الثورة المصرية، هل أفشلتها التدخلات الإقليمية؟
اعتاد الناس أن يقرأوا عن تدخلات القوى المتوسطة والكبرى في الدول الصغرى أو محدودة النفوذ، لكن على مدار العقد ونصف الماضي برزت أدوار قوية للقوى الصغرى لا يمكن المرور عليها مرور الكرام أو القفز عليها، هذه الأدوار ليست من دول صغرى في دول صغرى أخرى، بل أيضا في دول أكبر حجما ووزنا في العلاقات الدولية.
على مدار السنوات الخمس الماضية من عمر الثورة المصرية، تبادلت الأطراف السياسية المصرية التهم حول الدعم الخارجي لأيها، وظهرت روايات عدة للثورة ذاتها إلا أن الرواية الرسمية السائدة والمؤيدة بأحكام قضائية، هي اعتبارها مؤامرة من قبل قطر وحماس وحزب الله اللبناني لقلب نظام الحكم، ووفقا ل منطوق الحكم في قضية اقتحام السجون فقد «شارك في التآمر على مصر وتنفيذ المخطط الإجرامي كل من حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني وبعض العناصر الجهادية من بدو سيناء، ودليل ذلك اجتياح الحدود الشرقية للبلاد وتفريغ الشريط الحدودي من قوات الشرطة والاعتداء على المنشآت الشرطية والحكومية والوصول إلى أقوى السجون المصرية وأشدها تحصينا واقتحامها».
هذه هي الرواية السائدة رسميا والتي يتردد صداها بأكثر من شكل وعلى لسان الصوت الواحد للإعلام المصري منذ الثلاثين من يونيو 2013، لكن قلة من حاولوا استقصاء دور القوى الإقليمية في دعم مسار الثورة نفسه أو أيٍّ من القوى المعبرة عنه.
الخليج العربي مواقف مضطربة ومسارات متعرجة
تباينت مواقف دول الخليج من الثورة المصرية على مدار سنواتها الخمس الماضية ما انعكس على طبيعة العلاقات، فبدت جيدة من جانب قطر التي كانت ترغب في علاقات طيبة مع مصر الثورة حتى سقوط نظام الرئيس الأسبق محمد مرسي، وبدت فاترة أو متوترة من جانب دول أخرى لا تمتلك نفس الرغبة، أو لعلها تمتلك هواجس ومخاوف إزاء سياسات مصر الجديدة ومواقفها، وبينما بدت فاترة في البداية من قبل الإمارات والسعودية إلا أنهما منذ الثلاثين من يونيو وحتى وفاة الملك عبدالله أبدتا دعما غير مسبوق لترتيبات الثالث من يوليو 2013 وما تبعها من سياسات، إلا أن السياسات الخليجية تجاه الثورة في المجمل اتخذت أحد مسارين:
مسار الرفض ثم التأييد المتحيز للسلطة:
عند انطلاق شرارة الثورة المصرية وحتى لحظة إعلان تنحي مبارك عن الحكم وتسليمه السلطة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة كانت جميع دول الخليج باستثناء قطر تقف إلى جانب النظام وتصف قنواتها المظاهرات بأعمال الشغب والتخريب والفوضى العامة وتركز على الاحتكاكات بين الشرطة والمواطنين وتنقل فقرات كاملة عن التليفزيون الرسمي المصري وحتى بعد التنحي كانت تمعن في استضافة أعضاء بارزين في الحزب الوطني. في المرحلة الانتقالية الأولى إبان حكم المجلس العسكري.
