من الراديو والمايكروويف والضوء المرئي وحتى أشعة إكس وأشعة غاما النووية، وعدم وجود كُتلة له (وزنه صِفر) فإنه بالتبعية الجسم الأسرع في الكون كما تقول نظرية النسبية الخاصة، أما الموجات الجذبوية، والتي يعتقد البعض أنها تعتمد على جسيمات تُسمي بـ”الجرافيتون”، فإن الوقت المستغرق لالتقاطها إن تساوي مع الوقت المستغرق لالتقاط نظيرتها الكهرومغنطيسية لنفس الظاهرة، فسيكون بمثابة مفاجأة مفادها أن تلك الموجات لا تقل سرعة عن الضوء وأن أي جسيم حامل لها وزنه صِفر أيضًا، وإن حدث العكس فسيعني هذا بالتبعية أنها أبطأ، وأن أي جرافيتون إن وُجِد سيكون صاحب كُتلة على عكس الفوتون.

من التبعات المثيرة أيضًا لإعلان اكتشاف الأمس أن استخدام الموجات الجذبوية لرصد الثقوب السوداء يثبت بما يدع مجالًا للشك أنها موجودة بالفعل، إذ أن الاكتشافات في السابق قامت على التقاط أشعة غاما المنبعثة من تحول النجوم الثقيلة إلى ثقوب سوداء بعد موتها، بشكل جعل البعض يشك أصلًا في وجود الثقوب السوداء بالصورة التي نتصورها في أذهاننا عادة، أما الآن وبعد التقاط موجات جذبوية تسبب بها ثقب أسود بشكل مباشر، فإننا متأكدون من أن هناك ثقوبًا سوداء، أو على الأقل أجسام دائرية نوعًا ما شديدة الكتلة بشكل يؤدي لتموّج الزمان والمكان حولها لدرجة عدم قدرة الضوء نفسه، رُغم انعدام وزنه، على الهروب من قبضتها، ومن قدرة تلك الثقوب السوداء على الاندماج مع بعضها البعض كما تقول النظرية النسبية العامة.

تباعًا، ستتركز الجهود في السنوات المقبلة على التقاط إشارات جذبوية من مزيد من الثقوب السوداء، وسيكون بإمكاننا أكثر من أي وقت مضى سبر أغوار تلك الظاهرة العجيبة، والتي لم يُتح لنا الضوء في السابق معرفة الكثير عنها، وهو أمر ليس بغريب بالطبع فهي ثقوب “سوداء” في نهاية المطاف، والأمر لن يتوقف عند الثقوب في الحقيقة، ولكن سيمتد مع الوقت ليصل لظواهر عديدة خفية في الكون لعلها لم تخطر ببال أو تكشف عن نفسها بإشارات كهرومغنطيسية للبشر من قبل، ولكن ترسل إشارات جذبوية، وهو أمر سيمكننا من النظر إلى الجانب المظلم للكون، والذي يبلغ في الحقيقة حوالي 80% منه كما تقول النظريات الحالية، فالمادة المرئية قليلة جدًا مقارنة بالمادة المظلمة، ناهيك عن الطاقة المظلمة التي تستحوذ على أكثر من نصف الكون، وهي ظواهر لربما تنقشع ظلمتها في المستقبل القريب بفعل التليسكوبات الجاذبية، ولعل تلك العجائب القادمة من أعماق الكون تصبح كافية يومًا ما لإشعال مجال الفلسفة نفسه، كما فعلت في القرون السابقة، لتضع حدًا للملل الذي تسلل لقلب صاحبنا الفيلسوف.