في الأيام الأخيرة من موسم عيد الأضحى الماضي، شاهدتُ فيلم «تاج» في سينما «صن مول» في بورسعيد، وفوجئت بوجود عدّة مقاعد قليلة شاغرة، يجلس عليها أربع صديقات، ينشغلن بالفيلم من وقت لآخر، للاستراحة من تبادل أحاديث شخصية.

على امتداد الفيلم، كانت القاعة تحملُ صدى أصوات النسوة الحاضرات، اللواتي كُنّ يضحكن في أوقات كثيرة، بفعل سُخرية حديثهما الخارجي، وفي أوقات أخرى، بفعل لقطة ساخرة، ذات دمٍ ثقيل وطابع شعبوي، من الفيلم.

تجربة المُشاهدة بالنسبة لي، كان لها طبقتان، الأولى معنيّة بالفيلم ذاته، كمادة فنّية، والثانية تتعلق بالترابط المُتجاوز للصدفة، بين مُشاهِدات الفيلم في حفلة السينما، والخِطاب الذي تُقدّمه شخصية تاج المركزية في الفيلم، التي تستمدُ ذات مركزيتها من أفكار تامر حُسني، الرجعية، والمُتعالية من ناحية ذكورية، والمنوطة برباط أخلاقي مؤسسي متين.

بطبيعة الحال، نجح فيلم «تاج» في شبّاك التذاكر، مثل كُل مُنتجات تامر حُسني، من فن وأفكار، أو حتى جُملة وصائية يكتبها على منصّات التواصل الاجتماعي، لأن لتامر حُسنى جمهوره الخاص، الذي يُجيد التواطؤ مع أفكاره، باعتبار حاجته للنموذج البُطولي الكامل، الذي تحقق لدى تامر حُسني بعمل فيلم يروّج لكود أخلاقي يرتبط بمشواره الفنّي، لكنّه الآن مُطعّم بصبغة البطل الخارق في سياق التفضيل، إذ إن تاج ليس بطلًا عربيًا خارقًا فقط، بل هو (أول وأقوى بطل عربي خارق).

الوقوف عند صيغة التفضيل والأسبقية في شخصية تاج باعتبارها مُضمّنة في خطاب مُسابق دائمًا يطمح إلى الفضيلة المُطلقة كلاميًا، يضعنا أمام مُقاربات نشوء البطل الخارق في السينما الأمريكية، ومروره الناشئ في السينما المصرية خلال السنوات القليلة الفائتة. تحضر عدّة أسئلة تتعلق بمُقاربات حضور البطل الخارق في السينما المصرية، وآلية توليف حكاية بهامش محلّي، ومتن عالمي مُطابق لأسس البطل الخارق الهوليودي، وننتهي عند تامر حُسنى ذاته، الذي يُمثّل انحرافه في مسار النقل الوفي، قليلُ الإبداع، ويُصعّد عملية الإحالة إلى استقطاع لإضفاء مزيد من الكمال والوصاية داخل المتن الفيلمي.

مسحة عالمية

أول شخصيتين خارقتين اكتسبتا تبعية بين قرّاء الكوميكس، هما سوبر مان وباتمان، إذ ظهرا في أواخر الثلاثينيات، خلال الحرب العالمية الثانية. جاء ظهور سوبر مان وبات مان، كقوة من أجل الخير، كيانات صليبية دؤوبة وخيّرة وفاعلة في تحقيق العدالة ومُحاربة الفساد وقوى الشر.

لم تكُن هناك حاجة، لمُواراة الدافع السياسي لدى ظهور سوبر مان وباتمان. بفعل ضرورة الحرب، وفضاء الإباحة التوجيهي مُعتاد الحضور في هذه الحالات، تحدد لمُحبّي البطلان الخارقان، علاقة مع مُؤازرة البلاد في الحرب، بينما من يعترضُ على الشخصيتين، أو إحداها، يُتم وصمه وضمّه للطرف الهتلري. في 1941 نُطالع قصّة كوميكس لشخصية سوبرمان، يستعدُ فيها لمواجهة هتلر شخصيًا، تحت عنوان «كيف سينتصر سوبر مان في الحرب؟».

لاحقًا، وبعد السيادة الأمريكية عقب الحرب العالمية، وخلال تفحّشها في سنوات الحرب الباردة، مُسحت شخصية البطل الخارق بمزيد من الحداثة الحكائية، خارج إطار وحدانية الدعاية الأيديولوجية في الحرب. تم تقديم شخصيات جديدة، بقوات وقدرات خارقة مُختلفة مثل Captain America، مع ضرورة أن تنطلق هذه الشخصية من أساس سياسي وعسكري واضح، إذ يبدأ كابتن أمريكا من رجل ضعيف، يتفحّش جسده بالكمال والقوة، بعد انضمامه إلى جيش الولايات المُتحدة، وأخذ مصل «الجندي الخارق»، لمساعدة البلاد في الحروب.

