تراجع البورصة المصرية: هبوط مؤقت أم سقوط حر؟
شهدت الإسكندرية تأسيس واحدة من أقدم البورصات المتخصصة في تجارة القطن في الشرق الأوسط عام 1883. وبعد مرور 20 عامًا على تأسيس بورصة الإسكندرية، تم تأسيس بورصة القاهرة في 1903، وانضمت كل من البورصتين تحت جهاز إداري واحد باسم البورصة المصرية أو بورصتي القاهرة والإسكندرية CASE.
في هذا التقرير نعرض لأهم اللاعبين في البورصة المصرية في الوقت الحالي، وأبرز الشركات المقيدة، وكذلك نتتبع أداء البورصة المصرية منذ إنشائها حتى الآن مع التركيز على التراجع الأخير الذي شهدته البورصة، مؤخرا، والذي اقتضى إغلاق التداول لمدة نصف ساعة بعد هبوط مؤشر EGX 100 بنسبة تفوق الـ5%.
أهم اللاعبين في البورصة المصرية في الوقت الحالي
يمثل المصريون 76% تقريبًا من إجمالي المتعاملين بالبورصة المصرية، في حين يمثل العرب والأجانب 12% لكل منهما على حدة. وينقسم هؤلاء المتعاملون إما إلى أفراد بنسبة 42% تقريبًا، أو مؤسسات بنسبة 58%.
تعكس هذه الأرقام واقعًا مفاده: ضعف معدلات الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر من خلال سوق المال من ناحية، وضعف معدل مشاركة الأفراد مقارنة بالمؤسسات، التي غالبًا ما تكون بنوك، من ناحية أخرى.
لم تتغير هذه النسب على مدار السنوات القليلة الماضية، ولكن اختلافات طفيفة طرأت على كل فئة خلال الفترة الأخيرة؛ فقد باتت المؤسسات المحلية أكثر ميلًا للاستثمار قصير المدى بدلًا من الاستثمار متوسط المدى، أما المؤسسات الأجنبية فهي كانت وما زالت تركز استثماراتها على المدى المتوسط.
أما عند الحديث عن المستثمرين الأفراد، فنجد أنهم يتقدمون في السن، بمعنى أن البورصة لم تجذب أجيالًا جديدة من الشباب على مدار السنوات الماضية، حيث يغيب عنصر الشباب بشكل شبه كامل عن البورصة المصرية في الوقت الحالي، وذلك لأسباب كثيرة أهمها غياب ثقافة الادخار طويل الأجل من خلال البورصة في مصر، إلى جانب انخفاض مستويات المعيشة بشكل جوهري، بشكل أدى إلى صعوبة الادخار بشكل عام.
أهم الشركات المدرجة بالبورصة
يوضح الجدول التالي أعلى 20 سهم تداولا في البورصة المصرية خلال الفترة أبريل – يوليو 2019، حل البنك التجاري الدولي CIB في المرتبة الأولى مستحوذا على 14.5% من قيمة التداول خلال هذه الفترة، وهي ضعف نسبة القلعة التي حلت في المرتبة الثانية، وتليها بقية الشركات كما في القائمة أدناه.
اللافت للنظر هنا هو أن هذه الشركات تنتمي إلى ثلاثة قطاعات فقط تقريبًا: البنوك والخدمات المالية – العقارات والتشييد والبناء – الاتصالات، في غياب كامل لكل من قطاعي الزراعة والصناعة على الرغم من أهميتهم البالغة بوصفهما محركين أساسيين لنمو اقتصادي مستدام، وهو ما يعكس طبيعة النمو الاقتصادي وما يولده من فرص عمل غير إنتاجية منذ 2013.
أداء البورصة المصرية: رحلة تدهور
كانت البورصة المصرية إحدى أبرز بورصات العالم رواجًا منذ تأسيسها حتى نهاية أربعينيات القرن الماضي، فقد احتلت المرتبة الخامسة عالميًا من حيث المعاملات وقيمة التداول عام 1907، وهو المركز الذي ظلت محتفظة به حتى ثورة 1952، لتشهد البورصة المصرية حالة من الجمود متأثرة بقرارات ناصر الاشتراكية عقب الثورة من ناحية، والاضطراب السياسي والحروب التي خاضتها مصر في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من ناحية أخرى.