اختارت بعض دول الخليج دعم أطراف متناقضة للتأثير على مسار الثورة المصرية لكي يصب في صالحها سواء باستقرار شبكات مصالح قديمة ترتبط بعلاقات وثيقة بها كما فعلت الإمارات العربية المتحدة، إذ دعمت نظام المجلس العسكري ثم دعمت مرشح النظام السابق «أحمد شفيق» ثم استضافته لاحقا بعد سقوطه في الانتخابات، أو بدعم شبكة مصالح تراها قيد التشكل وتتنبأ لها بمستقبل مستقر كما فعلت قطر، أو التردد بين دعم هذه الأنظمة دعما وحدودا في مقابل ترتيبات إقليمية جديدة، انعكس ذلك على حجم المعونات والمنح والقروض التي قدمتها أو امتنعت عن تقديمها هذه الدول من فترة لأخرى.
أيضا كانت مجمل تحركات القيادات السياسية الخليجية وتصريحاتها تشي بدور قوي في التأثير على مسار الثورة المصرية برمتها وليس فقط مستقبل طرف من أطرافها، إذا بدا من التسريبات التي بثتها قناة الجزيرة مدى التنسيق بين قيادات في النظام الحالي وقيادات إماراتية للترتيب لأحداث سياسية كبرى في الثورة المصرية.
أما السعودية فاختارت التردد في دعم كافة الحراكات الثورية ثم دعمت على استحياء نظام المجلس العسكري في مصر، وتوجست من نظام الإخوان المسلمين، وبالذات من احتمالية التقارب مع إيران إلى أن طمأنها النظام المصري بأن «السعودية حاضنة الحرمين الشريفين وراعية مشروع الإسلام الوسطي السني، أن مصر هي حامية لهذا المشروع، وما بين الراعي والحامي أنساب وصهر»، إلى أن جاءت تسريبات ويكليكس للخارجية السعودية لتثبت أن الراعي كان ذئبا وأن الحامي كان فريسة سهلة لهذا الذئب، سواء من خلال إثارة موضوع إطلاق صراح مبارك مقابل فدية بوساطة المخابرات العامة لدى قيادات الإخوان، أو من خلال طوابير طالبي التمويل السعودي من الإعلاميين المصريين المعروفين بعدائهم لنظام الإخوان.
ثم تحولت المملكة بعد وفاة الملك عبدالله إلى سياسة التوجس من نظام ما بعد الثالث من يوليو 2013 والذي بادلها ذلك على الأقل في البداية حيث التراشق الإعلامي والصحفي المبطن والصريح من كلا الجانبين، إلا أنها توصلت لتوافقات مصلحية معه في التحالف العربي في اليمن في مقابل تقديم المزيد من الدعم المالي بالتنسيق مع بعض الشركاء الخليجيين، إلا أن النظام الحالي بدا ذكيا في تركه مسافة بينه وبين السعودية مع التزام لفظي بالأمن القومي لدول الخليج وتدخلات محدودة بمقابل تدفقات مالية أضعاف ما استجلبه سابقوه.
مسار التأييد ثم الانحياز لأطراف سياسية:
وقفت قطر موقفا مبدئيا من ثورات الربيع العربي- باستثناء الحراك الشعبي في البحرين- بالدعم المعنوي عن طريق التغطية الإعلامية القوية للثورات أثناء موجتها الأولى حتى سقوط الأنظمة بحكم انتشار ومصداقية الجزيرة العالية لدى الشعوب العربية حتى منتصف العام 2013، هذا الموقف ظهر جليا في تغطيات قناة الجزيرة لأحداث الثورة المصرية وقاد لإغلاق مكاتبها في القاهرة إبان حكم المجلس العسكري، ثم اعتقال العديد من صحفييها فيما بعد الثلاثين من يونيو 2013، وكذلك تصريحات وتحركات المسئولين القطريين بعد الثورة.
يضاف إلى هذا الموقف التركي الذي شكل مع الموقف القطري ظهيرا إقليميا لحكم الإخوان المسلمين في مصر، لكن هذا الدعم سهل عملية وصم حكم الإخوان المسلمين بـ«حكم المرشد» إذ تركزت تحركات الإخوان الخارجية والحكومات التي شكلها الرئيس مرسي في هذا المحور، وبعد سقوطهم شكل هذا الموقف عقبة أمام أية محادثات سياسية ممكنة مع النظام الجديد، وأعطى شرعية لمقولات المؤامرات الخارجية ضد مصر.
