تونس 2019: هل يتكرر السيناريو المصري في تونس؟
في تونس، رفض الفريق أول رشيد عمار قائد أركان جيش البر الامتثال لأوامر الرئيس بن علي، وإصدار الأوامر لقواته بقمع الانتفاضة أوائل عام 2011. على الأرجح أدرك قائد الأركان أن قواته التي لا يزيد عددها على ثلاثين ألف رجل إذا ما وُضعت في مواجهة مع انتفاضة بحجم تلك التي شهدتها البلاد في الأيام الأولى من يناير، يُرجح أن تتمرد وتصطف إلى جانب المتظاهرين، كما أن القمع الدموي من قوات الشرطة لم يؤدِ سوى إلى تأجيج الغضب الشعبي، علاوةً على أن الأمر كان فُجائيًا ولم يكن النظام العربي بعدُ طور آلية للتعامل معه.
وصلت الإشارات لابن علي، ومفادها أن المحتجين لم يعودوا يقبلون بالعودة إلى ما كانوا عليه في السابق، وأن الجيش ربما يتدخل لعزله والانقلاب عليه، وقال بن علي كلمته الشهيرة «فهمتكم» ثم رحل. قبِل نخبة السلطة المعادلة الجديدة وضحّت بطغمة بن علي، وهو الأسلوب الذي تنتهجه أغلب نخب السلطة إذا ما وُضعت تحت ضغط يهدد مصالحها السياسية والاقتصادية، ويقوض استقرارها على رأس الدولة، ونخبة السلطة كما عرفها عالم الاجتماع، رايت ميلز، هي مثلث السلطة الذي يسيطر على الدولة، ويتألف من نخب العساكر والسياسيين وطبقة الرأسماليين. ظنت هذه النخبة أن بإمكانها إعادة النظام بعد التضحية بالرئيس ابن علي، أسرته والدائرة القريبة منه، لكن استمرار الاحتجاجات والاعتراض على أول حكومة بعد الثورة، حكومة محمد الغنوشي، آخر رئيس وزراء في عهد بن علي، والذي أتى به الجيش ليشكل حكومة وحدة وطنية قادرة على لملمة الأمور، وكان الموج أعتى من السفينة.
استمرت الاحتجاجات حتى بلغت ذروتها في الـ27 من فبراير/ شباط،وشهدت العاصمة تونس موجة كاسحة من التظاهرات فرضت تغييرًا أكثر جذرية، رحل رئيس الوزراء وحكومة الوفاق الوطني وحُلت المؤسسات السياسية والقمعية للنظام المخلوع – التجمع الدستوري الديمقراطي (الحزب الحاكم)، والبرلمان، وأمن الدولة، ووكالة الخابرات – واستبدل رئيس الوزراء بأحد أعضاء الحرس البورقيبي القديم، الباجي قايد السبسي، الرجل المسن، الذي كان اختياره لقيادة المرحلة بمثابة إعلان الدولة إفلاسها من النخب، وعجزها عن إشباع حاجة الجماهير.دخلت البلاد في مرحلة جديدة أكثر جذرية، في أكتوبر/ تشرين الأول من نفس العام، بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي، المنوط به صياغة دستور جديد للبلاد، والذي عمل بعد إتمام هذه المهمة كمجلس تشريعي للبلاد، حاز حزب النهضة الإسلامي أكثرية مقاعده، مما مكنه من تشكيل ائتلاف حكومي ثلاثي، عرف باسم الترويكا، (كلمة روسية تعني العربة التي يجرها خيول ثلاثة)، ضم الائتلاف حزب النهضة الإسلامي، والذي أوكل إليه منصب رئاسة الوزراء، وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية ومثله في السلطة، المنصف المرزوقي رئيسًا للجمهورية، وحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، والذي آلت إليه رئاسة المجلس التشريعي، لكن هذه الترويكا ما لبثت أن أخفقت في تحقيق طموحات الشارع التونسي، وسلمت السلطة بعد هزيمتها في انتخابات 2014، وهي اللحظة التي شهدت المنحنى الهابط للوجود الإسلامي في السياسة العربية. تداول السلطة مثّل في هذه اللحظة ذروة نجاح الثورة التونسية، في ظل العجز الكبير عن تلبية غالبية المطالب الاجتماعية والاقتصادية الأخرى.
كان بديل هذا التحالف أن حل الحزب المؤسس حديثًا على يد الباجي قائد السبسي أحد الحرس البورقيبي القديم، نداء تونس، في المرتبة الأولى في انتخابات 2014، وحدثت أول عملية انتقال سلمي للسلطة بما يوحي بداية مطمئنة لرسوخ الديمقراطية في تونس، لاسيما وأن هذا التداول تزامن مع انقلاب على الحكومة المنتخبة في مصر، والمحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين، واشتعال الحرب الأهلية السورية التي قادها بشار الأسد ليبقى في السلطة، أمام ثورة خرجت عليه كآخر من لحق بقطار الربيع العربي، وشهدت تلك الأيام الأخيرة من عام 2014 أيضًا بداية الانقلاب الحوثي على حكومة عبدربه منصور هادي، حيث الفتيل الأول للأزمة اليمنية الممتدة.
نداء تونس الذي كان قد تشكل في عام 2012 لصد المد الإسلامي السياسي، وجد نفسه بعد الانتخابات في تحالف مع حركة النهضة التي حلت ثانيًا في الانتخابات، بعدما فقدت أغلبيتها، وخسرت ما إجماليه 20 مقعدًا تشريعيًا (حصلت على 69 مقعدًا بعدما كان لديها 89 مقعدًا عام 2011)، لكن هذا التحالف الحكومي إلى الآن وكما يقول مراقبون محليون لم يوفِّ تطلعات شعب تونس، وهو ما يودي بالبلاد إلى نفق مظلم.