منذ ذلك الحين أصبح الرواج هو الاستثناء لا الأصل، فلم تشهد البورصة المصرية سوى فترتين انتعاش فقط منذ الخمسينيات حتى الآن؛ الأولى من 1993 – 1997 بالتوازي مع بدء برنامج الإصلاح الاقتصادي في ذلك الوقت، وما تضمنه من خصخصة مجموعة من شركات القطاع العام، أبرزها شركة مدينة نصر للإسكان والتعمير المملوكة لقطاع الأعمال العام عام 1995، وهو ما أسهم في تدفق المستثمرين على البورصة المصرية.
أما المرحلة الثانية، فكانت خلال الفترة 2005 – 2008، حيث شهدت مصر مجموعة وزارية لديها رؤية اقتصادية ساهمت في تحقيق رواج اقتصادي غير مسبوق في مصر لتصل معدلات النمو إلى 7%، مدفوعة بعدد من الإصلاحات التي خلقت مناخ استثمار موات في مصر.
كان أبرزها إصدار قانون تنمية المنشآت الصغيرة عام 2004، وما تضمنه من تمكين الصندوق الاجتماعي للتنمية، الذي قام بدور بارز في دعم المشروعات الاستثمارية بشكل عام والصغيرة والمتوسطة بشكل خاص خلال هذه الفترة، وكذلك تسهيل قيد هذه المشروعات بالبورصة لأول مرة عام 2007، من خلال إنشاء بورصة النيل كجزء من البورصة المصرية خصيصًا لهذا الغرض، وهو ما ساهم في نموها وعزز فرص حصولها على التمويل اللازم من خلال سوق المال.
إلا أن هذا الرواج سرعان ما انتهى متأثرًا بالأزمة المالية العالمية عام 2008، كما لم يتثن للشركات الصغيرة والمتوسطة الاستفادة بشكل مستدام من بورصة النيل، لأسباب متعددة أهمها عدم وضوح قواعد التداول لهذه الشركات بشكل كامل، وتفضيل أكثر من 95% من الشركات في هذا الحجم العمل في الاقتصاد غير الرسمي، هروبًا من عبء البيروقراطية المصرية بما تتضمنه من رسوم وضرائب وطول الإجراءات وتعقدها.
الانهيار المديد للبورصة المصرية
تدهورت أوضاع البورصة المصرية بشكل مستمر منذ 2008 مرورا بـ 2011 لتصل إلى أدنى أداء لها خلال الوقت الحالي.
يتضح ذلك التدهور جليًا في انخفاض حجم التداول اليومي بالبورصة من 400 مليون دولار عام 2000 إلى نحو 20 مليون دولار فقط حاليا، وانخفاض عدد الشركات المدرجة في البورصة من 1071 شركة عام 2000 إلى 251 شركة فقط عام 2018.
كما تراجعت القيمة السوقية للشركات المدرجة بالبورصة كنسبة إلى الناتج المحلى من 106% عام 2007 إلى 19% فقط في 2018، وهي نسبة متدنية جدا مقارنة بدول عربية وأجنبية، حيث تصل نسبة القيمة السوقية للشركات المدرجة بالبورصة السعودية لنحو 66% من الناتج المحلي الإجمالي، و77% من الناتج المحلي بالكويت، و337% ببورصة جنوب أفريقيا.
ويمكن رد ذلك التدهور بشكل أساسي إلى تدهور مناخ الأعمال في مصر في الوقت الحالي، لأسباب أهمها مزاحمة الجيش للقطاع الخاص، وعدم وجود حافز لدى الشركات للقيد بالبورصة، أضف إلى ذلك ارتفاع معدل التضخم وأسعار الفائدة، وهو ما يدفع الأفراد إلى ادخار نقودهم بالبنوك، بدلًا من استثمارها في البورصة،للاستفادة من معدل فائدة مرتفع بمخاطرة صفرية.
النزيف الأكبر
تخلل هذا الضعف العام منذ 2008، ثلاث نوبات من النزيف الحاد وصلت إلى تراجع جميع مؤشرات البورصة بنسب تقترب أو تتجاوز الـ 5%، الأمر الذي كان يستدعي وقف التداول لمدة نصف ساعة وفقًا لما يقتضيه القانون.