في الخمسينيات والستينيات، تعاظمت الحاجة الجماهيرية والمزاج الأمريكي إلى ظهور مرئي للأبطال الخارقين، استحالت مغامرات سوبر مان إلى عروض تلفزيونية، لكنها كانت مُفتقرة إلى عُنصر التأثير الدرامي وبابه السهل: البداية من المأساة.

على شاشة السينما، ظهرت سوبرمان في 1978، ثم 1989 بفيلم آخر، بينما باتمان ظهر بالتزامن مع فيلم سوبر مان الثاني، ونسخة باتمان الثانية، ظهرت في 1992، بمزاج حكائي حداثي أكثر، يُركّز على قيمة البطل الخارق من خلال قُوى الشر المُظلمة التي يواجهها.

عند هذه النقطة، بدا أن العالم السينمائي للأبطال الخارقين ذا أبعاد مركزية، تتمحور حول رحلة البطل، البادئة من الضعف، والمُنتهية بالانتصار، بينما قُوى الشر، مهما تتعاظم، فإنها تنسحقُ في الأخير.

المحطة الأخيرة، التي نشهدُ ذروتها الآن في أفلام الأبطال الخارقين، بدأت في 2008، بفيلم الرجل الحديدي- Iron Man، أول أفلام «MCU- عالم مارفل السينمائي» حيث تم تضمين الأبطال الخارقين ضمن سلاسل حكائية مُتداخلة، أصبح البطل الخارق، يُمثّل جُزءًا من مُجتمع، والعالم الذي يُحاول إنقاذه، أكثر تركيبًا وتداخلًا في قُواه المُظلمة.

مسارات إعادة الإنتاج

يتربّى تاج في ملجأٍ للأيتام، يكبرُ تحت رعاية مُتبنّية طيّبة، يعمل مُدرّس موسيقى، مسؤول وخيّر بشكل مُطلق، يتعرّف على زميلة في المدرسة (دينا الشربيني)، يُحبّها، ويفاجئ صُدفة أن لديه قُوى خارقة، وأنه أول وأقوى بطل عربي خارق.

قبل التطرق إلى موقع الفيلم من سينما البطل الخارق عربيًا وعالميًا، نتوقّف عند إطلاق الأولية على فيلم تاج، فأول فيلم بطل خارق عربي طبقًا للمعيار الهوليودي، الذي تتبّعه السينما المصرية في خلق نفس النوع الفيلمي، هو فيلم «العتبة جزاز»، إذ مثّل فؤاد المهندس شخصية «فرافيرو» التي استوفت كل شُروط البطل الخارق، لكنّها جاءت في سياق سُخرية، ضمن المسار المركزي للسُخرية في الفيلم المصري في الستينيات.

حديثًا، وبقياس جُمهوري، يأتي الرجل العنّاب ضمن موقع البطل الخارق من الدراما والسينما المصرية، في المُقدّمة. جاء انتشار الرجل العنّاب خلال مُفارقة غريبة، إذ امتدّت شهرته خلال عدّة أسباب، أحدها فقره الإنتاجي، على غير عادة الوفرة الإنتاجية المُعتادة في أفلام البطل الخارق، لكن البنية الحكائية للرجل العنّاب، ظلّت على نفس حالها الهوليودي، مُطرب شعبي فاشل، يمتلك لثغة تجعله مسار سُخرية، يتناول مشروبًا يُحيله إلى بطل، تم الحفاظ على محليّته وتحديد مسار سخريته في طابع محليّ.

في 2016، ظهر مُسلسل «بنات سوبر مان» الذي قدّم ثلاث فتيات خارقات، في إطار مُقارب من ناحية السخرية من مُسلسل الرجل العنّاب، وإن كان على مُستوى الشكل، لكن بُعد الجودة وأصالة خفّة الظل في الرجل العناب، كان مفقودًا في بنات سوبر مان.

بدءًا من 2021، ظهر اهتمام مشروعي بالبطل الخارق في السينما العربية، أخرج بيتر ميمي فيلم «موسى»، باعتباره أول حلقة ضمن مشروع سينمائي يؤسس لكوكبة أبطال خارقين عربيين، على نفس نهج مارفل ودي سي.

المجموعة التي بدأ بها بيتر ميمي فيلم مُوسى، أطلق عليها مُبكرًا «المستضعفون»، مُسمّى يُدلل مُبكرًا على استقطاب نفس قاعدة الصناعة الأمريكية للبطل الخارق، إذ يبدأ البطل من فقد كبير، اجتماعي أو نفسي، ويكون مركز قُوى مستضعفًا، ثم ينتقل إلى رحلة الكمال البطولي.