شبح السيناريو المصري
مؤكد أن أي من ثورات الربيع العربي لم تنجح حتى الآن في تحقيق الحلم الشعبي، الذي انطلقت من أجله الشرارة الأولى للثورة، العيش والحرية والكرامة، لكن أربعة نماذج احتاجت لتقويضها أساليب خشنة، مصر وسوريا واليمن وليبيا،وبقيت تونس بعيدة عن هذا المسار، أولًا، لأن جيشها كان ولا يزال بعيدًا عن السياسة، ولا يُقصد بالشبح المصري الانقلاب العسكري على الديقراطية، وإنما الفوضى التي عمت الشارع السياسي عام 2012، والتي أودت بمؤسسات الدولة إلى الفشل والشلل التام قبل أن يستعيد العسكر فردوسهم، ويسطون على السلطة بكامل أركانها، وثانيًا، لابتعادها عن المحور الخليجي جغرافيًا، والذي يعتبر أي تغيير في دول الجوار القريب هو بمثابة تهديد لممالكهم العائلية ذات الطابع القبلي البدائي، وثالثًا، لأن تونس بوابة رئيسية للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، واستقرارها ضمن الأولويات الأوروبية الملحة.
سبتمبر/ أيلول من عام 2013، أطلق الرئيس التونسي حينها، منصف المرزوقي، من قاعة الأمم المتحدة نداءً طالب فيه بالإفراج عن الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، وجاءه الجواب سريعًا من أبوظبي، التي استدعت سفيرها لدى تونس للتشاور، واعتبرت نداء المرزوقي تدخلًا فجًا وغير مدروس في شأن دولة ذات سيادة بحجم مصر. فهم الرد الإماراتي على امتداد خيط بدأته أبوظبي ببغض الربيع العربي ورغبتها في التصدي لرياحه منذ بداية هبوبها، ومع دخول السبسي لقصر قرطاج أخذت العلاقات في التحسن شيئًا فشيئًا، لكن الإمارات كانت تبغي من جراء توطيد العلاقات مع السبسي إقصاء الإسلاميين (حركة النهضة) من الحكم، وفض التحالف معهم. التحالف الذي انفض العام الماضي، بعدما فازت النهضة بانتخابات البلدية التي أجريت في يوليو/ تموز.
لم تجر الرياح بما تشتهي السفن، إثر تفكك حزب نداء تونس على يد ابن الرئيس الطامح لخلافة أبيه، والذي هندس انقلابًا على حكومة الشاهد، بعدما سطر لنفسه زعامة داخل حزب نداء تونس، مع عدد من رجال الأعمال المحسوبين على نظام ابن علي، وخلع يساريي الحزب، وعلى رأسهم أمينه العام السابق محسن المرزوقي، وفيما بعد حاول خلع يوسف الشاهد معتبرًا حكومته السبب في الاحتقان السياسي، لكن الشاهد متترسًا بدعم النهضة، استطاع الاحتفاظ بمنصبه.
ومع أن حركة النهضة الإسلامية باتت لها أغلبية البرلمان، والمحليات، ويُنتظر أن تفوز بانتخابات هذا العام لحظة رحيل الباجي السبسي عن السلطة إلا أن المشهد يبدو مشحونًا بالتوتر السياسي، مصحوبًا بفشل اقتصادي – اجتماعي، ولا يكاد يمر شهر إلا والشارع التونسي على موعد مع تظاهرات بطول القطر وعرضه.
شبح الأزمة الاقتصادية
طول ثماني سنوات مضت، كان الهاجس الاقتصادي هو المسيطر على عقل وقلب رجل الشارع التونسي، ولما تعددت الاضطرابات العمالية وتعطل الإنتاج في مجالات الدولة الحيوية كتصدير الفوسفات والسياحة على سبيل المثال، انخفض مخزون الدولة من العملة الصعبة، وعجزت في بعض الأحيان عن طمأنة رجل الشارع العادي.
لجأت الحكومة التونسية في مايو/ آيار 2016 للاستدانة من صنوق النقد الدولي، واضطرت في المقابل لتنفيذ ما اتفقت عليه مع الصندوق من سياسات اقتصادية تقشفية؛رفعت أسعار الوقود 4 مرات، والغاز 5 مرات، والأسوأ أنها تعهدت بألا تزيد الأجور حتى نهاية العام الحالي 2019، مع سعيها لتسريح قطاع من موظفي الدولة. وهذه السياسة مع تكهنات بتعويم الدينار، إثر تآكل قدرته الشرائية، تؤدي بالاقتصاد التونسي إلى حالة من التضخم، واتساع شرائح الفقر والبطالة.
عدم الاستقرار السياسي إلى جانب الاقتصاد المتوحش أودى بالبنى الاجتماعية التونسية إلى عدم الاستقرار، وتزايد معدلات الاحتجاجات اليومية في العاصمة وضواحيها، ويُضاف إلى كل هذا، شبح الإرهاب الذي يهدد أحد أهم قطاعات الدولة التونسية، السياحة.
ما يراد لتونس، هو نفسه ما أريد لكل دول الربيع العربي، لكن مع تداول السلطة في عام 2014 باتت الأساليب الخشنة لإفشال الثورة غير مرجحة، أساليب أخرى لا تزال تُبدي نجاعة، وهو ما نحذر منه ونحن على أعتاب التداول الثاني للسلطة.