كانت النوبة الأولى في نوفمبر 2012 بسبب الاضطرابات السياسية الحادة خلال هذه الفترة، أما الثانية، فكانت في سبتمبر 2014 عقب فرض ضريبة الأرباح الرأسمالية على البورصة، بينما كانت الثالثة في 22 سبتمبر 2019 متسببة في خسارة 36 مليار جنيه في يوم واحد كما يتضح من الأشكال التالية.
يعود ذلك التراجع لأكثر من عامل، منها ما هو ما متعلق بالبورصة نفسها مثل عدم وضوح ملف الضرائب على أرباح الشركات وتغيره أكثر من مرة خلال الفترة الماضية وارتفاع عبء الضريبة على المستثمرين بالبورصة، ومنها ما هو متعلق بعوامل خارجية كالحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة والتخوف من الدخول أزمة اقتصادية عالمية جديدة، ومنها ما هو متعلق بالتوترات السياسية بمنطقة الشرق الأوسط بالتزامن مع استهداف أكبر مصفاة للنفط في السعودية، أحد أهم حلفاء النظام المصري سياسيًا واقتصاديًا.
أضف إلى ذلك موجة الاحتجاجات التي شهدتها مصر خلال الأيام الماضية. البورصة شديدة الحساسية لمثل هذه الأحداث التي أثارت حالة من الضبابية في المشهد الاقتصادي والسياسي، فلا أحد يعلم على وجه التحديد ما هي الإجراءات التي ستتخذها الحكومة خلال الفترة القادمة، هل ستتراجع عن بعض إصلاحاتها الاقتصادية متخذة تدابير تخفيفية؟ أم أنها ستمضي قدما متسببة في مزيد من الغضب الشعبي؟ هذه الضبابية هي العدو الأول للاستثمار الذي يعتمد بشكل أساسي على القدرة على التنبؤ.
ما يزيد الأمر سوءًا هو أن طبيعة النمو الاقتصادي الذي خلقته الدولة خلال الفترة الأخيرة يعزز من هذه الضبابية ويكرسها، وذلك لارتباط جميع قطاعات الاقتصاد النشطة في الوقت الحالي بشكل مباشر بالدولة، فالجيش هو اللاعب المهيمن على القطاع العقاري والتشييد والبناء، كما أن الحكومة تحصل على حوالي 80% من الائتمان المصرفي في مصر.
وبناء عليه فإن أي إشاعات تتعلق بالجيش أو تهدد احتمالية استمرار الحكومة في برنامجها الاقتصادي سيؤثر بشكل مباشر على البورصة، خاصة الأفراد المصريين أصحاب الاستثمار قصير الأجل، والذين يسيطر البيع العشوائي على قراراتهم الاستثمارية بخلاف المؤسسات التي تعتمد على استراتيجيات محكمة فيما يتعلق بأوقات البيع والشراء.
ما يؤكد هذه العشوائية في سوق المال المصري هو اتجاه المصريين إلى الشراء مرة أخرى في جلسة اليوم التالي بعد هجمة البيع العنيفة، ربما اعتقادا بأن هذه المظاهرات لن تفضي إلى شيء، على الأقل في المدى القصير، وربما هم مستثمرون آخرون يرغبون في استغلال انخفاض أسعار الأسهم للشراء بهدف تحقيق أرباح سريعة بمجرد ارتفاع الأسعار. ليعود التراجع إلى تسيد الموقف مرة أخرى في اليوم الثالث مدفوعا بمبيعات واسعة، هذه المرة من الأجانب.
على أية حال، وفيما يتعلق بتأثير هذا التراجع على الاقتصاد المصري ككل، فمن المرجح أن يكون محدودًا، لضعف دور البورصة في الاقتصاد، حيث لا تمثل جميع الشركات المدرجة في البورصة سوى 15 – 19% من الناتج المحلي الإجمالي كما أشرنا أعلاه، خاصة في ظل ضعف الدور التمويلي للبورصة المصرية، واستخدامها كأداة للمضاربة في المقام الأول، وهو ما يحصر الأثر السلبي لهذه الانخفاضات على المتعاملين في البورصة بشكل أساسي.