جيل الثمانينات الذي في خاطري
لم أعتقد أنني سأصل لسنة 2019 بهذه السرعة، كانت تبدو بعيدة جدًا وشيئًا قد لا أدركه، سنة 2000 في حد ذاتها كانت تبدو إنجازًا لنا نحن أبناء الثمانينيات.
نحن الذين عاصرنا فترة الرسوم المدبلجة والثقافة الشعبية المشتركة، نحن الذين لعبنا في الأزقة وعدونا بين دروبها، نحن الذين خلدنا المناسبات في درب الحي وتقاسمنا السعادة التي لم تبدُ لنا عملة نادرة ساعتها.
نحن الذين حملنا وصلة الخبز لفرن الحي، وتنافسنا في من سيحمل أكبر عدد من صينيات الحلويات ومن الذي يمكنه حملها دون استعمال كلتا يديه، ساعة كان يكفي أن تخرج أمهاتنا وجاراتنا رؤوسهن من باب المنزل لنهرع لحمل حاجياتهن وإيصالها بأقصى سرعة ممكنة.
نحن الذين كان يشكل امتلاك أحدنا لدراجة هوائية طقسًا من طقوس السعادة والاحتفال ونحن نتناوب عليها، قبل أن يحول صاحب الدراجة الأمر لمشروع مدر للدخل، جولة واحدة بدرهم، عندما كان الدرهم يشتري كيس حلوى بداخلها لعبة.
نحن الذين عدونا بين طرقات الأحياء مخترعين ألعابنا بأدوات بسيطة، متناوبين على دور القيادة، مستمتعين بدور اللصوص تارة ودور الشرطة تارة أخرى. نحن الذين لم نكن نخشى الضياع متيقنين أن جيراننا سوف يهدوننا إلى ضالتنا مهما ابتعدنا، يوم كنا نملك في كل منزل من منازل الجيران أبًا وأخًا وأمًّا يربوننا كما يفعل آباؤنا الحقيقيون تمامًا.
نحن الذين تعلمنا من شخصيات الكرتون أن نملك حلمًا نحارب من أجله، ومن نشرة الأخبار أننا أمة واحدة قلبها فلسطين وأطرافها النابضة بالحياة مصر وسوريا والأردن ولبنان والعراق.. قبل أن ندرك أننا لم نعد أمة واحدة عندما فرقتنا المصالح الجيوستراتيجية والأيديولوجيات.
نحن الذين لم نعرف لفلسطين عاصمة غير القدس، ساعة كانت تسليتنا الوحيدة فك رموز الأحجيات وملء الكلمات المتقاطعة ورسم طريقنا في المتاهة.
نحن الذين لم نكن ننادي الأكبر سنًّا بـ«عمو» أو «خالتو»، لكن احترامهم كان يقر في قلوبنا دون حاجة لألقاب أو مسميات، نحن الذين تربينا في حضن عائلة كبيرة يدفيها حضن الجدات والأجداد، يوم كنا نخلد مناسباتنا جماعة، قبل أن نعرف أن الأجداد لم يعودوا جزءًا من العائلة.
نحن من عاصرنا قصص ماجد ومقالات العربي الصغير، وكنا نبحث عن أسماء وصور أصدقائنا في زاوية ركن التعارف في مجلة العندليب.
نحن الذين كنا نعتقد أننا سنكون جيل التغيير، الذي سيقضي على الأفكار البالية ليتصالح مع نفسه ويغدو وطنه العربي وطنًا واحدًا موحدًا قويًا. نحن الذين بحت حناجرنا في المظاهرات إبان الانتفاضة الثانية وعند استشهاد ياسين والرنتيسي وساعة سقوط بغداد. نحن الذين حملنا هموم الوطن العربي والإسلامي على أكتافنا، حين كان الحدث الذي يقع في العراق يجد صداه في المغرب الأقصى.