من هنا، يُمكننا الانتقال إلى فيلم تاج، تحديدًا في العلاقة الشكلية المكانية والإنتاجية مع فيلم «موسى». صدر ،موسى» من إنتاج تامر مُرسي، وقامت شركة سينيرجي بتوزيعه، بينما «تاج» أتى من جهة قريبة، إنتاج حُسام حُسنى.

يدور «مُوسى» في فلك مُقارب، على مُستوى الخطاب السينمائي، لفيلم تاج، لكن مع فوارق في الجودة التقنية لصالح المُخرج بيتر ميمي، الذي يجيد نقش تقنيات الفيلم الأمريكي في التصوير. صدر مُوسى من إنتاج تامر مُرسي وتوزيع سينيرجي المُقرّبة من المؤسسة حاليًا، بينما تاج وزّعته نفس الشركة، وأنتجه حُسام حسنى. في العاصمة، ينتقم مُوسى لأبيه من الأعداء، بصناعة روبوت إعجازي، بينما تاج، يُنقذ الجميع، وينتصرُ على الشرّ، في القاهرة أيضًا.

حالة الاستثناء

يتبيّن من النماذج المذكورة والعلاقة بين البطل الخارق الأمريكي ونُسخته العربية، على حالة من الالتزام المبدئي، من قِبل السينما المصرية، بالخطوط العريضة لمشروع أبطال هوليوود الخارقين. المسار القصير الذي اتخذته السينما المصرية في هذا المجال، يجعلها مُحددة بالإطار الأولى لهوليوود، إذ تعملُ أفلام الأبطال الخارقين حاليًا، على بدء مرحلة عكسية –مُضمّنة داخل امتداد النموذج السردي التقليدي- يخوضها الأبطال الخارقون، مثل فيلم باتمان في العام الماضي، الذي انطلق من عكس الانتصار، إذ ظهرت العزيمة بُبعد كوني يشملُ العالم. البطل الخارق في السينما المصرية، على اختلاف سياقات إنتاجه وطبيعة تقديمه، يظل بكامله جُزءًا مُستنسخا من مراحل البطل الأمريكي، لكن مع ظهور فيلم «تاج» لتامر حسني، فقد دخلنا في حيّز الاستثناء، أو تحديدًا، إستثناء مُمّيز بالرداءة.

في مُفتتح فيلم «تاج»، يحضر تامر حُسني أستاذ الموسيقى، اجتماع مدرسي، تحضرُ فيه زميلته في الوظيفة وحبيبته المُستقبلية، يدخُل «تاج» في حوارٍ، أشبه بإعلان وصائي، أقرب منه إلى حوار سينمائي، وتتم الدعوة على لسان تاج، إلى أفكار مُطلقة وعمومية وساذجة، مثل جُملة «لازم نشغل أولادنا بحاجة مفيدة»، أو إنهاء الحوار بالضرورة مُنتصرًا.

الانطباع الأولي لدى البطل الخارق، عالميًا أو عربيًا، طالما كان محصورًا في فخّ التعاطف، فيجب على الشخصية الخارقة، أن تبدأ من مساحة أقل من العادي، حيّز يكون التعاطُف فيه واجب، حتى تتحقق من خلاله نقطة الكمال في النهاية، لكن في حالة تاج، فإن النموذج الثابت لتامر حُسني، في السينما أو خارجها، يقتحم حيّز النقصان الحاضر دراميًا في فقده للأهل وتربيته في ملجأ أيتام، ويُحيل صفات شخصية إلى فضاء تعويض ذلك الفقد، فهو رغم كل ذلك، ومُنذ أول ثانية، قادر على الانتصار، بخاصة في المُواجهات النديّة.

خلال رحلة تاج، يتم تجهيل كل ما حوله وتقليل أي سياق حتى وإن كان ضروريًا مُتعلّقًا بتطعيمات واقعية للشخصية، لصالح أي أداة تُعزّز من كمالية البطل الخارق وأسبقيته حتى على الأبطال الآخرين، يتطور «تاج»، سريعًا، مُعلنًا الأفضلية داخل الفيلم، وهي تمتدُ إلى الواقع، من خلال جُمل مشمولة بشخص تامر حُسني في الفضاء الواقعي.

