«الأوتوكيو»… هو الصفحة الضوئية التي تُثبَّت أسفل الشاشة، ومنها يقرأ الجميع نساءً ورجالاً، ويظن المشاهد أنه يُخبر ويدلي ويتفلسف من رأسه… لكن الحقيقة أن «الأوتوكيو» هو الذي يتكلم وما الشخص الذي ملأ الشاشة بعلمه ومعرفته ورخامة صوته سوی دمية تتكلم… إنها دمية «الأوتوكيو»، ناقلة كلمات المُعد حرفيًا… بما في ذلك الأخطاء اللغوية.
بروين حبيب، إعلامية بحرينية

عام 1948 شعر الممثل المخضرم «فريد بارتون جونيور» بالتوتر عند انتقاله من مسارح برودواي إلى التمثيل أمام عدسات التليفزيون؛ بسبب كثرة وطول النصوص المُطالب بحفظها يوميًا، واستحالة الاستعانة بملقن، فلجأ في البداية إلى الطريقة الشائعة حينها، وهي استعمال البطاقات التي يرفعها أحد العمال خلف الكاميرا، لكن الأمر كان غير مستقر، ويتسبب أحيانًا في تأخيرات أو أخطاء ، لذا اقترح بارتون على إيرفينج كان، نائب رئيس استوديوهات (20th Century Fox)، فكرة ربط البطاقات وتحريكها بطريقة آلية؛ ليتمكن من قراءتها بسهولة ودون أخطاء، فطلب (كان) مساعدة هوبرت شلافلي، مهندس الكهرباء، فشاركه في تنفيذ الفكرة باستخدام نصف حقيبة، ولفافة من «ورق اللحمة»، وسلسلة من الأحزمة والبكرات، ومحرك لتمرير البطاقات التي تعرض نص الممثل بينما يقرأ الكلمات أمامه.

وفي 21 أبريل/نيسان 1949، طلب شلافلي براءة اختراع لجهازه، وأطلق عليه (TelePrompTer)، مستغلاً الاعتماد الكبير عليه في برامج التلفزيون المختلفة، وبعدما تمت الموافقة على طلبه، أعلنت صحيفة نيويورك تايمز أنها ستقوم بتدريب ممثلي التليفزيون على كيفية الأداء المثالي والاستفادة من خبرات مقدمي الأخبار في الحفظ وتقوية الذاكرة… من هنا ولدت البداية.

لم تهتم شركة (20th Century Fox) بالاختراع، فقام الشركاء الثلاثة: شلافلي وبارتون وكان بالبدء في تأسيس شركتهم TelePrompTer Corporation، مستخدمين اختراعهم في الترفيه التليفزيوني لأول مرة في 4 ديسمبر/كانون الأول 1950، وحقّق الجهاز نجاحا مبهرًا وسريعًا في ظل تطوير مخترعيه له، حتى أصبح مصطلح TelePrompTer بمثابة أيقونة وعلامة تجارية.


كيف بدأ «الأوتوكيو»؟

واجه الكاتب والمنتج الأمريكي «جيس أوبنهايمر» المشكلة ذاتها التي واجهها بارتون، في أوائل الخمسينيات مع برنامجه التلفزيوني (I Love Lucy)، فبدأ في تصميم إصداره الخاص من جهاز TelePrompTer، ودشّن شركته (Autocue teleprompting) عام 1955، بعد حصوله على براءة اختراع لأول جهاز تصوير يتيح للقارئ أن ينظر مباشرة إلى عدسة الكاميرا ليقرأ النص وكأنه أمام مُلقن، فظهر الممثلون على التليفزيون وهم ينظرون مباشرة إلى الجمهور، وصارت العروض أكثر سلاسة، ومدعومة بقوة الاتصال البصري بين المشاهد والممثل، بعدها استُخدم الجهاز في نشرات الأخبار، واستُبدلت نصوص البرامج المطبوعة بنصوص مقروءة، ومن هنا بات Autocue منافسًا لـ TelePrompTer، واستخدمهما آلاف الصحفيين ومنتجي الفيديو والتليفزيون في كل بلدان العالم تقريبًا.

لكن الأمر لم ينته عند ذلك، ففي حين كان الجميع يرى الانتخابات الرئاسية عام 1952 منافسة سياسية، رآها إيرفينج بداية مستقبل جهازه، خاصة بعد معرفته أن الرئيس الأمريكي الأسبق «هربرت هوفر» قد واجه صعوبة في قراءة الخطب أثناء حملة الحزب الجمهوري الداعمة لترشح الجنرال دوايت أيزنهاور للرئاسة؛ بسبب أعراض الشيخوخة، فاستغل (كان) ذلك ليقنع هوفر وغيره من المتحدثين بتجربة الجهاز.