نحن الذين آمنا لسنين أن الحدود مجرد وهم وأننا ما إن نكبر حتى نرى فلسطين حرة وقد غدا بإمكاننا الصلاة جماعة عند بيت المقدس، وقد صار التجوال عبر الحدود العربية ممكنًا دون الحاجة إلى تأشيرة أو تصريح.
نحن الذين عايشنا ثورة التكنولوجيا وتصالحنا معها، منتقلين من استعمال الرسائل في طفولتنا المبكرة ومكتشفين للهاتف الأرضي بشغف جعل من هواياتنا تجريب الأرقام وإدارة دولاب الهواتف، ثم اكتشفنا أن التلفاز الذي كانت توحدنا برامجه سيصير مفتوحًا على مصراعيه لكل الأذواق والمشارب وسيغدو بإمكاننا معرفة ما يشاهده الألماني والبريطاني والأمريكي.
نحن الذين شاهدنا كل الأحداث الرياضية مجانًا باللغة الفرنسية والإسبانية بدءًا من الليغا مرورًا بعصبة الأبطال انتهاء برولان غاروس، ثم عاصرنا تعليقات الدراجي الفذّة على قناة الجزائرية، قبل أن يصدمنا التلفاز بقنوات الأغاني والأفلام، ساعة كنا نهرع لتغيير القناة خجلًا وحياءً.
نحن الذين تربينا على الثقافة المصرية التي كانت لزمن ثقافتنا المشتركة على امتداد الوطن العربي، وتعرفنا من خلالها على عادات المواطن البسيط في «ليالي الحلمية»، وشممنا عبق تاريخ ثورة الضباط الأحرار في «هوانم غاردن سيتي»، وتعرفنا على خان الخليلي من خلال «أرابيسك»، قبل أن تفاجئنا الدراما السورية بأعمالها التي تعمقت في وجدان المواطن العربي وأحيت انتماءنا للغة العربية الفصيحة، فسافرت بنا بين «العبابيد» و«الكواسر» قبل أن نستطعم حلاوة اللهجة السورية المميزة في «الدغري» و«الفصول الأربعة».
نحن الذين كنا نطرق الأبواب ونهرب قبل أن نكتشف الجرس الكهربائي فتأسرنا أزراره كأنما ملئت بالأسرار، ويفاجئنا الصوت القادم من خلف الباب كأنه تسجيل صوتي مهمته إفزاعنا.
نحن الذين انتقلنا من سماع صوت الأغاني عبر شرائط الكاسيت التي كان ينتهي بها الأمر عالقة بالمذياع، قبل أن نحولها إلى شتى الاختراعات التي لا تخطر ببال، ثم اكتشفنا أصنافًا أخرى من الوسائط قبل أن نستغني عن كل شيء لصالح الهاتف النقال.
نحن الذين رأينا أمهاتنا تلتحفن الحايك وتلبسن النقاب والجلباب المغربي الأنيق، ومن ثم عاصرنا التطور السريع في ثقافة اللباس والحياة، نحن الذين عرفنا ذات وقت أن الحجاب فرض فلبسناه قبل أن يخبرونا أنه لم يعد كذلك لتنزعه كثيرات منا.
نحن الذين أصبنا بالخيبات وعاصرنا الثورات والثورات المضادة ورأينا أبناء جيلنا يرمون بأنفسهم في البحار هربًا إلى المجهول من جحيم الحروب.
نحن الذين عاصرنا زمن سقوط القدوات واختلاط المفاهيم وارتجاج العقائد، نحن الذين اعتقدنا أننا فهمنا كل شيء لنستيقظ ذات يوم مكتشفين أننا لم نفهم شيئًا في لعبة السياسة والحياة.
نحن الجيل الذي وقف في منتصف الأشياء، في منتصف الحلم، في منتصف التطور، في منتصف التقاليد، في منتصف الحداثة، في منتصف التكنولوجيا. نحن الذين نبحث اليوم عما تبقى منا من الأمس، نحن الذين لا زلنا نتوق إلى التغيير ونحلم به رغم تتابع الخيبات، كأنما جبلنا على الحلم والأمل.