حصرية البطل العربي الأول والأقوى، التي جاءت على لسان أحمد بدير، الجدّ الكبير في عائلة الأبطال التي أتى منها تاج، حضرت مُبكّرًا، قبل حتى أن نُدرك بخبرة المُشاهدة مزيدًا من مشاهد تاج الخارق، وربما لذلك ظهر الفيلم خارج في بعض جوانبه عن السياق المُعتاد للبطل الخارق، فهناك حاجة تتعاظُم مبكرًا لإثبات الأفضلية دعائيًا، وامتدت حتّى المشاهد التي انتقى فيها تاج زيّه وعلامته التُجارية، وهنا تُبلور رحلة «تاج»، كشخصية خارجة عن الإطار الرمزي السينمائي، ومُمتدة أكثر خلال الفضاءات الدعائية، لمُنتج، يلزمه الترويج كي يتحقق.

على حساب ضروريات درامية، سواء أولية أو تفصيلية، يتمُ مدّ مزاج السباق وتحقيق الصدارة، حتى على حساب الشخصيات المُحيطة، لصالح تاج. نعرفُ في الفيلم لمحات فرعية من كل شيء، إذ تمُرّ الأزمات سريعًا، وتشغلُ الشخصيات حيّزًا أكبر في حياة تاج، إن أراد ذلك، بنفس السرعة، وعند اللحظة الاستثنائية الدارجة، ينفردُ «تاج» بالصدارة، بالخطاب الشعبوي المُفعم بجُمل الإطلاق والتعميم وملمحُ الحكمة.

حتى في صورة البطل الضد، استمرت أولية الصدارة، لتجعل الشرّ المُطلق، أخًا لتاج، الخيّر الوصائي في كُل شيء، نرى نفس شخصية تاج، وهي ذاتها تامر حسني، لكن بعيون مُلوّنة، وحدّة ساذجة ومُفتعلة، تفهمُ التمثيل على أنّه ليس أكثر من حزقٍ شُعوري.

أستعيدُ حفلة السينما التي حضرتها، والإناث الجالسات جوارًا إلى بعضهنّ، يضحكن على حكايات شخصية، ومن وقت لآخر، عندما تكون هناك بادرة لجُملة مُميّزة، ساخرة أو جادة، يقولها تاج في الفيلم، يستدرن جميعًا نحو الشاشة، وكأن السياق الفيلمي مُناسب مُشاهدته، مستقطعًا، في أي وقت. تبيّن هذه الحالة التي تُمثّل بقاء الإعجاب بأفلام تامر حُسنى ونجاحها تجاريًا، الحاجة الشديدة إلى نموذج شعبوي، تتمثّل مُطلق كماله في أفلامه السابقة لتاج، وتتحقق كُليًّا في الفيلم المذكور. ذلك النموذج، تشتبك لغته مع قطاعٍ مُجتمعي واسع يحتاجُ سماعها، وحينما يرى الشخصية المُعتادة في حُلّة جديدة، خارقة، فإن حاجز التطلّع سيزول، ويكون هُناك حالة من التوّرط، بفعل الوسيط السينمائي حتى وإن كان رديئًا، في هذه الحالة المأمولة.

لا تتعلّق الرداءة الحاضرة بقوّة في تاج، بالبُعد الفنّي فقط، رغم أن الفيلم طفح بسهولة وفقر سينمائي، تقني وجمالي وواقعي، لكن التحقق الأكثر سعة للرداءة يأتي من الخروج عن السياق، «فتاج» ليس «مُوسى»، لأنّه أول الخارقين وأقواهم. وليس الرجل العنّاب، بطبيعة الحال، لأنّ تاج يُناسبه أكثر السُخرية من شخصية جانبية، تُشبه الرجل العنّاب مثلًا، مع شريطة أن تتنازل هذه الشخصية الجانبية عن أي رصيد في الحضور.

يتمثّل الخروج عن السياق في إطار، هو حماية بالضرورة بحُكم الظرف السياسي الراهن، حركة تاج ضد أخيه، جاءت في إطار مؤسسي، باعتبار أن الأول هو الأمل الوحيد، وأن الأشرار لا تنتهي، ومن يُمكنه التصدّي غير تاج؟ وأي فضاء مكاني أنسب لهذا الصراع ؟ لا بديل عن القاهرة.

نهايةُ، تكشفُ رداءة فيلم «تاج» عن نفسها، حينما يُحلّق الأخير في فضاء القاهرة، وهي تظهرُ بنايات أسمنتية ضخمة، مكان مُكتظّ ومُصاب بتخُمة تلغي بياناته الأساسية كمكان. يتحقق «تاج» في فضاء يلغي التحقق، أو يعتبره استثناء، ويأتي التفاعل الشعبوي من قِبل المُشاهد، بأن هذه الشخصية الاستثنائية، جديرة ببطولة استثنائية في مكان يُجيد سحق العادي.