السؤال البديل: ماذا لو لم تحدث التدخلات الإقليمية على هذا النحو؟
من مجمل التدخلات الخليجية تحديدا في الثورة المصرية يمكن استخلاص أنه تم استبدال مشروطيات دولية بمشروطيات خليجية جديدة تتمثل في ربط تدفقات الاستثمارات والمعونات والمنح والقروض بتغييرات سياسية أو بدعم لمسار على حساب المسارات السياسية البديلة تمثل ذلك في المشروطية الإماراتية- السعودية منذ التنحي وحتى انتخابات مجلس الشعب المصري الأول بعد الثورة في 2011 حيث تدفقت مجموعة من المنح والقروض والاستثمارت أو الوعود بها بمشروطيات تحجيم نفوذ الإخوان في مصر والمنطقة، كما تم تقديم معونات ومنح وقروض واستثمارات قطرية-تركية لضمان مشاركة فاعلة للإخوان المسلمين في المسار السياسي السائد باعتبارهم التيار الأكثر تنظيما وأهلية لقيادة المرحلة، والحقيقة أن كلا المشروطيتين غذّتا الاحتقان السياسي الداخلي في مصر وأدّتا إلى حدة الاستقطابات.
استفاد المجلس العسكري وكذلك نظام مرسي والنظام الحالي في حفظ استقراره مؤقتا من هذه الأموال الخليجية لكنها لم تكن أبدا الحل للمشكلات الاقتصادية الهيكلية المتمثلة في التوجه العام للاقتصاد، وإصلاحات جذرية للخلل في توزيع الدخول والأجور والثروة في البلاد، ذلك الخلل المتراكم والذي ساهمت الأموال الخليجية ذاتها في تراكمه واستقرار الأنظمة القائمة عليه لعقود، الدليل على ذلك احتدام الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر هذه الأيام.
لو لم تقدم هذه القروض والمنح والاستثمارات بتلك المشروطيات ربما شعر المسؤولون المصريون بحقيقة الأزمة الاقتصادية الهيكلية وأداروا نقاشا جديا مبكرا حول جوانب هذه الأزمة والسياسات المرتبطة بها، ولربما أعادت القوى السياسية الرئيسية التفكير في هذه الأزمة والمسارات الأمثل للخروج منها بدلا من الانهماك في ترتيبات سياسية هشة دون تغيير حقيقي للأسس الاقتصادية والاجتماعية للنظام الذي قامت الثورة ضده والتي لا تزال أسبابها قائمة.
اقتراب مرسي من السعودية في مرحلة ما وتصريحه بأن مصر والسعودية حاميتا الإسلام السني، جلب لمعارضيه المزيد من مواطن النقد لسياساته باعتباره يدشن سياسة طائفية في المنطقة، كما أن المزيد من الدعم للنظام الحالي جعله يبدو وكأنه التابع المطيع لتطلعات المال الخليجي في تسهيله لقوانين اللاستثمار وطرحه لمشروعات مليونية تنفذها شركات خليجية وبدا متعجلا في مسلسل تقزيم مصر.
وبشكل عام ساهم الاستقطاب الإقليمي الحاد بين المحور القطري التركي من جهة والمحور الإماراتي السعودي من جهة أخرى، بقدر لا يستهان به ولا يقل أهمية عن العوامل الداخلية، في إفشال مسار الثورة المصرية، وعدم قدرته على الخروج من نفق الدولة الدينية والعسكرية إلى نمط الدولة المنحازة للفقراء والفئات المهمشة أو حتى القادرة على مواجهة أزماتها الاقتصادية والاجتماعية المؤجلة لعقود.