وبالفعل، حققت تقنيات الجهاز نجاحًا مذهلاً في مؤتمرات الحزب، وبنهاية موسم الانتخابات أدرك السياسيون أهمية الجهاز بعد أن استخدموه بكثافة، وأصبح أداة رئيسة في الحملات السياسية وإلقاء الخطب، حتى استُخدم رسميًاً للمرة الأولى في خطاب حالة الاتحاد عام 1954، وبالطبع كان أيزنهاور –الذي صار رئيسًا- هو أول رئيس يستخدم الجهاز، ومن هنا بدأت أسطورة Teleprompter.

وبمرور السنين واصلت تكنولوجيا الجهاز تطورها، لكن النص ظل مطبوعًا على الورق، حتى عام 1982، حين ابتكرت «كورتني جودن»، مهندسة الصوت بهوليوود، جهاز (Compu=Prompt) الذي حلت فيه البرامج وأنظمة الكمبيوتر محل الأوراق المطبوعة، لتتطور هذه الصناعة، وتصبح نظامًا مُحوسَبًا يمتلك العديد من مزايا العصر الرقمي، بما في ذلك تحرير النص وتحميله في لحظات، مما أدى إلى تطوير تقنياته، واستخدامه من قِبَل الجهات السياسية والإعلامية والإعلانية ومنتجي التلفزيون والسينما والمسرح.


رواية أخرى للأوتوكيو

هناك رواية تناقلتها مواقع ووسائل إعلام عربية حول اختراع «الأوتوكيو»، حيث تنسبه للمهندس اليمني «محمد علي العفيفي»، أحد أشهر مطوري التلفزيون اليمني منذ تأسيسه، والملقب بـ «أديسون اليمن»، بعدما تُوّج في سويسرا بالمركز الأول في مجال هندسة الكاميرات السينمائية.

ويؤكد العفيفي أن أغلب اختراعاته تناولتها وسائل الإعلام المقروءة والمرئية، «فالتقطت شركات كبيرة الفكرة وعملوا عليها؛ لأن لديهم الإمكانيات العالية» وفقًا لحواره الذي نقلته يمن برس، والذي قال فيه: «اخترعت جهاز (الأوتوكيو) عام 1979، وعمل عليه المذيعون، وتحدث الناس عن كيف أنهم يقرأون النشرة غيبًا، واستمر العمل به حوالي 6 أشهر ثم أوقفوه، حيث كان المفترض أن أشغل هذا الجهاز يوميًا وأنا لم أكن على استعداد للتفرغ لهذا العمل لأني كنت أعمل في ورشة كانت أفضل بالنسبة لي من العمل بإضافي»، وأكد العفيفي أنه رفض العمل بشركات عملاقة؛ لأنه كان يتمنى تسويق اختراعاته من اليمن؛ ليُقال إن اليمنيين ساهموا في إسعاد الإنسانية.


مميزات وعيوب «الأوتوكيو»

يعمل الجهاز على مبدأ أن أقوى نقطة في الكادر التلفزيوني هي عين المذيع؛ لأنها تحقق الاتصال بينه وبين المشاهد، وهو ما جعل الجهاز يزيد من قدرة المتحدث على التواصل مع الجمهور، وبدلاً من نظر المتحدث باستمرار إلى نص مطبوع، وكأن الجمهور أعلى رأسه، صار يتواصل معهم مباشرة عند التحدث إلى الكاميرا، كما حافظ على اتصال عيني المُخاطِب مع الحشود.

كل ذلك ساعد على خلق جو يُوحي بالتحدث بعفوية ومباشرة وارتجال، وجعل السياسي يهتم بأدائه وإلقائه للخطاب بدرجة أكبر، مما جعله «سلاحًا خفيًاً» يحظى بأهمية بالغة في الحملات الانتخابية الأمريكية؛ لأنه يعطي انطباعًا ببراعة كبيرة في تلاوة النص، ويمنح الخطيب حرية في الحركة، وقدرة على القيام بما يلزم لإلقاء الخطاب بطريقة جذابة وسلسة بلا أخطاء أو مشكلات.

وفيما يخص العيوب، فإن انتقال الخطيب من جهاز لآخر ربما ينتج عنه بعض الأخطاء، كما أن الجهاز قد يتعرض لبعض الأعطال الإلكترونية أو الكهربائية، أو يتم تحميل النصوص الخاطئة عليه، مثلما حدث في خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه بيل كلينتون عام 1994، مما اضطره لبدء الحديث مرتجلاً حتى يتم تحميل النص الصحيح.

إلى جانب ذلك فقد صارت الحملات السياسية والمؤتمرات الوطنية قائمة بالكامل على هذه الآلات التي باتت تتضمن كل حديث وحركة وسكون، وملاحظات للأداء والإلقاء، وربما هذا ما جعل خطاب السياسيين يبدو مُعلبًا لا روح فيه، لكونه مجرد استعراض وقراءة نص مكتوب سلفًا.

وهناك أخطاء أخرى لا ذنب فيها للجهاز، وهذا مما حدث مع «الأوتوكيو المصري».


«الأوتوكيو» بالنسخة المصرية

أحلم لبلادي بأن يكون النواب بعيدين عن هذه الموافقية المكرورة، والمناقشات الباردة لإثبات الحضور فقط، أو المعارضة الشكلانية، وألا يكونوا مجرد مذيعين لما تمليه السلطة… يعتمدون اعتمادًا كبيرًا على ما يُلقى في آذانهم عبر «الإير بيس» أو يُصوب إلى أعينهم عبر «الأوتوكيو»، وما عليهم إلا ترديد المعد سلفًا، والمقرر سابقًا، والمطلوب فقط أن يكونوا هم جسر عبوره إلى جماهير المتلقين.
مختار عيسى، من كتاب «حسب توجيهات السيد الشعب»

أكدت مذيعة قطاع الأخبار، نهى توفيق، في حوارها مع إعلام دوت أورج، أن مذيع الأخبار لا يمكنه رفض قراءة خبر، وأن المسئول عن صحة الخبر هو رئيس التحرير والمحرر، وواضع الخبر على «الأوتوكيو»، وأحيانا يُقال للمذيع في السماعة اقرأ هذا الخبر فورًا، كما أن الأخبار العاجلة تُقرأ فور ورودها دون قراءة مسبقة.

ربما ذلك هو ما جعل سجل «الأوتوكيو» المصري يحفل بوقائع عدة، منها ما قالته المذيعة «بثينة كامل» عام 2012، حين بدأت إحدى فقرات نشرة الأخبار بعبارة «وما زلنا مع النشرة الإخوانية»، تعليقًا منها على كثرة أخبار الإخوان المسلمين بالنشرة، وقد كررت المذيعة فعلتها في العام التالي، حين ختمت النشرة قائلة:

وهناك واقعة أخرى بطلتها المذيعة «منى شكر»، التي أذاعت بإحدى النشرات عام 2016، خبر الحكم على الرئيس الأسبق «محمد مرسي» بقولها: «تمَّ الحكم على السيد الرئيس» بدلاً من «الرئيس المعزول»، وهو ما وصفته المذيعة بأنه «زلة لسان»، إلا أن رئيس قطاع الأخبار أكد أن المذيعة خالفت «إسكربت» الخبر، ما استدعى إحالتها للتحقيق وإيقافها عن العمل.

«تم الإرسال من جهاز سامسونج»

أما أحدث صفحات سجل «الأوتوكيو» المصري، فكانت حين أذاعت المذيعة «نهى درويش» بيان النيابة العامة حول وفاة الرئيس الأسبق «محمد مرسي»، حيث ذكرت نقلاً عن «مصدر طبي مسئول»، أنه «تم وضع المذكور تحت الرعاية الطبية منذ نوفمبر 2017 وتقديم العلاج الطبي اللازم له بشكل دوري»، وختمت قراءة البيان بعبارة «وتم الإرسال من جهاز سامسونج»، وهو ما اعتبره البعض دليلاً على تلقي وسائل الإعلام تعليمات موحدة النص من جهة سيادية، ودليلاً على النقل الحرفي من جهاز «أوتوكيو» دون مراجعة من أحد.

«end of text»

تصبحون على عيش، حرية، عدالة اجتماعية، وكرامة إنسانية.

أما أبرز مواقف «الأوتوكيو» المصري فكانت من نصيب وزير الخارجية «سامح شكري»، أثناء قراءة بيان رسمي في حضور نظيرته المكسيكية بعد مقتل سياح مكسيكيين في حادث بالواحات في سبتمبر/أيلول 2015، حيث قال في نهاية بيانه عبارة (end of text)، التي تشير إلى نهاية بيانه ولا تجب قراءتها، مما دفع العديدين إلى السخرية من قوله وتفسيره بهاشتاج #مات_الكلام، الذي تصدر مواقع التواصل.

ووصل الأمر إلى حد تعليق مراسلة واشنطن بوست بأن شكري «يبدأ الكلام وينهيه دون فهم»، وهو ما وصفته وزارة الخارجية بأنه «تعليق يعكس غياب الخبرة السياسية لدى من عينتها الجريدة لتغطية الشأن المصري، وهو ما أدى إلى أخطاء مبتدئين»، وجاء الرد الرسمي للخارجية مؤكدًا أن «استخدام العبارة لم يكن بالخطأ وإنما كان لإنهاء البيان الرسمي المشترك بين وزير الخارجية المصري ونظيرته المكسيكية وفصله عما يليه من تصريحات».

ربما تكون هفوات وزلات أو أخطاءً ناتجة عن التسرع وعدم التحضير المسبق، وربما يُفهم من هذه المواقف حرص القيادات الإعلامية على ضمان عدم الخطأ أو مراعاة قواعد المهنية وسرعة الخبر، لكنه في الوقت نفسه قد يُشير إلى حرص شديد على التلقين، بحيث يصير «الأوتوكيو» أداة لضمان السيطرة والتحكم في «ماريونت الإعلام»، وفي كل الأحوال فإن «الأوتوكيو» كان وسيظل بطلاً خلف الكاميرات.